الرئيس الأوكراني دعا المواطنين جميعًا للاستعداد لحرب عصابات. زيلنسكي يعتمد في مواجهة الغزو الروسي على استراتيجية العسكرة الشاملة، كما سماها هو. الاستراتيجية تعتمد على مبدأ حرب شاملة تقوم بها المقاومة الشعبية، بجانب القوات النظامية.

دعوات الرئيس لاقت صدى واسعًا في أوساط الشعب الأوكراني، فبدأ عامة الأوكران في التطوع للقتال. وأظهرت مقاطع الفيديو المئات منهم يحضرون قنابل المولوتوف. بعد أن بث التلفزيون الأوكراني الرسمي وصفة صناعة كوكتيل المولوتوف المضاد للدبابات منزليًا. كما تقول الحكومة الأوكرانية إنها وزعت 18 ألف بندقية على متطوعين في العاصمة كييف أبدوا رغبتهم في القتال.

والأهم أن 50 ألفًا من قوات الميليشيا السابقة بدأت في التدريب مرة أخرى استعدادًا للدخول في المعركة بجانب الجيش النظامي. على رأس الميليشيا روسلان بوستوفويت، الشهير بالعنكبوت. العنكبوت قضى 16 عامًا في السجن بتهمة سرقة روؤساء المصانع، كما كان ضابط مخابرات في الجيش النظامي وحصل على العديد من الأوسمة.

كوّن العنكبوت الميليشيا الأولى عام 2014 حين عجزت القوات النظامية عن الدفاع عن شبه جزيرة القرم. وشارك في القتال في منطقة دونباس بجانب القوات النظامية، ولم يُعتبر العنكبوت ولا رجاله خارجين عن القانون، بل مُنح وسام بطل الشعب الأوكراني عام 2017.

فوجود ميليشيا العنكبوت وغيره مهمة للجيش الأوكراني المتألف من 250 ألف مقاتل لا يكفون لتأمين كافة أوكرانيا أمام الغزو الروسي. وقد وضعت الحكومة تلك الميليشيات المتطوعة تحت قيادة الحرس الوطني لإضفاء بعض النظام والسيطرة قدر الإمكان على مجريات الأحداث.

الروس جرّبوا أفغانستان

تلك الدعوات وانضمام الميليشيا القديمة، تنذر أن سقوط العاصمة كييف قد لا يعني نهاية المطاف. فالمتطوعون والميليشيا ساخطون على الجيش النظامي المتهالك الذي لم يستطع حماية الأراضي عام 2014، ولم يستطع أن يقهر الروس في 2022. لذلك فمن الصعب أن يعترف هؤلاء بما سيحدث للجيش، أو يخضعوا لقراره بالاستسلام للجيش الروسي. فسوف يجد الروس أنفسهم في مواجهة حرب عصابات طويلة الأجل، تخوضها عصابات جيدة التسليح، ولديها دافع قومي قوي للقتال على النقيض من بعض الجيوش النظامية.

صحيح أن قنابل المولوتوف لن تقدر وحدها على قهر الوجود الروسي، إلا أن أطرافًا قد يهمها إطالة أمد الحرب سوف تعمل على تسليح المتطوعين والميليشيا. والتاريخ يؤكد أن قوات المقاومة الشعبية إذا أمسكت بالسلاح الجيد وحصلت على تعاطف حكومة خارجية واحدة، فإن بإمكانها التصدي للغزو. وقد أظهرت بعض المقاطع المسربة تدريبات للمدنيين منذ شهر ديسمبر/ كانون الأول 2021 على نظام حرب العصابات تحسبًا لسقوط كييف.

والروس أنفسهم يشهدون بذلك في قتالهم مع الأفغان، الذين أمدتهم الولايات المتحدة وباكستان بالسلاح لسنوات، وفي نهاية الأمر نجحوا في طرد الروس. ثم طرد القوات الأمريكية لاحقًا. والقوات الأمريكية نفسها تكبدت خسائر ضخمة في العراق بسبب قوات المقاومة الشعبية والضباط السابقين في الجيش العراقي، رغم أن الجيش العراقي سقط رسميًا في الأيام القلائل الأولى للغزو الأمريكي للعراق.

وكلما كان الجيش الغازي أكثر وحشيةً اشتدت المقاومة الشعبية وزاد الدافع وراء طرده. خصوصًا أن أوكرانيا دعت كافة الذكور البالغين للتطوع للقتال. مع الوضع في الاعتبار أن عددًا منهم بالفعل قد اكتسب خبرة عسكرية من محاربة الانفصاليين الروس لمدة 8 سنوات. ويمكن لتلك الخبرات السابقة أن تزيد من تعقيدات الوجود الروسي في أوكرانيا عامةً، وفي كييف بخاصة.

خصوصًا أن دول الشمال الأوروبي تنتهج المقاومة الشعبية كعقيدة عسكرية وليس كحل طارئ يتم اللجوء له إذا فشل الجيش. فدائمًا ما توجد برامج تشجع المدنيين على امتلاك أسلحة، وبرامج تدريبية لهم على استخدام الأسلحة وعلى المقاومة حال وقوع غزو على البلاد.

السوفييت يكرهون القصيدة

تلك العقيدة الشعبية بالمقاومة حتى الرمق الأخير تتجلى في حالة التغني بالنشيد الأوكراني التي ظهرت في الأيام الماضية. فأظهرت مقاطع الفيديو امرأة تغني النشيد الوطني وهي تحاول إخراج مقتنيات بيتها من تحت الأنقاض بعد الهجوم الروسي. فكان صوت النشيد الوطني هو الصوت الوحيد الظاهر في المدينة التي صارت مسكنًا للأشباح والصمت. النساء والأطفال في الملاجئ تحت الأرض، والرجال على جبهات القتال، ولا شيء في شوارع أوكرانيا إلا مكبرات الصوت الصادحة بالنشيد الوطني.

النشيد الوطني نفسه يعبر عن المقاومة الأوكرانية للسيطرة الروسية. فقد ظل الأوكران ينشدون الأغاني الروسية أثناء الحصاد والقتال. ويستخدمون الترنيمات الروسية في الطقوس الدينيية. إلا أن بافلو تشوبينسكي، المولود عام 1839، لم يعجبه ذلك. التحق بافلو بكلية الحقوق في سان بطرسبرج، وبدأ يكتب في العديد من الصحف الأوكرانية، فالتقى غالبية الأدباء والمفكرين الأوكرانيين.

لم تمت أوكرانيا بعد ولا المجد ولا الحرية،
 سيبتسم لنا القدر،
 نحن الإخوة القوازق،
 يفنى أعداؤنا،
كالندى في الشمس،
 ونحافظ نحن على أرضنا

بافلو انضم إلى جمعية الإنعاش الوطني الأوكراني. الجمعية السرية اهتمت بشكل أساسي بتعليم الفلاحين، وبتطوير الأدب الأوكراني ومحاولة خلق هوية خاصة به. ومن بين ما اقترحوا كان إنشاء ترنيمات أوكرانية خالصة، وكتابة نشيد وطني يحث الجميع على المقاومة ضد الروس. كتب بافلو قصيدته الأشهر، أوكرانيا لم تمت بعد، مستلهمًا إياها من النشيد الوطني البولندي ومن أغاني متمردي الصرب.

بالطبع تم نفي بافلو إلى أرخانسجلك بتهمة مناهضة الإمبراطورية الروسية، والدعوة إلى استقلال أوكرانيا. لكن بعد عدة شهور في النفي تمكن الرجل من تهريب القصيدة إلى بولندا، ونُشرت هناك. وجدت القصيدة قبولًا في أوساط المثقفين الأوكرانيين، والتقطتها أذن المُلحن مايكل فيرتسيكي، فمنحها لحنًا غربيًا. فجرت القصيدة على ألسنة الجميع.

عقيدة

بعد عام من نشرها دخلت القصيدة أوكرانيا في مسرحية كوميدية. توقفت المسرحية بسبب تأثر الناس بالأغنية، وبدأت تثير نفوس المطالبين بالاستقلال والحرية. انتشرت القصيدة أكثر، وتُرجمت للإنجليزية والألمانية. وحين سقط الاتحاد السوفيتي وبدأت أوكرانيا رحلتها الشاقة في الاستقلال رافقت الأغنية كافة المناضلين، وصارت نشيدهم الرسمي من دون مرسوم رسمي بذلك.

حين استعاد الروس السيطرة على أوكرانيا مرة أخرى كرهوا نشيدها الوطني الجديد. اعتبروه قصيدة برجوازية متطرفة. وطوال سيطرة الاتحاد الروسي اختفى النشيد الوطني الأوكراني. لكنه عاد مرة أخرى للحضور بعد انهيار الاتحاد السوفتيي وعُزفت في القصر الوطني للفنون. وفي ديسمبر/ كانون الأول عام 1991 وافق الشعب الأوكراني على استقلاله عن الاتحاد السوفيتي في استفتاء شعبي.

وبعد ذلك الاستفتاء بعام واحد وافق المجلس الأعلى الأوكراني على نسخة قصيدة بافلو المُلحنة نشيدًا وطنيًا للبلاد. ورفعت البلاد كذلك عملها الملون بالأزرق، إشارة للسماء، والأصفر، إشارة للقمح الذي تشتهر به أوكرانيا. لكن عام 2003 اعترض البرلمان الأوكراني على النزعة التشاؤمية التي تطغى على النشيد. واعترض أعضاء البرلمان على كلمة القوزاق الموجودة في النشيد، لأنها كأنما توضح أن الشعب الأوكراني ليس من أصول أوكرانية.

أقيمت عدة مسابقات لتعديل النشيد وحذف كلمة القوزاق وصار النشيد الحالي

لم تمت أوكرانيا ولا المجد ولا الحرية،
 سيبتسم لنا القدر،
 نحن الإخوة الأوكرانيين،
يفنى أعداؤنا، كالندى في الشمس،
 ونحافظ نحن على أرضنا.

فمن النشيد يبدو الصراع مع الروس صراعًا أكبر من السيطرة على الأرض، بل صراع وجود وهوية. لهذا فإن عامة الأوكرانيين وقواتهم النظامية لا يتعاملون مع الأمر من الناحية العسكرية فحسب، بل عقيدتهم الخاصة هي من تحركهم لرفض الوجود الروسي حتى لو قبلت به القيادة السياسية أو بات أمرًا واقعًا على الجميع، لذا على الروس أن يتوقعوا حربًا طويلة الأمد إذا طال الوجود العسكري الروسي في أوكرانيا.