بلغت الأزمة الأوكرانية ذروتها عقب اعتراف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رسميًا باستقلال جمهوريتي الدونباس «دونيتسك ولوغانسك» التي يسيطر عليهما انفصاليون موالون لموسكو، ثم السماح لقواته بغزو بقاعٍ محددة في أوكرانيا، وهي خطوات أثارت انتقادات دولية عارمة.

رغم كل هذا، لا تزال ترى تحليلات غربية أن كل التحركات الأخيرة لا تعني إلا أن بوتين يسعى لتجنُّب الحرب الشاملة،وهو ما أعلنته بالفعل المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن الإجراءات الروسية الأخيرة “ليست بداية حرب، بل محاولة لمنع وقوع حرب عالمية شاملة”، وعلى الأرجح فإن نطاق تلك العمليات لن تتجاوز جنوب شرقي أوكرانيا دون أن تمتدَّ لباقي المدن الكبرى.

بدايات الأزمة

حتى 2014، كان يحكم أوكرانيا رئيس موالٍ لموسكو، حتى اندلع ما يعرف بـ «الثورة البرتقالية» وخرج أنصار روسيا من السلطة لحساب حكومات موالية للغرب، ليعلن انفصاليون مدعومون من روسيا في منطقة دونباس، شرقي البلاد، الاستقلال عن كييف، وتشكيل جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبيتين. ومنذ ذلك الحين بدأ الصراع المسلح، الذي تفاوتت حدته من سنة لأخرى.

دعمت روسيا الانفصاليين بالتأكيد، لكنها تبنت إستراتيجية انتظار الفعل الأوكراني لتكون هي في موضع رد الفعل. كييف من ناحيتها لم تقدم على تحرك عسكري بحق الإقليم الانفصالي، لكن بوتين كان يسعى دائمًا إلى إجبار أوكرانيا على منح الانفصاليين في شرق البلاد «وضعًا خاصًا» ودستوريًا. 

من جهة أخرى، ترى روسيا أن رغبة أوكرانيا في الانضمام إلى الناتو خطر على بلاده وعلى نظامها السياسي، إذ سيصل بالحلف إلى عتبات بلاده.

ومنذ أبريل 2021، تحتشد القوات الروسية في شبه جزيرة القرم المحتلة، وعلى الحدود مع شرق أوكرانيا بالقرب من دونيتسك دون أي تحرك هجومي. لكن خلال شهري أكتوبر ونوفمبر، بدأ حشد إضافي ضخم للقوات الروسية في المنطقة. وبنهاية 2021، قدمت روسيا قائمة مطالبها لوقف التصعيد، والتي تركزت على وقف توسع الناتو في أراضي الاتحاد السوفييتي السابق، وتقليص المساعدات العسكرية لأوكرانيا. لكن الولايات المتحدة رفضت مطالب روسيا في منتصف يناير، مقدمة حزمة اقتراحات محدودة لم تلب طلبات موسكو الأصلية.

حيلة حافة الهاوية 

مع اشتداد التوتر، رجحت بريطانيا والولايات المتحدة لجوء روسيا لهجمات «الراية الزائفة» كذريعة لغزو جارتها، بعدما اتهم الانفصاليون المدعومون من موسكو، الجيش الأوكراني، بشن سلسلة من الهجمات، مطالبين المدنيين في المناطق التي يسيطرون عليها بالإخلاء.

لكن معظم التحليلات الغربية افترضت أن بوتين يطبق سياسة حافة الهاوية؛ أي دفع الأمور إلى أقصى تعقيد ممكن لفرض قائمة طلباته على الناتو، الذي سيضطر للاستجابة تخوفًا من اندلاع ما قد يتحول إلى أضخم حرب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

وافترض محللون كذلك أن بوتين يلعب بالوقت لشراء أكثر ما يمكن أن تجلبه لغة التصعيد من الناتو؛ باعتبار أن هدفه الأساسي هو فرض تغيير ذاتي في أوكرانيا يعيد النظام السابق الموالي لروسيا، ومن ثم إعلان التخلي عن طموح الانضمام إلى حلف الناتو، بما يعنيه ذلك من إبعاد الغرب عن حدود روسيا. 

روسيا لا تحتمل حربًا طويلة

الآن، يقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة بوسان الوطنية، روبرت كيلي،بأن روسيا لا تحتمل تنفيذ عملية طويلة الأمد، فقريبًا جدًا سيحلُّ فصل الربيع ومعه ستظهر العديد من العقبات اللوجستية.

ويقول كيلي إن احتمال اندلاع حرب في أوراسيا في فصل الربيع شبه منعدمة لوجستيًا؛ إذ تبدأ ثلوج الربيع في الهطول بكثافة، ما يضع عقبات أمام خطط تحريك القوات، بخلاف العقبات الإيوائية المؤكدة التي ستعرقل استمرار حشد آلاف المجندين على الحدود، في حالة تأهب قصوى مستمرة.

وبالنظر للوضع الاقتصادي المترهل في روسيا، يجادل كيلي بأن موسكو لا تستطيع تحمل تكلفة إطعام كل هؤلاء الجنود وإبقائهم في مخيمات مؤقتة.

بالتالي، فإن حسابات العائد والتكلفة عائق أمام دفع القوات الروسية إلى داخل كييف، خصوصًا مع بدء فرض العقوبات الغربية بالفعل، واحتمالات مؤكدة بمضاعفتها حال تحريك القوات على الأرض.

النخبة العسكرية الروسية تشعر بعدم الارتياح الشديد للصراع المقترح. رئيس الاستخبارات الروسية نفسه بدى متوترًا عندما سأله بوتين على الهواء حول رأيه في قرار الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين؛ فصحيح أن الجيش الروسي يمتلك اقتصادًا منفصلًا عن اقتصاد الدولة سيجنبه السقوط تحت سيف العقوبات الغربية؛ فإن الزج بالجيش إلى أوكرانيا لن يعتمد في المقام الأول على القوات الخاصة التي ستقتصر مهمتها على الوصول سريعًا إلى قلب أوكرانيا، لتترك بقية المهمة إلى المجندين الأقل تدريبًا، خصوصًا بعدما استدعى بوتين قوات الاحتياط محدودة الجهوزية، والتي تقول تجارب تاريخية، خصوصًا في أفغانستان، إنهم سيواجهون صعوبات ضخمة في مواجهة التمرد الذي يتوقع أن يستمر لسنوات في أوكرانيا حال الغزو.

وفي تحليله للتصعيد، يرى مدير مركز دراسات المجتمعات ما بعد الصناعية في موسكو، فلاديسلاف أينوزيمتسيف، أن أي غزو واسع النطاق قد يبشر بسقوط الاتحاد الروسي الحالي؛ لأن الغزو يعني تحمل تكاليف بشرية باهظة قد تترك أثرها داخل موسكو مع توافد جثث المجندين إليها، خصوصًا بعدما تورط بوتين، بدون قصد، في تنشيط الشعور القومي الأوكراني، ما يعني أن روسيا إن دخلت ستواجه حرب عصابات طويلة الأمد.

5 أسباب تمنع الحرب الشاملة

في تحليلها، لخصت بي بي سي 5 أسباب ستمنع بوتين من اتخاذ قرار غزو أوكرانيا:

1. الدم

أوكرانيا ستقاوم، على الأقل في البداية. صحيح أن القوات الروسية تفوق قواتها عددًا وعدة، لكن هذا لا يعني أنه لن تكون هناك خسائر فادحة في كلا الجانبين.

 وإذا شنت موسكو غزوًا واسع النطاق، واستولت على المدن الرئيسية في كييف وخاركيف وأوديسا بالقوة، فقد ينطوي ذلك على قتال شوارع طويل الأمد ومكلف، حيث سيكون الأوكرانيون على أرضهم.

2. بلا شعبية في روسيا

أظهر استطلاع حديث لشباب روس أن الأغلبية كانت تعارض شن حرب ضد جارهم السلافي؛ حيث احتمال موت أعداد كبيرة من الروس والأوكرانيين في حرب من اختيار بوتين وعودة الروس إلى ديارهم في توابيت سيترك أثرًا سلبيًا للغاية على بوتين في بلده. 

3. العقوبات الغربية ستكون مؤلمة

سيعتمد مدى عمق التهديد بالعقوبات الغربية، في جميع الاحتمالات، على مدى عمق دخول روسيا إلى أوكرانيا.

وبقدر ما يتحدث القادة الغربيون عن إجماع الناتو، فإن الحقيقة هي أن ألمانيا والمجر، على سبيل المثال، اللتين تعتمدان إلى حد كبير على الغاز الروسي، ليستا متشددين مثل بريطانيا.

لكن العقوبات تبقى مضرة بالاقتصاد الروسي الصغير نسبيًا، خاصة إذا تعرض للتجميد خارج النظام المصرفي السريع كما يدعو البعض.

ويعتقد السناتور الأمريكي كريس مورفي أن بوتين في وضع ضعيف للغاية، وأن أي غزو محتمل لأوكرانيا سيكون كارثيًا بما يكفي لتدمير الاقتصاد الروسي، وربما حتى الإطاحة بالرئيس بوتين.

4. التكلفة السياسية الباهظة

عندما غزت روسيا شبه جزيرة القرم وضمتها في عام 2014، باتت منبوذة دوليًا لسنوات. وهو ما سيتكرر هذه المرة لكن بسيناريوهات أسوأ. فحتى الصين، حليف روسيا الإستراتيجي، حذرتها من غزو أوكرانيا.

5. بوتين قال كلمته بالفعل

من خلال التحركات الأخيرة، جذب بوتين اهتمام الغرب إلى الأضرار التي تراها روسيا من النظام الأمني في أوروبا بعد الحرب الباردة، والذي أخل بتعهد الناتو بعدم التوسع شرقًا باتجاه حدود روسيا، إذ ضم جميع الجمهوريات السابقة ودول أخرى من حلف وارسو إلى الناتو، قبل أن تتجه أنظار الحلف إلى أوكرانيا على حدود روسيا مباشرة.

بوتين يريد تغيير الوضع. وبحسب غانم نسيبك، الزميل الزائر الأول في جامعة هارفارد، فإنه يريد التفاوض على صفقة أمنية جديدة ولكن من موقع قوة. وبطريقة ما نجح بالفعل جزئيًا، عندما تحدث ماكرون عن ضرورة وضع نظام أمني جديد في القارة العجوز.