منذ زمنٍ وأنا أتساءل في داخلي بين حينٍ وآخر: لِمَ لَمْ تُحفَظ الكتبُ السَّماوية السَّابقة رغمَ انتسابها إلى المصدر الإلهي نفسه الذي تكفَّل بحفظِ النَّصِ القرآني؟ وهو سؤالٌ ملِّحٌ يقفزُ إلى الذِّهنِ كلما قرأَ المرء آيات التَّحريف التي وردت في القرآنِ الكريم، مع بيانِ الحفظِ الإلهي للنَّصِ القرآني، والتَّشديد على ذلك، بما يوحي افتراق الأمر بينَ القرآنِ والكتب السَّابقة.

إنَّ حكمة الله اقتضت هذا الأمر، فهو الخالقُ العَالِم بأحوالِ خلقه، وما يُصلحهم، والأنفع لهم:

«لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ»
سورة الأنبياء – أية 23.

ومن الأمور التي رأيتُ أن أُشِيرَ إليها قبل النُّفوذ إلى بعضِ الأسباب في الإجابةِ عن السُّؤال الجوهري لهذه المقالة، مفهوم «الهيمنة للنَّصِ القرآني» وعلاقته بالحفظِ الإلهي دونَ الكتبِ السَّابقة.

«وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ»
سورة المائدة – أية 48.

فآية الهيمنة قد اختزلت جميع المؤشرات والأدلة التي تبينُ عظمة القرآن الكريم وجلاله وحجَّته، ومن ثمَّ اختزلت من منطقِ الهيمنة سماتٍ متعددة كالمرجعية والعالميَّة والجامعية والحاكمية، فضلًا عن الخلود، ليكونَ القرآن هو المهيمنُ على بقيةِ الكتب السَّماوية الأخرى أبدًا [1]. فمِن البديهي إذًا معرفة أنَّ النَّص القرآني جعله الله ختامًا لا ينبغي أن تقترب إليه يد البشر بالعبثِ والتَّحريف، ولأجلِ ذلكَ تكفَّل بحفظه، وهيَّأ الأمَّة لسلوكِ سُبُلِ الحفظِ بهدايةٍ منه وتوفيق.

ويلزم على هذا أن يكون الكتاب المهيمن معصومًا من التَّحريف؛ لأنَّ تعرضه له يُفقِدُه هيمنته على بقيةِ الكتب السَّماوية من جهة، ويفقد هيمنة مضامينه على البشر من جهةٍ أخرى، وبالنتيجةِ سيُفقِدُه ذلك صفة المرجعية والحاكمية حتى ولو كان التَّحريف على نحوِ الإجمال، ومن هنا كان تأكيد الشَّارع لتبني حفظ القرآن «من الزَّيادة والنُّقصان والتَّحريف والتغيير، متكفِّلٌ بحفظه إلى آخـرِ الدَّهر على ما هو عليه فتنقله الأمة وتحفظه عصرًا بعد عصر إلى يومِ القيامة» [2]، لقوله تعالى:

«لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»
سورة فصلت – أية 42.

إذًا، القرآن بوصفه مهيمنًا يحتِّمُ بحكمِ العقل أن يكون مصونًا من التَّحريف لتحقيق مقولةِ الهيمنة التي وُصِفَ بها.

أمَّا عن الأسباب المهمة- في نظري-التي تُسهِم في الإجابةِ عن هذا السؤال، فبيانها على النَّحو الآتي:

أولًا: عالمية الرسالة

نزلت «التَّوراة والإنجيل» أو «العهد القديم والعهد الجديد» لقومٍ مخصوصين، وهم بنو إسرائيل، تحملُ وصايا في طابعها مضامين تشريعية، وقِيَمِيَّة، أمَّا رسالة محمَّدٍ النَّبي فـ«رسالة عالمية» وليست مخصوصة بقومٍ دونَ غيرهم، وبناءً على ذلك، كانَ لزامًا أن يُحفَظ النَّص الإلهي الذي يحملُ مضمون هذه الرِّسالة الخاتمة لكلِّ البشرية. ولمًّا كان القرآن الكريم هـو الكتاب المعجِز لكلِّ البشرية بحسبانِ شريعته «عالمية الدَّعوة»؛ فإنَّ هذا يُحتِّمُ أن تكون المعجزة دائمة وعقلية، وبخلاف ذلك يفقد القرآن مصداق الإعجاز، ومن هنا وجبت صيانته من التَّحريف لإثبات إعجازه.

وقد أشار مالك بن نبي- رحمه الله- في كتابه «الظاهرة القرآنية» إلى ملمحٍ عزيز، يحسنُ بي أن أستشهدَ به في مقامٍ كهذا، وذلكَ في قوله:

ولكنَّ هذا القرآن لم يكن يعتمدُ على الخوارق لأنه موجَّه لكلِّ البشرية، ومن أجل هذا كانت معجزته كتابًا دائمًا يؤدي دوره لمعالجة النَّفس الإنسانية، فنقل معجزته من مجال الخوارق الطبيعة إلى معالجة الطَّبيعة البشرية الدائمة، فكان عليه أن يحدث أثرًا في تلك الطبيعة لتهيئتها للإيمان، ومن هنا وُجِدَ عنصرانِ في القرآنِ الكريم: عنصر يتعلقُ بالنَّصِ وعنصرٌ يتعلقُ بالخطاب، ولو أنَّ القرآن كانَ قد نَزَلَ جملة واحدة، لتحوَّلَ سريعًا إلى كلمةٍ مقدَّسة خامدة، وإلى فكرةٍ ميتة، وإلى مجرد وثيقة دينية، لا مصدرًا يبعثُ الحياة في حضارةٍ وليدة. [3]

بل كانَ قد حكمَ على نفسه بالموت، إذا استحضرنا أنَّ الكتبَ السَّابقة نزلت مرةً واحدة، ولم تنزل منجمةً بحسبِ الحوادث، ومعالجة القضايا الحادثة، والتَّفاعل مع المجتمع/المتلقي لبيانِ السَّماء. فكان أن تحولت إلى كلمةٍ مقدَّسة خامدة، لم تحظَ بالحفظِ الذي يليقُ بها مع جريان الزَّمان؛ لزوالِ الدَّهشة التي يُحدِثُها النُّزول الإجمالي مرةً واحدة.

ثانيًا: الكتاب المُعجِز

لم تكن الكتب المنزلة في ذاتها تحملُ دلالة إعجازية على صِدقِ النَّبي المرسَلِ؛ لأنَّ الأنبياء السَّابقين كانت معجزاتهم حسِّية رأوها بأمِّ أعينهم بخلافِ النَّص القرآني كان هو ذاته معجزة خالدة، فهو المعجزة العقلية الوحيدة دونَ غيره مطلقًا، ولم تكن الكتب الأخرى كذلك، فعلى الرغم من تسليمِ القرآن للكتبِ السَّماوية، بأنها متفرِّدة بمضامينها لانتسابها إلى السَّماء، «فإنها لا تُساقُ بمساقِ المعجِز ولا يُنظَرُ لها كذلك، فلزمَ أن يكون هـناكَ تلازمٌ قسْري بينَ المعجز العقلي، والهيمنة بحكمِ عدم محدودية المعجز العقلي بزمانٍ أو مكان، وبمقتضى حجية المعجز العقلي الذاتية لَزِمَ أن يكون أثر الكتاب المهيمن دائمًا وعطاؤه متواصلًا وبقاؤه خالدًا». [4]

ثالثًا: تحريف بني إسرائيل للتوراة

يجدر الانتباه إلى أنَّ تاريخ بني إسرائيل مليءٌ بالأزمات، والإشكالات، والمقصود من ذلك أنهم زهدوا أو ربما لم يجدوا فرصةً للتَّفكير بحفظِ ما نزلَ إليهم، إلا بقايا بعض الرَّبانيين الذين حاولوا جمع ما استُؤمِنوا عليه، مما نزَلَ على النَّبي موسى- عليه السَّلام- بعد فترةٍ طويلة من الزَّمن أو من طُولِبُوا بذلكَ عند نزوله، وقد حكى الله عنهم بقوله:

«إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»
سورة المائدة – أية 44.

لكنهم لم يكونوا على قدرِ المسئولية التي أُنِيطت بهم. وقد أشارَ «الشّنقيطيُّ» في أضواءِ البيان، إلى أنَّ الله، تعالى، كلَّفَ الأحبارَ والرُّهبانَ بحفظِ كتابه، ولكنهم لم يحفظوا ما استُحفظوه، بل حرَّفوه وبَدَّلوه عمدًا. [5]

وقد أورد صاحبُ التَّحرير والتَّنوير لطيفةً من لطائفِ القاضي «إسماعيل بن إسحاق بن حماد»، قال: كنتُ عند إسماعيل يومًا، فسُئِلَ: لِمَ جاز التَّبديل على أهل التَّوراة ولم يَجُزْ على أهلِ القرآن، فقال: لأنَّ الله تعالى أوكل إلى أهل التوراة حفظها. وقال في القرآن:

«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»
سورة الحجر – أية 9.

فتعهَّد الله بحفظه، فلم يَجُز التَّبديل على أهلِ القرآن. قال: فذكرتُ ذلك للمحاملي، فقال: لا أحسن من هذا الكلام. [6]

رابعًا: طبيعة مُتلقي الكتب السابقة

من الأسبابِ التي ينبغي أن تؤخذَ بعينِ الاعتبار في هذه المسألة أنَّ المتلقي/الشَّخصية التي نَزلَت عليها الكتبُ السَّابقة لم تكن مُهيئة لحملِ أمانة السَّماء، لاضطرابٍ بيِّنٍ في مسلكهم، أو كما وصفهم الرَّازي بقوله: «كانوا في نهايةِ الجهل وغايةِ الخلاف». [7]

يتجلَّى ذلك حين تعلم أنَّ قومًا رأَوا البحر انشقَّ وتحوَّل إلى يابسة، ونظروا إلى عصا تحولت إلى حيَّة تسعى، وشاهدوا جبَلًا ارتفعَ فوقهم بصورةٍ مدهشة مخالفةً للنَّظر المعهود، ويموتونَ ثمَّ يحييهمُ الله، ويرونَ معجزاتٍ أخرى حسيَّة رأي العين، ويصلهم شيءٌ من آثارها، وقبلَ كلِّ ذلك، رأَوا هلاكَ الطَّاغية الذي أذَلَّهم، واستعبَدَهم… الفرعونَ الذي ادَّعى الألوهية، وأنكَرَ رسالة السَّماء، وسخِرَ من قَدرِ الإنسان؛ فجعل منهم عبيدًا دونَ الخالق، ثمَّ بعد كل ما وقعَ لهم، يقولون:

«وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ»
سورة الأعراف – أية 138.

فقومٌ مثل هؤلاء لا يُستأمَنونَ على حفظِ كتابٍ إلهي مَنَّ الله به عليهم، فما قدروه حقَّ قدْرِه.

خامسًا: محدودية نطاق الكتب السابقة

الكتبُ السَّماوية السَّابقة كان أثرها محدودًا بالزَّمانِ الذي ظهَرَت فيه، بمعنى أنَّ خَصِيصَةَ عبور الزَّمان والمكان، والقدرة المطلقة على البَقاء مع كلِّ المتغيرات لم تكن من خصائصِ هذه الكتب؛ لأنها نزلت لقومٍ مخصوصين في زمنٍ مخصوص، دون أن تلوح علامات الإعجاز، وآيات التَّحدي، وهذا ينسحبُ على «صحفِ إبراهيم»، و«زبور داوود»، وباقي الكتب السَّماوية الأخرى. أمَّا لماذا مخصوصة؟ لحكمةٍ إلهيةٍ هو أعلمُ بها مِن خلقِه. فهو العليمُ الحكيم.

ولما كان القرآن الكريم كتابًا خالدًا، نَزَلَ ليكونَ ختامًا لكلِّ الكتب، ومصدِّقًا لها، ومهيمنًا عليها، أدركنا أننا أمامَ نصٍّ قرآني أُريدَ له الخلود، لا الجمود في لحظةٍ زمنيةٍ معينة. وجزء من إطلاقيته وديمومته أنه قابلٌ لإعادةِ التَّنزيل والتَّأويل في كلِّ وقت؛ بما يتناسبُ مع الأسئلةِ والإشكالات التي يطرحها كل زمانٍ ومكان.

سادسًا: خَتْم النُّبوة

من أهمِّ الأسباب، ولعله أهمها، مسألة «خَتْم النُّبوة»، فالنُّبوة خُتمَت بالنَّبي- صلى الله عليه وسلم- ومن مقتضيات ذلك، ختمُ الكتابِ المنزل، فإمَّا أن يحفظَ الله كتابه الذي ارتضاه كتابًا أبديًا سرمديًا للبشرية، وإلا كانت الحاجة ملحَّة إلى نبيٍّ جديد، يأتي بكتابٍ آخر، أو يرمم ما سبقه؛ لإقامة الحجَّة على الخلق:

«مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا»
سورة الإسراء: أية 15.

وختمُ النُّبوة مرتبطٌ بسنَّةٍ إلهيةٍ كونية، وهي سنَّة «التَّدرُّج»، إذا اعتبرنا أنَّ البشرية تدرَّجت في مسيرها، فعاشت في مرحلةِ «طفولة»، ومن ثمَّ «مراهقة» في عهدِ بني إسرائيل، ثمَّ دخلت البشرية في مرحلةِ الرُّشد، والنُّضج المعرفي والنَّفسي، لتكون مؤهلةً لتلقي كلمة الله الخالدة إلى البشرية، واستئمانهم عليها. [8]

إذًا بقاء حجَّة الله على البشر بسببِ انقطاعِ النُّبوة، يقتضي «الديمومة» للكتابِ الذي جاءَ حاملًا للرِّسالة الخاتمة، كما تحملُ فكرة «ختم النُّبوة» دلالة ضمنية أنَّ البشرية وصلت إلى مرحلةِ النُّضج فليسوا بحاجةٍ إلى أنبياء تسوسهم كبني إسرائيل، فاكتفوا بنبوَّة محمَّد، والقرآن العظيم:

«أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»
سورة العنكبوت – أية 51.

لعلي تعرضتُ– أو هكذا أظن- لشيءٍ من الإجابة عن هذا السؤال، وحتمًا ثمَّة حِكَم أخرى وأسباب عديدة علِمَها من عَلِم، وجهِلَها من جَهِل، وهذه محاولةٌ عابرة للتَّصدي لهذا التساؤل الملِحِّ، والمشروع، الذي أثبتَ أنَّ القرآنَ الكريم في ذاته بيانٌ معجِز، وهو ذاته معجزة النَّبي الكبرى، ولأنَّه كانَ كذلك، كتبَ الله له البقاء ببقاءِ الخليقة، وارتضاه كتابًا خاتمًا؛ كما ارتضى النَّبي محمَّد رسولًا خاتمًا.

ختامًا

يجدرُ بي أن أُنَبِّهَ أنَّ عملية توثيق وجمع المصحف، من أوثقِ العملياتِ العلمية التي تمَّت وأشدِّها تعقيدًا، وجميعُ المحاولات الكبرى التي قامَ بها «الاستشراق» وغيره للتَّشغيبِ على هذه القضية باءت بالفشل، فقد عَمَدُوا إلى التَّشكيكِ في قضيةِ «جمْعِ القرآن»، وصحته، وثبوته، وجهدوا أنفسهم للوصولِ إلى بيانِ نقصانه وتحريفه؛ ليتسنى لهم «هدم» البنية النَّصية التي تقومُ عليها «أمَّة النَّص القرآني»، إذ لا حاجة لشيءٍ إن أظهروا تحريف القرآن، وامتداد يد البشرِ إليه، فهو معْلَمُ الاستدلال، وبيانُ الإله للبشرية الممتدة حتى قيام السَّاعة.

ومن الأمور المتفقِ عليها، أنَّ أي نص سواء أكانَ دينيًّا أو أدبيًّا أو تاريخيًّا لا بدَّ للتَّعامل معه أن نتحقَّق من هُويته، ومن صحَّةِ نسبته إلى مصدره، «وقد أبدعَ المسلمون نظامًا عظيمًا يتحققونَ به من صحَّة نسبةِ الكلامِ إلى قائله، واشترطوا لقبولِ الخبر شروطًا صارمة طِبْقَ قواعدِ علومِ الحديث والرِّواية» [9]، وهذا من إلهامِ الله، ومن ملامحِ التَّوفيق لهذه الأمة للقيامِ بعملياتِ التَّوثيق والحفظِ لكلامِ الله، مع أنَّ القرآنَّ العظيم قد كفانا الله مؤونة حفظه:

«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»
سورة الحجر – أية 9.

إلا أنَّ الجهد العلمي المبذول الذي قامت به الأمة على مر تاريخها، كانَ سببًا من أسبابِ الحفظِ الإلهيِّ لكتابه. فالقرآن قد نقله جمعٌ عظيمٌ غفيرٌ لا يمكن تواطؤهم على الكذبِ ولا وقوع الخطأ منهم صدفة، وهذا الجمع الضخم ينقل القرآن عن جمعٍ مثله، وهكذا إلى النَّبي- صلى الله عليه وسلم- وذلك يفيد العلم اليقيني القاطع بأنَّ هذا القرآن هو كلام الله تعالى المنزَّلِ على نبيه- صلى الله عليه وسلم- وهذه خصوصية ليست لغير القرآن من السَّماء؛ فإنَّ الكتب السَّابقة لم يتح لها الحفظ في السطور ولا في الصدور، فضلًا أن تنقل بالحفظِ نقلًا متواترًا جيلًا عن جيل، أمَّا القرآن فقد جعل الله فيه قابلية عجيبة للحفظ [10]، كما قال تعالى:

«وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»
سورة القمر – أية 17.

إذًا نحنُ أمام كتبٍ سماوية استحفظَ اللهُ أصحابَها، وأَمَرَهم الإله أن يحوطوها من التَّحريف، وأن يحفظوها من العَبَثِ والنِّسيان؛ لكنهم لم يفعلوا، لأنهم لم يكونوا أهلًا لحفظِ رسالةِ السَّماء، أمَّا النَّص القرآني فتعهَّدَ الله بحفظه، وشَرَعت الأمَّة في حفظه من الضَّياع والتَّحريف، مع أنها لم تُطالب صراحةً بذلك، ومن هنا نفهمُ معنىٰ من معاني «خيريةِ الأمة»، وقدرتها على حفظِ رسالةِ السَّماء، باعتبارها أهلًا لهذا التَّكليف؛ ووصولها مرحلةً من النُّضج الذي جعلها تبتكرُ علومًا وطرقًا تُسهِمُ في حفظِ الكتابِ الإلهي، وتصونه من أيّ زيادةٍ أو نقص… وهي أحد تجليات قِيَمِ «الأمر بالمعروف» التي اتصفت بها الأمة دونَ غيرها من الأمم.

المراجع
  1. طلال فائق الكمال، «نظرية الهيمنة في القرآن الكريم»، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، ط1، 2016، ص 710.
  2. مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي: 4/ 14.
  3. مالك بن نبي، «الظاهرة القرآنية»، دار الفكر- دمشق، 2014، ص211.
  4. نظرية الهيمنة في القرآن الكريم، ص 712.
  5. محمد الأمين المختار الشنقيطي، «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن»، (6 / 133).
  6. محمد الطاهر بن عاشور، «التحرير والتنوير»، دار سحنون للنشر والتوزيع – تونس – 1997م، (6 / 209).
  7. محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي المعروف بالفخر الرازي، «تفسير الفخر الرازي»، دار إحياء التراث العربي، (1 / 2047).
  8. أفدتُ هذه الفكرة من أخي المفضال الدكتور «كمال القطوي».
  9. عبد القادر الحسين، «معايير القبول والرد لتفسير النص القرآني»، ط2، دار الغوثاني للدراسات القرآنية، 2012، ص65.
  10. المرجع نفسه، ص65.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.