العالم كله يتحدث عن التنين الصيني، وأنه بات ينازع الولايات المتحدة على زعامة العالم سياسيًا بعد النمو المستمر في اقتصاده خلال العقود الأخيرة، خصوصًا في الفترة التي أعقبت أزمة العالم الاقتصادية في 2008، والتي انتهت بخروج الولايات المتحدة مديونة للصين بتريليونات الدولارات.

كُتب كثيرًا عن الصعود المدوي للصين، كذلك أشير إلى العودة الروسية للمنازعة في القضايا الدولية في ظل حكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشهير باسم القيصر والذي كشر عن أنيابه عسكريًا باجتياح جورجيا عام 2008 واحتلال شبه جزيرة القرم عام 2014. فضلًا عن التدخل العسكري في الحرب السورية ودعم نظام بشار الأسد رغم أنف المجتمع الدولي.

اقرأ أيضًا: الكتالوج الصيني: طريق طويل لسيادة العالم

لكن هناك قوى صاعدة مهملة من قبل المراقبين رغم أنها تمتلك قوة مسلحة عظيمة واقتصادًا مزدهرًا دائم النمو مثل الهند، درة تاج الإمبراطورية البريطانية سابقًا والأرض التي من أجلها جاب المستكشفون العالم للبحث عن طرق أفضل للوصول إليها.

الهند كانت وحتى مطلع العقد الأخير من القرن العشرين دولة فقيرة يحكمها نظام اشتراكي صارم، ومع تطورات الاقتصاد العالمي بعد انهيار المعسكر الشرقي تعرض اقتصادها لهزة اقتصادية كبرى وعجز في النقد الأجنبي وارتفاع في التضخم وهو ما أقنع سياسييها بوجوب تغيير المسار والتخلي عن مبادئ نهرو الغابرة والانفتاح الاقتصادي على العالم. قاد عملية التحول وزير المالية مانهومان سينغ الوزير في حكومة نارسيما راو، وذلك عبر قوانين وإجراءات اقتصادية قاسية تضمنت تحرير سعر العملة وبيع القطاع العام، ورغم ما سببته تلك الإجراءات من آلام للشعب الهندي وصعود قوي للمعارضة اليمينية الهندوسية فإنها في النهاية وضعت الهند على الطريق الصحيح والذي استكمله الوزير مانهومان سينغ عندما أصبح رئيسًا للوزراء في 2004.

مانهومان سينغ، الهند
رئيس الوزراء الهندي السابق مانهومان سينغ مع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما

التغير في الاقتصاد الهندي انعكس تغييرًا في السياسات الهندية الخارجية فتخلت الهند عن عدائها لإسرائيل وطبّعت العلاقات معها، كذلك اتجهت للتعاون مع إيران دون الالتفات للضغوط الدولية التي تدعو لعزل طهران. واليوم الاقتصاد الهندي تجاوز اقتصاد بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين ويهدد بشكل جدي الاقتصاد الأمريكي. يتحدث منتدى الاقتصاد العالمي أنه إذا استمر النمو الاقتصادي في هذا الصعود فإنه في عام 2040 سوف يطيح بالولايات المتحدة الأمريكية كثاني اقتصاد عالمي ليتنافس مع الصين على الزعامة.

ولما كان الاقتصاد الهندي بهذه القوة فإنه شيئا فشيئًا بات يحتاج لتأمين الأسواق لمنتجاته، كذلك بات أكثر حاجة لحماية طرق التجارة التي تمر بمنطقة الشرق الأوسط، أكثر مناطق العالم اضطرابًا، لذلك يُتوقع أن تنغمس الهند عسكريًا بشكل أكبر في تأمين الممرات المائية والسيطرة على الموانئ. وتفيد تقارير أن الهند اتفقت مع مدغشقر على منحها الحق في إقامة قاعدة عسكرية لتطل منها على جنوب بحر العرب وباب المندب، لتراقب وتحمي سفنها التجارية من اعتداءات الإرهابيين والقراصنة في هذه المنطقة المضطربة من العالم.

هناك همس بين المحللين والخبراء أن القاعدة الهندية القادمة في مدغشقر ليست لتأمين المصالح وحماية خطوط النقل، بل إنها لمواجهة مشروع طريق الحرير الصيني البحري الذي جرى تدشينه قبل سنوات والذي تراه الهند تهديدًا كبيرًا لها.

الهند في حالة عداء مع الصين بسبب النزاع الحدودي في أرونتشال بارديش 1962، والذي حدث بعد قيام الهند بمنح الحماية لدلاي لاما القائد الروحي لمنطقة التبت الصينية وقد اشتعلت مواجهات بين البلدين أكثر من مرة بسبب التعديات الحدودية، هذا فضلًا عن التعاون الصيني الكبير مع باكستان العدو الأكبر للهند والمهدد الإستراتيجي لها، هذا التعاون شمل نواحي عسكرية بين الجيش الصيني والباكستاني ونواحي اقتصادية عبر الاستثمار الصيني الكبير في ميناء جوادر الباكستاني والذي يعتبر جزءًا من مخطط طريق الحرير.

اقرأ أيضًا: ميناء جوادر: قبلة العالم الجديدة

وقد حاولت الهند الرد على ما تفعله الصين، وذلك بأمرين أولهما الاستثمار في ميناء تشابهار الإيراني المجاور لميناء جوادر، كذلك التنسيق مع الإمارات صاحبة ميناء جبل علي والمقابل لميناء تشابهار الإيراني، ومحاولة بناء مشروع مواز لطريق الحرير الصيني بالتعاون مع الإمارات والولايات المتحدة الساخطين على المشروع الصيني.

العقبة الكؤود للمشروع الهندي هي العداء الخليجي الإيراني والذي يمنع أي تعاون بين الطرفين والذي لن يغيره وجود جالية إيرانية كبيرة في الإمارات كما تروج بعض الصحف الهندية، قد حاولت الهند تجاوز هذه المعضلة بمحاولة فتح طريق للتفاهم مع سلطنة عمان التي لا توجد لديها أي حساسية للتعاون مع إيران، وقد ظهر ذلك في تصريح رئيس الوزراء الهندي مودي الذي طالب فيه رجال الأعمال الهنود بالاستثمار في الموانئ العمانية.

لكن مع كل ذلك فالمشروع الهندي لا يزال طفلًا يحبو مقارنة بالمشروع الصيني الذي لم يعد كلامًا بل واقعًا على الأرض، يُصدقه المنطقة الحرة في جيبوتي التي تم افتتاحها مؤخرًا فضلًا عن مشروع ميناء جوادر الباكستاني وخطوط السكك الحديد التي يعلن عن إنشائها بين الصين وأوروبا وبين الدول الأفريقية بتمويل صيني كامل.

لا حل للهند إلا بالتعاون الكامل مع الولايات المتحدة الأمريكية إذا ما أرادت لمشروعها أن ينجح وينافس المشروع الصيني وهذا لن يتم طالما كانت العلاقات الإيرانية الأمريكية متوترة، فالولايات المتحدة التي تفرض عقوبات قاسية ضد النظام الإيراني لن تقبل يالمشروع الهندي في تشابهار.