عملاق الطاقة الروسي شركة غازبروم قالت إنها سوف تُرسل كميات أقل من الغاز إلى أوروبا. غازبروم قالت إنها في وضع لا يسمح لها بالوفاء بالتزاماتها طبقًا لعقود الغاز المبرمة مع أوروبا. العملاق الروسي استخدم مصطلح القوة القاهرة في تبرير احتمالية قطع الغاز عن أوروبا. يشير مصطلح القوة القاهرة قانونيًّا إلى ظروف غير متوقعة تُعيق التزام أحد الأطراف عن الوفاء بالتزاماته. لكن لأنها ظروف قاهرة، لا دخل لأي طرف فيها، فلا تُطبق أي عقوبات عليه جراء إخلاله بالعقد.

بالطبع رفضت الشركات الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا، هذا المبرر. وقالت إن الشركة الروسية تزعم ذلك لمنع تدفق الغاز لأوروبا كإجراء عقابي على دعم أوروبا لأوكرانيا في حربها ضد روسيا. ومهما يكن السبب، فإن أوروبا تدرك أن تبعيتها لروسيا في الغاز تبعية مؤلمة، والتخلص من تلك التبعية أمر صعب ويحتاج فترة زمنية طويلة، وإجراءات تقشفية شديدة ستنال المواطن الأوروبي في كل جوانب حياته.

رغم أن روسيا لم توقف تدفق الغاز بشكل كامل، فإنها أخذت في تخفيض الواردات تباعًا منذ الأيام الأولى للحرب. وفي 15 يونيو/ حزيران 2022 أعلنت تخفيض النفط للثلث. كما أعلنت خفض إنتاج خط نورد ستريم من 100 مليون متر مكعب يوميًّا إلى 67 مليون متر مكعب يوميًّا. يأتي بذلك بعد خفض الإنتاجية من 167 إلى 100 مليون متر مكعب يوميًّا. كما خفضت روسيا صادراتها إلى إيطاليا بنسبة 15% منذ شهر مضى. هذا بجانب قيام روسيا بقطع الغاز عن الدول التي لم تُسدد ثمن الغاز بالروبل الروسي قطعًا تامًّا. مثل فنلندا وبلغاريا وبولندا.

تستورد أوروبا 32% من إجمالي احتياجاتها من الغاز من روسيا. تُمثل تلك النسبة زيادة كبيرة عن الإجمالي لعام 2009 الذي كان 25% من احتياجات السوق الأوروبي. قد يبدو الرقم الإجمالي قليلًا نسبيًّا، لكن الأرقام التفصيلية المتعلقة بكل دولة على حدة تكشف الحقيقة المرعبة. فنلندا مثلًا تعتمد بنسبة 97.6% على الغاز الروسي. أما بلغاريا فتعتمد بنسبة 85% على الغاز الروسي. كذلك فإن سلوفاكيا تعتمد بنفس النسبة على الغاز الروسي.

الغاز الروسي يُدفئ أوروبا

أما ألمانيا، أكبر اقتصادات أوروبا، فتعتمد على الغاز الروسي بنسبة 55%. بعض الدول الصغرى مثل ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا أعلنت توقفها عن استيراد الغاز الروسي بالكامل، اعتمادًا على مخزونها من الغاز المُخزَّن تحت الأرض. لكن قرارها لم يؤثر في حجم صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا. وتبلغ الصادرات الروسية لأوروبا 400 مليون دولار يوميًّا.

وتذهب 68% من صادرات روسيا إلى أوروبا. مقسمةً إلى 49 مليار متر مكعب إلى ألمانيا، و21 مليار متر مكعب إلى إيطاليا، و13 مليار متر مكعب إلى النمسا. ويتوزع قرابة 120 مليار متر مكعب إلى مختلف دول أوروبا.  وتعتمد قرابة 27 دولة على الغاز الروسي بما يوازي 40% من احتياجات كل دولة منفصلة.

ومع ارتفاع الأسعار العالمية ارتفعت قيمة الصادرات الروسية إلى 545 مليون دولار يوميًّا. ما يعني أن صادرات الغاز تُشكل 36% من ميزانية روسيا، وقد بلغت عائدات روسيا من التصدير 119 مليار دولار. واحتياطات موسكو من الغاز تُقدر بـ 630 مليار دولار، ما يعني أنها قادرة على الإنفاق على حربها على أوكرانيا إنفاقًا ضخمًا.

وإدراكًا من الجانب الأوروبي لمقدار حاجة روسيا لأموال الغاز، ولرغبة أوروبا في الخروج من التبعية لروسيا، وضعت الدول الأوروبية خطة للخروج من النفوذ الروسي. ووضعت المفوضية الأوروبية 225 مليار دولار لتحقيق هذه الخطة التي تعتمد بشكل أساسي على التحول لمصادر الطاقة الخضراء. وأطلقت المفوضية على الخطة اسم إعادة تقوية الاتحاد الأوروبي، ري باور إي يو.

لا أحد يحل محل روسيا

المدى القصير للخطة يهدف إلى تقليص الاعتماد على النفط الروسي بمقدار الثلثين في العام الحالي. هدف طموح، لكنه يبدو صعب التحقيق. بسبب ضعف البدائل المتاحة، وقصر الوقت المفترض إيجاد تلك البدائل فيه. كما أن التحول عن الطاقة الروسية يحتاج إلى تغيير نمط الاستهلاك لدى المواطن الأوروبي، وهو ما سيحتاج لفترة من الوقت كذلك. كما أن التحول للطاقة النظيفة سيحتاج ابتكار تقنيات جديدة تكون متاحة للاستخدام الجمعي والتجاري، وهو ما سيتطلب وقتًا طويلًا، وأبحاثًا مكثفة.

أما الهدف طويل الأمد فهو التخلص من النفط الروسي بالكامل عام 2030. لتحقيق ذلك الهدف وضعت أوروبا ثلاثة طرق، تبدو ممكنة نظريًّا. المرحلة الأولى تتضمن تحسين كفاءة الاستخدامات الحالية للطاقة من أجل ترشيد الاستهلاك. الثانية تتضمن استخدام الطاقة المتجددة كبديل للنفط والغاز. أما الثالثة فتعتمد على وجود بدائل لروسيا تحديدًا، في حالة لم تستطع أوروبا التخلي عن الوقود التقليدي بشكل كامل. تلك المراحل الثلاثة أطلقتها أوروبا بالتوازي بعضها مع بعض آملة في كسب الوقت وإنجاز الهدف في أسرع وقت ممكن.

تبدو خطة جريئة، خاصة أن أوروبا تحاول منذ 8 سنوات إنهاء اعتمادها على الغاز الروسي بعد غزوها لشبه جزيرة القرم، لكن لم تنجح أوروبا في ذلك بشكل كامل. خصوصًا أن أوروبا تركز على الخطوة الثالثة فحسب من برنامجها، خطوة البحث عن دول بديلة لتحل محل روسيا. ففي 15 يونيو/ حزيران 2022 وقعت أوروبا اتفاقية ثلاثية مع مصر وإسرائيل، لاستيراد الغاز من إسرائيل عبر مروره من أنابيب تمر بشواطئ مصر.

 لكن مهما يكن حجم الاتفاقيات فلن يستطيع أحد تعويض محل روسيا، مثلما صرح وزير الطاقة القطري، سعد شريدة. شريدة قال بأن قطر لن تستطيع تقديم الكميات المهولة من الغاز لأوروبا، وأردف بأنه لا أحد يستطيع إطلاقًا. خاصة أن روسيا مقيدة بالنطاق الجعرافي.

فمثلًا لا تستطيع روسيا الاستيراد من أستراليا، رغم أن أستراليا ترسل 99% من صادراتها الخارجية إلى آسيا. حتى اختيار قطر لتزويد أوروبا بالغاز يبدو اختيارًا صعبًا، وأمامه العديد من المعوقات، ما يجعل الغاز الإسرائيلي أقرب، بسبب الموانئ المصرية التي تجعل التصدير لأوروبا أمرًا ممكنًا.

الغاز يختلف عن النفط

غازبروم الروسية أنتجت 540 مليار متر مكعب العام الماضي. يعني أكبر من إنتاج بي بي شل، وشيفرون، وإكسون موبيل، وأرامكو السعودية، كل هؤلاء مجتمعين. لذا فاستبدال هذا الحجم يبدو مستحيلًا. لأن إنتاج الغاز في غالبية حقول الغاز يعمل بالطاقة القصوى، أو قريبًا جدًّا منها. وهو ما يختلف عن صناعة النفط المعتاد، إذ يمكن للدول المنتجة للنفط أن تزيد من إنتاجها حال حدوث اضطرابات في الأسواق.

كذلك فإن استبدال الغاز يحتاج إلى استثمارات ضخمة في البنية التحتية. النفط مثلًا يُنقل عبر ناقلات بترول عملاقة يمكنها السفر من نقطة الإنتاج إلى أي نقطة أخرى تُحدد كنقطة استهلاك. بينما الغاز يُنقل عبر أنابيب يتم بناؤها خصيصى من نقطة الإنتاج إلى نقطة الاستهلاك.

 إيران مثلًا تُنتج 291 مليار متر مكعب من الغاز، ثاني أكبر منتج بعد روسيا. لكن 280 مليار منها يتم استهلاكه محليًّا. وإذا رفعت الولايات المتحدة بعضًا من عقوباتها على إيران ربما يسمح ذلك بوصول دولي أكبر للغاز الإيراني. لكن لتحقيق إمكانية التصدير فسيجب بناء منشآت إسالة ومحطات تصدير، قد يستغرق بناؤها عدة سنوات.

أما الموردون الحاليون للغاز إلى أوروبا، مثل أذربيجان والنرويج والجزائر وليبيا، فيمكنهم الاستمرار في تقديم خدماتهم لأوروبا، عبر زيادة الإنتاج بشكل طفيف. وسوف يتحتم عليها أولًا كفاية السوق المحلي ثم التوجه للتصدير. أما باقي الدول التي فلا تربطها خطوط أنابيب مع أوروبا، فقد تضطر أوروبا لاستيراد الغاز منها في صورة سائلة. فالغاز الطبيعي المسال، فائق البرودة ومُكثف، يمكن نقله عبر السفن لا الأنابيب.

والولايات المتحدة، ثالث مصدر للغاز الطبيعي المُسال، صرحت بأن بإمكانها زيادة الغاز المسال المتوجه لأوروبا بمقدار الضعف، لكن ستظل أوروبا بحاجة لملايين الأمتار المكعبة الإضافية. أما الرهان الثاني فهو على حقل قطر الشمالي الذي تريد أوروبا توسعته ليعطي إنتاجية أكبر، لكن قطر لا تنوي البدء في تلك الخطوة قبل عام 2025.

لا مكان للرومانسية، ألمانيا مثالًا

حين تفكر أوروبا في الغاز الروسي فإنها لا تريد اتخاذ قرار مفاجئ تدفع ثمنه لعقود. ألمانيا تحديدًا تعتبر الرهينة الكبرى للغاز الروسي. فعلاقتها مع الاتحاد السوفيتي بدأت منذ الحرب الباردة، حين كان الاتحاد السوفيتي يشتري الأنابيب الفولاذية من ألمانيا مقابل الغاز. ويمدها بالغاز بأسعار تشجيعية لإغرائها بالشراء ودعم قطاعها الصناعي.  وحين دخل خط نورد ستريم1 الخدمة قررت ألمانيا تقليل الاعتماد على الطاقة النووية، والوقود الأحفوري التقليدي، ما زاد من اعتمادها على الغاز الروسي.

 فنصف الأسر الأوروبية تعتمد على الغاز من أجل التدفئة، خاصة في الفترة بين أكتوبر/ تشرين الأول ومارس/ آذار. وإذا انقطع الغاز الروسي لأي سبب فإن الحكومات الأوروبية سوف تعلن حالة الطوارئ التي يتم من خلالها توزيع الغاز بشكل عادل بين المستهلكين.

كما أن منتجي المواد الكيمائية، والصلب، والزجاج، والورق، يعتبرون من كبار مستهلكي الغاز الصناعي في أوروبا. ففي ألمانيا وحدها تعتمد صناعة الألومنيوم التي تبيع بـ 22 مليار دولار سنويًّا ويعمل بها أكثر من 60 ألف موظف على الغاز من أجل صهر المواد الخام. كما أن صناعة الورق التي يعمل بها 40 ألف موظف ومبيعاتها 15 مليون دولار تعتمد على الغاز الروسي بشكل كبير.

ما يعني أنه لو نقصت إمدادات الغاز الروسي بنسبة 30% فقط، فإن تلك الصناعات سوف تخسر نصف قيمتها. ناهيك عن سيناريو التوقف الكامل للغاز الروسي. كذلك فإن تكاليف الطاقة المستخدمة في المنازل سوف تتضاعف ثلاث مرات كحد أدنى. فقد ترتفع الفواتير السنوية لأسرة متوسطة من 1500 يورو إلى 4700 يورو. ما قد يؤدي إلى حدوث اضطرابات مجتمعية ومظاهرات قد تصبح أكبر من قدرة الدول على السيطرة عليها.