في الأيام الأخيرة من شهر كانون الثاني/يناير من عام 2020، وضعَ المُحترف المصري «محمود حسن» الشهير بـ«تريزيجيه»، اسمه على مقدمة كُل الصُحف الإنجليزية، بعد أن نجح في تسجيل هدف مُتأخر لفريقه أستون فيلا، ضد ليستر سيتي، في نصف نهائي كأس رابطة الأندية الإنجليزية، ليضع فريقه في أول نهائي منذ عام 2010.

تشير الحقيقة لكونه هدفًا عاديًا، بعيدًا عن توقيته الممتاز وأهميته البالغة، ربما سَجل تريزيجيه نفسه أهدافًا عدة بنفس الطريقة، لكنه، وعديد أهداف مثيلة سابقة، يدخل ضمن حالة واجبة الدراسة، هي حالة التعلق المُطلق بـ«تريزيجيه».

في صباح اليوم التالي لتسجيل لاعب الأهلي السابق لأي هدف، مع أي فريق أيما كان اسمه، يمتلئ ذلك الصباح بتساؤلات تبدأ أولًا بـ: «ماذا حدث؟» لأن أغلب المتابعين المصريين لا يعرفون شيئًا عن الفرق التي يلعب لها تريزيجيه، ثم ينتقل التساؤل إلى: «هل هو هدف جيد؟» مرورًا بـ: «هل ذلك الهدف مُهم؟» حتى يكون مسك الختام بمدح اللاعب متبوعًا بمقولة متكررة «يستحق مكانة كبيرة».

لأن كرة القدم أخلاق

في حين لم يُحقق تريزيجيه نفس الاستمرارية التي حققها زميله «أحمد المُحمدي» في الأراضي الإنجليزية، ولا حتى بلغ نجاح «ميدو» في توتنهام، وبالقطع لا يُضاهي موسمًا واحدًا قضاه «محمد صلاح» في ليفربول، لكن ينجح تريزيجيه فيما لم ينجح فيه أي من هؤلاء أو غيرهم: وهي لعبة الأخلاق.

يوجد مقطع مُصور من أرشيف إحدى القنوات المصرية الرياضية القديمة، «مودرن سبورت»، يظهر فيه اللاعب المِصري الشهير «محمد أبو تريكة»، بهيئته البسيطة التي لم تفارقه البتة. يخرج ذلك المقطع للنور بين حينٍ وآخر، وكأنه تجديد ميثاق الحُب لذلك اللاعب الذي لا يخرج من قلوب المصريين والعرب قط.

لقاء على قناة «مودرن سبورت» مع الأسطورة المصرية «محمد أبو تريكة» عام 2012.

لم يختلف شخص «تريكة» نفسه بمرور السنين، يتحدث بالطريقة ذاتها، تتحرك عيناه أمام الكاميرات باستمرار، يمينًا ويسارًا، أعلى وأسفل، في خجل واضح ولم ينتهِ، تلك هي الشخصية التي أحبها أنصاره حول العالم.

يمتلك لاعب الأهلي السابق تاريخًا كرويًا حافلاً على الصعيدين المحلي والدولي، لكن عددًا بسيطًا ممن يُخلدون اسمه هم من يحفظون ذلك التاريخ الكروي بالرقم والعدد، أي أن تاريخه المُقتصر على الأداء الكروي فقط ربما يضيع مع الوقت.

ورغم أنه من الطبيعي أن يشعر أي لاعب بالوحشة والظلم حين يُفقد ذلك التاريخ من ذاكرة مُتابعي اللعبة، لكن في حالة تريكة، الأمر أكبر من ذلك بكثير، لأنه، وإن تضاعفت إنجازاته الكروية، سيظل محفوظًا في الذاكرة المصرية بمواقفه الأخلاقية والأدبية، وفي ذلك يظهر تصنيف نوعي لما قد تُفضله الشعوب في تلك المنطقة.

لنقطع الشكوك بداخلك، فإن محاولة ربط تريزيجيه -أخلاقيًا- بأبو تريكة، محاولة مُستهلكة، غير مقتصرة على لاعب أستون فيلا، ولن تقتصر بالمرة. سبق أن خاض محمد صلاح تلك المحاولة ومن قبله وبعده الكثيرون.

في الواقع، فإن لعبة الأخلاق في الكرة المصرية والعربية إنما هي إجبارية الدخول، منذ أن رفعت شأن «الخطيب» و«حمادة إمام»، وخسفت بنجم «جمال حمزة» و«إبراهيم سعيد»، لأن الأخلاق في مصر ربما تأتي قبل كل شيء. أما بخصوص ربط تريكة بكل ذلك، فإن هذا يحدث فقط لأنه الطالب الأنجح في تلك المُعادلة.

«صلاح صلاح.. أوه أوه»

في مقطع الفيديو المذكور، يتشرف «تريكة» بأصوله كعامل في أحد مصانع «الطوب» المحلية في قريته، كمهنة عمل به هو وكل إخوته تقريبًا خلال مرحلة طفولته. وتلك هي طبيعته الدائمة، يتشرف بكونه أحد أفراد الطبقات الكادحة في مصر، ولم يسبق أن تنصل منهم أبدًا.

خلال عام 2016، أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إصدارًا بعُنوان «بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك» وأرفق عليه إصدار «كتاب الإحصاء السنوي»، لخص الصحفي المصري «محمد أبو الغيط»، الكاتب بجريدة «المصري اليوم»، أرقام كلا الإصدارين في عنوان شهير جدًا وهو: «يا مجتمع الـ15%، نقدم لكم: مصر».

تؤكد الأرقام الرسمية من الحكومة المصرية، والتي ذكرها «أبو الغيط» في مقاله الشهير، أن أكثر من 80% من الشعب المصري يُعاني في الطبقات ما دون المتوسطة، أي أننا في غنى عن التأكيد أن أغلب اللاعبين المصريين يخرجون من طبقات كادحة، بنفس النسبة تقريبًا.

يميل الشعب المصري في تفضيلاته للاعبين الذين يُمثلونه لكل من يمتثل لتلك الطبقة بمعتقداتها وتقاليدها الراسخة، من الدين الذي يُصنف كفطرة للمصريين وحتى للأخلاق في التعامل والكلام والألفاظ. ينجح تريكة في حل تلك المُعادلة بامتياز، لذا هو المثال الذي يُحتذى به دائمًا، وكانت المحاولات مُضنية من أجل أن يُصبح صلاح في ذلك الجانب الناجح من المعادلة، من بعد مثله الأعلى.

لكن تطبيع صلاح بهذا اللون من الانتماء للشعب المصري لم يدم طويلًا. يُشبه الأمر حدثًا مُكررًا في السينما المصرية، حين يختار أحد أفراد الشعب ارتداء عباءة تنتمي للريف المصري وملابس وهيئة تُشير إلى فلاح مصري خالص، وذلك سعيًا للوصول لمنصب برلماني عن دائرة انتخابية ما، عسى أن يظن أبناء تلك الدائرة أن ذلك الشخص يتشرف بأصله الفلاحي فيعتبرونه واحدًا منهم، ويقررون أن يُصبح ممثلهم وبطلهم.

يعد أبرز تطبيق على حالة صلاح من السينما المصرية، هي تلك التي ابتدعها المُخرج «شريف عرفة» بمعاونة الكاتب والسيناريست «وحيد حامد» في فيلم «طيور الظلام»، حين حاولوا وضع الوزير «رشدي الخيال»، والذي قام بدوره الفنان الراحل «جميل راتب»، في دور نصير الفقراء، والذي يشعر بمعاناتهم لحد بعيد.

يعتبر صلاح هو الانتصار الأعظم للشعب المصري في كرة القدم، وشاء لاعب ليفربول ذلك أو أبى، فإن الوعي الشعبوي المصري قد وضعه في صورة مُمثل الأخلاق ونصير الإسلام وربما حتى الداعي له.

يخرج الأمر عن السيطرة في أحيان كثيرة بما يضر النجم المصري بكل تأكيد. وأكثر ما قد أضر صلاح من صورته داخل الوعي المصري، هو تحوله إلى نجم عالمي ورمز لجماهير ليفربول حول العالم، بما قد يضع ضرورات جديدة عليه اتباعها.

وسقطت العباءة

سُرعان ما استغنى النائب البرلماني عن عباءته الريفية لصالح البدلة وربطة العُنق، بمجرد أن يدخل جلسات البرلمان لأول مرة، ذلك لأن لكل مقامٍ مقال. وعلى نفس الشاكلة فعل صلاح، حاول تدريجيًا أن يتخلص من القيود الأخلاقية المفروضة عليه من قبل الوعي المصري، من أجل أن يندرج ضمن الطباع الأوروبية التي سيُفضلها جمهور الريدز الذي بات يُمثلهم.

خسر هنا صلاح جزءًا لا يُستهان به من شعبيته داخل الطبقات الكادحة التي كانت تظنه سيظل يُمثلها للأبد، ومع مواقف مُتعددة كتجاهله التعليق على قضايا المُسلمين في الصين، أو حتى تعليقاته التي يُعدل فيها على عقليات طبقة كبيرة من المصريين، خرج صلاح من العباءة المصرية بشكل شبه تام. أما رفيقه تريزيجيه، فما زال يحتفظ بحقوقه في خوض لعبة الأخلاق.

يمتلك جناح أستون فيلا الحالي فيديو يُشبه كثيرًا الفيديو الشهير لأبو تريكة. يتحدث فيه عن ذكرياته عند وفاة والده، والأمنية البسيطة التي قد وضعها في رقبته كدين، واعتزازه بدعوات أمه العفوية غير مُنمقة الألفاظ. يفتخر بأصوله كفلاح من قرى كفر الشيخ، وبكونه ينتمي للطبقة الاجتماعية الفقيرة من الشعب المصري، كان ذلك قبل أن ينتقل إلى الدوري الإنجليزي، في عام 2017.

أنا بقول اللي في قلبي والله، ممكن أكون مش عارف أجمِّل الكلام والله، بس أنا بتكلم بطبيعتي.
المُحترف المصري «محمود حسن – تريزيجيه» في لقاء تليفزيوني عام 2017.

دخل صلاح، برغبته الكاملة، في علاقة مصلحة مع الشعب المصري تقوم على التمتع العقلي فقط. يجدون فيه أسطورة وسببًا لأن تفرح قلوبهم في ظل مآسي الحياة اليومية، وبالتالي لا يُمكن الاستغناء عن تلك المُتعة بكل الأحوال طالما أنه لا بديل مُتاح، لكنه موضوع دائمًا في دائرة الشكوك وحين يُخطئ لا يُغفر له كما كان في الماضي.

وعلى العكس، استفاد الجناح الأيسر للمنتخب المصري من خسارة صلاح للجانب العاطفي، أو جزء منه لتحري الدقة، واستأثر به لنفسه دونًا عن المُحيطين من جيله أو حتى الأجيال التي تليه.

لا يُعد تريزيجيه حاليًا ضمن أفضل 10 لاعبين في مركزه داخل إنجلترا، ما يعني أنه لم يصل بعد للمكانة المرموقة التي قد تدفعه للتخلي عن عباءة الفلاح المصري الأصيل، لكنه يملك المقومات التي قد تبقيه داخل حماية تلك العباءة مددًا أطول.

حتى الآن، يعتبر تريزيجيه هو أقرب مثال للطالب الأنجح في مُعادلة الأخلاق الكروية المصرية، حتى لو يبعد مسافات طويلة عن أبو تريكة، لكنه على الأقل في نفس الطريق الصحيح، فهل ينجح في الاستمرار، أم يخلع عباءته مع أول مقام مرموق جديد؟