تونس بلا جيش حتى عام 1956، فلم تعرف تونس وجود جيش خاص بها إلا بعد الاستقلال عن فرنسا بثلاثة أشهر. وكانت أولى معاركه هي معركة بنزرت عام 1963 ضد بقايا الفرنسي الذي تباطأ في الخروج من تونس، وأدت المعركة لخروج الفرنسيين نهائيًا من البلاد. تلك المعركة التاريخية للجيش التونسي كانت هي أول وآخر ما سيقوم به الجيش، فسوف يتوارى عن الساحة شيئًا فشيئًا حتى يختفي تمامًا، ولا يعود للظهور إلا في 2011 حين طلب الرئيس التونسي الهارب زين العابدين بن علي من الجيش التدخل لوأد الحراك المتصاعد، لكن جاء رد الجيش متسقًا مع ما اعتاده التونسيون منّه بأن الجيش لا مجال له في السياسة، وأن الجنود لن يؤازروا بن علي ضد الشعب، ففرّ بن علي وانتصرت أولى ثورات الربيع العربي.

ما بين اللحظتين التاريخيتين، وقع الجيش التونسي في الهامش دائمًا. لا يمكن القول إن ذلك كان باختياره في بادئ الأمر، لأن السبب الحقيقي كان حقبة الحبيب بورقيبة. بورقيبة بدأ بسط نفوذه على تونس عام 1957، بعد عام واحد فقط من ميلاد الجيش، وكان الجيش من أبرز الجهات التي عمل بورقيبة على إحكام قبضته عليها لتأمين سلطته.

بورقيبة عمل على عزل الجيش سياسيًا من أجل إفقاده القدرة على الانقلاب ضده خوفًا من أن يتكرر سيناريو صعود الضباط الأحرار في مصر. فشرذم الجيش في الثكنات العسكرية، وخفّض ميزانيته بصورة واضحة، وأزاح التغطية الإعلامية عنه، فبات الجيش مكانًا مقفرًا، ومؤسسةً في ذيل المؤسسات الأخرى، لا تحظى بالموارد من الرئيس ولا بالمهابة لدى الشعب التي قد تغريهم للانقلاب، وهكذا استمر بو رقيبة 30 عامًا دون أن يضطر للقلق من الجيش.

الخوف من الضباط الأحرار

خوف بورقيبة المرضي من الانقلابات جعله يقطع مخالب الأجهزة الشرطية أيضًا. 20 ديسمبر/كانون الأول عام 1962، ليلة الانقلاب المنتظر على بورقيبة بقيادة كَبير المحرزي، قائد الحرس الثوري الخاص ببورقيبة. المشاركون في الانقلاب من العسكريين والسياسيين ينتظرون إشارة المحرزي للفتك ببورقيبة. لكن قبل ساعة الصفر بنصف ساعة، عرف بورقيبة بالأمر، ففشل الانقلاب ودفع المشاركون ثمن رغبتهم، وقرر بورقيبة أن يضع مزيدًا من العوائق أمام ضباط الجيش تحول دون دخولهم السياسة.

قام الرجل بنقل تبعية الحرس الوطني، التابع لوزارة الدفاع بالأصل، لوزارة الداخلية. وأصدر قراره بحرمان ضباط الجيش من الانضمام لأي أحزاب سياسية، أو المشاركة في الانتخابات سواء بالترشح أو التصويت. وفي مقابل تهميش المعارضين واستئصالهم، قرّب بورقيبة منه الموالين والضباط المخلصين الذين يدينون بالولاء الشخصي له، فساعدوه في تحقيق مراده بإضعاف المؤسسة العسكرية.

حتى الجيل التالي للضباط الموالين فقد صنعهم بورقيبة على عينه، فاختار عددًا محددًا من الشباب تم التحري عنه بدقة وأرسلهم للأكاديمية العسكرية الفرنسية لتلقي التدريب هناك، وبعد عودتهم تقلدوا المناصب الرفيعة طوال فترة وجوده في السلطة.

كان الشاب زين العابدين بن علي هو أحد الضباط الذين سافروا لفرنسا، وعاد ليترقى في المناصب العليا ليصبح الرجل الثاني بعد بورقيبة، لكنّه سرعان ما انقلب عليه. كذلك انقلب بن علي على سياسة بورقيبة فيما يتعلق بالجيش، فرقّى العديد من القادة لرتبة جنرال، التي كانت ممنوعة بأمر بورقيبة، كما كلّفهم ببعض المناصب المدنية العليا وقد كانت كذلك مُحرمة عليهم في عهد بورقيبة. ووصل الأمر إلى أن غالبية أعضاء مجلس الأمن القومي التونسي لم تكن للموالين من الوزراء والمقربين، بل كانت لطيف واسع من رجال المؤسسة العسكرية.

الداخلية تسيطر على الجيش

شهور قليلة وبدأ الوجه الحقيقي لعهد بن علي يظهر. قرّر جهاز الشرطة، وزارة الداخلية، آنذاك أن يعيد الأمور إلى سابق عهدها، الجيش في الهامش والداخلية، التي كان بن علي وزيرها، في المركز. وإمعانًا في التدبير، قررت الشرطة أن تضرب عصفورين بحجر واحد، حزب النهضة والجيش.

مايو/آيار 1991، أعلنت وزارة الداخلية أنها اكتشفت محاولة انقلابية بتعاون مشترك بين حركة النهضة والجيش التونسي. أتت المؤامرة ثمارها، وفقد بن علي كل ثقته في رجال الجيش، وارتمى في أحضان الشرطة. قام الرجل بتقليص قوة وميزانية الجيش مرة أخرى. وبات يخشى من رجال الجيش الذين أعينهم في مناصب مدنية فأجبرهم على الاستقالة، ولم يتولَّ أي عسكريّ منصبًا مدنيًا بعد ذلك قط.

عادت القوات المسلحة إلى حالة الإهمال المتعمد، لا موارد ولا تغطية إعلامية. وزاد بن علي على بورقيبة بأن جعل مخصصات وميزانية الشرطة أكبر من ميزانية الجيش بالكامل. لم يعد خفيًا على أحد أن الجيش عاد للهامش. انتشر السخط بين العسكريين لكنهم كانوا أضعف، ماديًا ومعنويًا، من تدبير انقلاب على الرجل.

ثورة الياسمين أعادت تعريف المواطن العربي لنفسه، وذكّرت الجميع بالمارد الكامن بداخلهم، وبالبركان القادر على الانفجار إذا تمادى الحاكم في الضغط، ولفتت نظر الجيش التونسي أيضًا إلى أنه جيش.

الجيش يدرك قيمته

بن علي طلب من رشيد عمار، قائد أركان الجيش التونسي، التدخل لقمع المحتجين. ربما كانت تلك هي المرة الأولى التي يهتم فيها التونسيون بمعرفة اسم القائم بإدارة الجيش. رشيد عمار أمسك مكبر الصوت وخرج من نافذة مكتبه ليُعلن للمتظاهرين الذين جاءوه ليعرفوا ردّه على بن علي، ثورتنا ثورتكم.

حُسم الأمر، الجيش لم يتدخل في السياسة لكّنه تدخل، الإشاعات التي ظهرت بأن فرار بن علي أتى بسبب كلمات قائد الجيش بَنت للجيش التونسي ضريحًا في قلوب التوانسة. في تلك اللحظة وما تلاها اختبر الجيش التونسي شعورًا لم يختبره سابقًا، أن يكون في قلب الأحداث.

زاد من قيمة الجيش في نفوس الشعب وقوفه حائلا بين الشرطة العنيفة والشعب المسالم. وزاد ازدهار الجيش بعد الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها تونس بعد الثورة ما اضطر الرئيس منصف المرزوفي لزيادة قدرات الجيش لمجابهة تلك الهجمات. فكأن الثورة كانت هي ربيع الجيش التونسي الذي استفاد ماليًا ومعنويًا من المرحلة الانتقالية والمرحلة الديموقراطية التي تلت الثورة.

في تلك السنوات المتتابعة، كان لدى الجيش التونسي أكثر من فرصة لاقتناص الحكم والانفراد به، لكنه لم يفعلها، رغم أن الجيش في سنوات ما بعد الثورة استطاع أن يخرج من السيطرة المباشرة لرؤسائه والخضوع التام لهم إلى مرحلة من حكم المؤسسة لنفسها، والقدرة على اتخاذ قرارها الخاص، لدرجة أن أغلب الروايات الآتية من المطلعين تحدثت عن أن رشيد عمار كان هو من يُسيّر البلاد حقيقةً في المرحلة الانتقالية.

غواية السلطة قد تنتصر

الجيش الوطني جيش جمهوري وهو قوة عسكرية مسلحة قائمة على الانضباط، مؤلفة ومنظمة هيكليًا طبق القانون، ويضطلع بواجب الدفاع عن الوطن واستقلاله ووحدة ترابه، وهو ملزم بالحياد التام، ويدعم الجيش الوطني السلطات المدنية وفق ما يضبطه القانون.
الفصل 18 من الدستور التونسي

لكن رغم ذلك فغياب طبيعة النظام العسكري في الحكم في تونس جعل الجيش كيانًا مهمشًا ولا يملك إمبراطورية اقتصادية وعلاقات دولية تمكنه من التفكير في الاستئثار بالسلطة. على النقيض من ذلك فقد تبنى الجيش التونسي طوال تاريخه عقيدة الخضوع للقائد السياسي.

غير أن الأيام القادمة قد تكون حُبلى بنتائج جديدة بسبب تغير الظروف والمُدخلات. فالجيش المُهمش بات هو المُهمين على المؤسسة الأمنية في البلاد. وارتفعت ميزانيته إلى مليار و40 مليون دولار، وهي ميزانية تبدو ضخمة بالنسبة لجيش لا يخوض معارك ولا يدخل في تهديدات إقليمية ولا يحتاج لقوة ردع ضخمة لإرهاب خصم يتربص بحدوده.

تلك الميزانية الضخمة ظهر أثرها على ثكنات الجيش التي أُعيد ترميمها، وفي الأسلحة التي اشترتها تونس من فرنسا والولايات المتحدة، كما باتت قوات حرس الحدود أشد نشاطًا ويقظةً في ضبط عمليات التهريب، ما أعاد روح الافتخار بالعسكرية وشعور الجندي التونسي بأنه الساهر على حماية الوطن الذي لا يعرف السياسيون عنه شيئًا.

الجيش التونسي لم يصدر بيانًا يعلن فيه تأييد كفة قيس سعيد في حلّه البرلمان، ولا بيانًا يؤيد فيه البرلمان، بل ظل في المنطقة الحيادية، التي يمكن وصفها حاليًا بالضبابية لأن الجيش هو من أشرف على تنفيذ أمر الرئيس بمنع راشد الغنوشي والبرلمانيين من دخول مبنى البرلمان، إضافةً لذلك أن الرئيس التونسي منذ شهور وهو يحرص على زيارة ثكنات الجيش وإصدار البيانات منها، ويكرر حديثه عن دور الجيش في الحفاظ على الشرعية، ومواجهة المؤامرات الخارجية والداخلية.

ربما يكون المحرك الأهم للجيش التونسي حاليًا هو الحفاظ بشكل حذر على رصيده الذي اكتسبه منذ ثورة الياسمين من أنه الجيش الزاهد بالسلطة والمنحاز لإرادة الشعب المنتخبة، لكن لا يمكن التعويل أن يدوم ذلك طويلًا،خاصةً مع وجود مغريات كبرى أبرزها الدعوات المباشرة للجيش التونسي للتدخل.

ولذلك تصبح قراءة بيانات قيس سعيد من وسط الثكنات أمرًا محيرًا، هل يقولها الرجل من أجل استمالة الجيش لصفه، أم أنها إعلان ضمني عن أن الجيش في صفه وأن الرجل قد حصل على ضوء أخضر من الجيش؟

خصوصًا وأن العقيدة العسكرية في طبيعتها تميل إلى التقليل من شأن المدني والسياسي والميل إلى الحلول الجذرية الراديكالية، والجيش التونسي يشاهد منذ سنوات ضعف النخبة السياسية في حل الأزمات السياسية التي تتعرض لها تونس، ما يعني أنه يملك مبررًا ودافعًا ورصيدًا يسمح له بغطاء شعبي للتدخل في المشهد صراحةً بانقلاب عسكري مباشر، أو غير مباشر بالموافقة على خطوة قيس سعيد، ذلك ما ستجيب عنه الأيام القادمة.