اشتعلت النيران في منزل صغير على ضفاف نهر كيب فِير في بلدية ويلمنجتون، التابعة لولاية نورث كارولينا، فخرج من البيت المحترق رجل أسود يهرول كي ينجو بحياته من النيران. الرجل زُعم أنه قتل مواطنًا أبيض سابقًا، ما يعني أن الحريق كان متعمدًا، وفي طريق هروبه وجد أمامه أكثر من 40 مواطنًا أمريكيًّا بيض البشرة يصوِّبون أسلحتهم نحوه.

توسل لهم المواطن الأسود، أخبرهم أن لديه 5 أطفال يحتاجون إليه، لكن لم تجد توسلاته متسعًا في نفوس البيض الساخطين، ضربه أحدهم بأنبوب معدني على رأسه فانسال منه الدم، ثم أخبره قائدهم أن بإمكانه الجري لينجو بحياته، صدَّقهم المواطن الأسود وأخذ يهرول حتى ابتعد قرابة 20 مترًا، فتنافس البيض على إصابته بالرصاص، فاستقرت قرابة 40 رصاصة في ظهره ورأسه.

ذلك المواطن الأسود كان يُدعى دانيال رايت، سياسي مشهور آنذاك، وكان يعمل في اللجنة التنفيذية للحزب الجمهوري بالولايات المتحدة. كان رايت واحدًا من 300 أمريكي قتلوا في نفس اليوم، 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 1898 فيما عُرف بمذبحة ويلمنجتون قام بها أفراد من السرية التاسعة،  التي وُلدت من رحم التنسيق بين أنشطة  ميليشيا القمصان الحمراء، وميليشيا ويلمنجتون لايت ماونتينري.

رغم ارتباط ويلمنجتون بالمذبحة فإنها قبلها كانت أكثر المدن الأمريكية تقدمًا، فيصفها المؤرخون بالميناء الصاخب والمتكامل، والصورة المثالية التي كان من الواجب على المجتمع الأمريكي أن يصبح عليها، خاصةً بعد أن سال الكثير من الدماء في الحرب الأهلية الأمريكية. فقبل تلك المذبحة كان في ويلمنجتون 126 ألف ناخب أسود مُسجل رسميًّا، وطبقة السود كان بها قرابة 70 طبيبًا ومحاميًا ومعلمًا، بجانب العديد من السود في دوائر الشرطة والإطفاء.

السود يفترسون نساء البيض

ذلك الاندماج نتج عن سياسة عتيدة من الاندماج قامت بها الولاية، حيث اندمج الحزب الشعوبي المكوَّن من الفلاحين البيض الفقراء إلى الحزب الجمهوري حيث كان يفضل السود المُحررين أن ينتموا، اندمج الاثنان ضد الديموقراطيين. فقد كان الحزب الديموقراطي آنذاك هو الملجأ المفضل للشعبويين البيض الأثرياء الذين يؤمنون بتفوق الرجل الأبيض على الرجل العادي، خاصة إذا كان هذا الأبيض ثريًّا.

التحالف السياسي داخل الحزب الجمهوري وضع الأغلبية السياسية كاملةً في أيدي الجمهوريين، فاكتسحوا مناصب ومقاعد الولاية المحلية والمقاعد الفيدرالية وطردوا الديموقراطيين من السلطة. خاف الديموقراطيون من أن يكون فقدانهم للسلطة أمرًا دائمًا، فبدأوا يضعون الاستراتيجيات المتعددة لاستعادة التفوق الأبيض.

فبدأ كبار قادة الديموقراطين بإغواء المواطنين ليبتعدوا عن الاندماج وليشتعلوا غضبًا ضد السود. لم يكن الأمر فعلًا سريًّا، بل بيانًا رسميًّا أصدره الحزب الديموقراطي في بيانه السنوي قائلًا إن الولايات المتحدة هي بلد الرجل الأبيض، ويجب على الرجال البيض السيطرة عليها وحكمها للأبد.

وتزعَّم جوزيف دانيلز، صاحب جريدة ذا أوبزيرفر، نشر العديد من المواد الصحفية التي تتحدث بشراسة عن خطر الرجل الزنجي، وضرورة التخلص منه، وطرد السود جميعًا من الأراضي الأمريكية. ونشرت الجريدة كذلك رسومًا ساخرة لرجال سود يفترسون النساء البيض.

البيض يحاصرون اللجان بالسلاح

نشرت صحيفة أخرى خطابًا من الكاتبة ريبيكا فيلتون، التي ستصبح سيناتورًا بعد ذلك، عن دعمها الكامل لقتل رجل أسود كل يوم إذا كان ذلك سوف يحمي المرأة البيضاء. عارضها أليكس مانيلي، محرر صحيفة ذا ريكوردر، الصحيفة الأمريكية الأفريقية الوحيدة، لكن بطريقة غير مباشرة، فكتب عمودًا نشرته كل صحف الولاية، أكد فيه أنه إذا أراد المجتمع الأمريكي تنقية نفسه من السود فعليهم أن يتوقفوا عن زواج الزنجيات، لأن ذلك ما يؤدي لزيادة عدد الزنوج أو المتعاطفين معهم لوجود عرق أسود فيهم، لكن طالما لا يستطيع الرجل الأبيض التحكم في شهواته، فيجب عليهم ألا يطالبوا الزنوج بالخروج.

ثم كتب أحدهم مقالًا قبل أسبوع من أحداث ويلمنجتون بلهجة شديدة العداء يقول فيه إنه على البيض أن يجعلوا السود يفهمون مرةً واحدة وللأبد أن وجودهم في الولايات المتحدة عار، وأن هيمنة الزنوج يجب أن تصبح من الماضي، ويجب أن يقوم البيض بما يمثل تحذيرًا للسود، وتحذيرًا دائمًا لكل من سيسعى لإحياء تلك السيطرة مرة أخرى.

أثارت تلك المقالات حفيظة البيض، ومع حلول الانتخابات كانت مشاعر البيض قد انقلبت تمامًا ضد رفاقهم السود. فبات المناخ جاهزًا للعنف، فقامت حملة واسعة اقتحم فيها رجال الشرطة البيض منازل السود، كما هدَّدوا السود بقتلهم حال قاموا بالتصويت في الانتخابات، كذلك جلدوا بعضهم لرفضهم الانصياع لأوامر الضباط البيض.

وفي يوم الانتخابات تجمعت حشود البيض المسلحة خارج مقار اللجان الانتخابية ليمنعوا السود من الدخول لصناديق الاقتراع. لذا ليس من المستغرب أن تكون نتيجة الانتخابات هى فوز شامل للديموقراطيين بكل  المناصب التي جرى الاقتراع عليها.

إجبار العمدة المُنتخب على الاستقالة

لم يكتفِ الديموقراطيون بالفوز في المناصب فحسب، بل استغلوا ذلك وسيلةً نحو هدفهم الثاني والأهم، القضاء على وجود السود، وإفناء ثرواتهم كي يقيموا دولة بيضاء بالكامل تتركز فيها الثروة والسلطة والعلم في أيدي البيض. أصدرت السلطة البيضاء إعلانًا أطلقت عليه الإعلان الأبيض للاستقلال، جاء فيه أنه لن يُحكم البيض بعد الآن، ولن يحكموا مرة أخرى، من قبل رجل من أصل أفريقي.

بموجب هذا الإعلان تم تجريد مواطني البلدة السود من حق التصويت، وطُلب منهم ترك أعمالهم المدنية وتسلميها إلى مواطنين بيض. كما سار مئات البيض إلى مكتب مانيلي، كاتب العمود السابق، وأحرقوا مكتبه، وطالبوا بإعدامه دون محاكمة، ففر مانيلي شمالًا.

بعدها توجهوا إلى مكتب العمدة الجمهوري المُنتخب وأجبروه على الاستقالة، ثم نصبوا بديلًا له من بينهم. ما زاد من شوكة المُنقلبين، أو كما تسميهم التقارير الأمريكية بالغوغاء، فزاد عددهم إلى نحو 2000 رجل قاموا بإرهاب المدينة لفترة طويلة. وقتلوا في تلك الأيام أكثر من 300 رجل أسود، ساعدهم في عمليات القتل الشرطة الرسمية العنصرية والميليشيا البيضاء التي تتسع يومًا بعد يوم.

تجاهلت الحكومة الفيدرالية نداءات أهل ويلمنجتون، كما تجاهل البيت الأبيض نفسه استغاثاتهم. فتوسعت الميليشيا البيضاء في طرد سكان البلدة من السود متوسطي الثراء والأثرياء، وبدأت الحكومة البيضاء في وضع قوانين جيم كرو للفصل العنصري كقوانين محلية نافذة.

لا تقل انقلابًا، بل قل دفاعًا

هذا الانقلاب قضى على قوى السود الاقتصادية والسياسية، فتضاءل عدد الناخبين السود حتى وصل إلى 6000 ناخب فقط، من أصل 126 ألف ناخب قبله. وحُرم السود من أي مناصب محترمة أو عامة في ويلمنجتون لما يزيد عن 150 عامًا، وأُعيد انتخاب أول عضو كونجرس أسود بعد هذا الانقلاب في عام 1992.

كما أن اللافت أن الصحف الأمريكية، والمواقع التاريخية الأمريكية، لم تُطلق على ما حدث أبدًا لفظ انقلاب، كما حجبت الحقيقة الكاملة وراء ما حدث. فقد تم تصوير الأحداث باعتبارها حربًا عرقية اُضطر البيض لخوضها بسبب تحريضات السود، فوُصف البيض بأنهم مدافعون ضد هجوم العدوان الأسود، وتم تكريم العديد من قادات هذا الانقلاب.

كما لم يتم القبض على أي أحد شارك في الانقلاب أو في عمليات القتل أو في مداهمة منازل السود وترويعهم، لتمضي تلك الجريمة بدون أي عقاب، وتختفي خلف ستار من الشجاعة، ويضعها الأمريكيون ضمن بطولاتهم العديدة في مواجهة التوحش الأسود.

وبدأت مؤخرًا حملات مراجعة لما حدث، فاعتذرت صحيفة ذا أوبزيرفر عن جهودها في الدعاية لهذا الانقلاب، وقالت أكثر من مرة إن دورها في ذلك الانقلاب كان تاريخًا لا يمكنها الاعتذار عنه.