لم يخالف الرئيسان الروسي والتركي التوقعات في القمة التي جمعتهما في موسكو في الخامس من آذار/ مارس الحالي بخصوص إدلب، فقد أعلنا التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار ينزع فتيل الأزمة بينهما، والتي كانت تحمل إمكانية – ضئيلة طبعاً – تحولها لمواجهة مباشرة بينهما على غير رغبة منهما.

المقدمات

مع تقدم قوات النظام السوري لما بعد حدود اتفاق سوتشي المبرم بين أنقرة وموسكو، باتت بعض نقاط المراقبة التركية في إدلب محاصرة، بل استُهدف بعضها، فضلاً عن أعداد النازحين الكبيرة تجاه الحدود التركية والتي اقتربت من المليون. هددت تركيا بعملية عسكرية ضد النظام إن لم يسحب قواته إلى حدود اتفاق  سوتشي. وقد كان استهداف الجنود الأتراك في الـ 27 من الشهر الفائت نقطة الإعلان عن العملية تحت اسم «درع الربيع».

وضعت العملية تركيا وروسيا وجهاً لوجه، سياسياً إن لم يكن ميدانياً وبشكل غير مباشر، مع احتمالات بسيطة بأن يتحول الأمر لمواجهة ميدانية مباشرة إن كان بفعل الحسابات الخاطئة أو تدحرج الأحداث أو افتعال أطراف ثالثة، ما انعكس على الطرفين رغبة في التوصل لتفاهمات ما.

في الطريق للقمة يمكن القول إن إدلب وسوريا مجرد قضية من قضايا الاهتمام المشترك بين الجانبين، وأنهما ما زالتا حريصتين على التفاهمات في سوريا، وعلى مجمل العلاقات المتنامية بينهما بشكل ملحوظ مؤخراً. كما أنهما بدتا متفقتين على أمرين؛ ضرورة التوصل لاتفاق وتجنب الصدام المباشر، ومختلفتين حول كل التفاصيل الباقية، ولذلك فقد كانت القمة صعبة جداً واستمرت حوالي ست ساعات.

أرادت أنقرة عودة النظام لحدود سوتشي، وأرادت موسكو تثبيت الوضع القائم الجديد. لكن التفاوض كان يعني بالضرورة التوصل لحل في منطقة وسطى بينهما يحقق الحد الأدنى من مطالب الطرفين، مع مراعاة التطورات الميدانية من جهة وموازين القوى بينهما من جهة أخرى، ما يعني تنازلات نسبية من الطرفين عن السقف الذي طرحه كل منهما، ولذلك نقول إن الاتفاق لم يكن مفاجأة أبداً.

المكتوب والمسكوت عنه

في نص البروتوكول الإضافي الموقع من الجانبين، ثمة ما هو واضح وهناك الكثير من المسكوت عنه والمتروك إما للمستقبل أو للميدان أو لتفسير كل طرف بما شاء. ولعل أول المسكوت عنهم أو الغائبين عن الاتفاق النظام والمعارضة، لدرجة أن الكثيرين تندروا على صياغة الاتفاق بثلاث لغات ليس من بينها لغة البلاد العربية.

بني الاتفاق المفترض على إعلان مناطق خفض التصعيد في الرابع من أيار/ مايو 2017 وعلى اتفاق سوتشي الموقع بين روسيا وتركيا في السابع عشر من أيلول/ سبتمبر 2018، وأعاد التأكيد على وحدة أراضي سوريا وسيادتها وتناول الملف الإنساني، وخصوصاً موضوع اللاجئين، ثم تحدث عن ثلاث نقاط رئيسة اتفق عليها:

الأولى، وقف إطلاق النار ابتداءً من منتصف ليلة التوقيع.

الثانية، إنشاء ممر أمني آمن على جانبي الطريق الدولي M4 على مسافة 6 كلم منه شمالاً وجنوباً.

الثالثة، تسيير دوريات روسية – تركية مشتركة ابتداءً من الخامس عشر من الشهر الجاري بين منطقتي الترنبة (غرب سراقب) وعين الحور في ريف إدلب الجنوبي.

لكن الاتفاق أهمل، عن عمد بسبب الخلاف، نقاطاً في غاية الأهمية في مقدمتها مصير المناطق التي سيطر عليها النظام ونقاط المراقبة التركية وهيئة تحرير الشام والوضع في سراقب. كما أنه خلا بشكل شبه كامل عن أي حديث عن آليات التنفيذ والمراقبة والمحاسبة والمرجعية، فضلاً عن تحديد أي سقف زمني، لدرجة أن التفاصيل المتعلقة بالممر الآمن سيحددها وزيرا دفاع البلدين خلال سبعة أيام.

وبناء على ما سبق، فلسنا أمام اتفاق متكامل يتناول حل أزمة إدلب بالكامل، وإنما إزاء هدنة مؤقتة لنزع فتيل الأزمة بين البلدين، أو اتفاق إطاري أولي في أحسن الأحوال ما زال بحاجة للكثير من الحوار والتفاوض بخصوص تفاصيله التي يكمن بها الشيطان.

فالحدود الجديدة للممر الآمن، الذي سيكون أشبه بمنطقة عازلة بين النظام والمعارضة، يوحي بأن بعض نقاط المراقبة التركية قد يتغير مكانها، دون أن يُنَصَّ على ذلك. كما أن تسيير دوريات تركية – روسية مشتركة إضافة للممر الآمن توحي بتراجع النظام عن بعض المناطق التي كسبها، دون أن ينص على ذلك أيضاً. 

وفي حسابات الربح والخسارة، لا شك أن روسيا هي الكاسب الأكبر من الاتفاق، بحيث أوقفت العملية التركية حتى إشعار آخر وربما نهائياً لتجنيب النظام خسائر إضافية، وثبتت الأوضاع القائمة حالياً إلى حد كبير دون أي إشارة واضحة لتراجع النظام، فضلاً عن أنها احتفظت لنفسها بمكانة المرجعية التي تفصل بين الفرقاء، و«المايسترو» الذي يدير العلاقة مع الجميع دون أن يخسر أياً منهم.

في المقابل، حققت تركيا جزءاً مهماً من أهدافها الفرعية الثلاثة. فلا حديث عن سحب نقاطها أو تغيير أماكنها، ووقف إطلاق النار يفترض أن يوقف موجات النزوح نحوها، كما أن تثيبت الممر الآمن وبقاء/شرعنة قواتها التي دخلت إدلب يعني إنشاء منطقة آمنة De Facto وإن لم تكن بالضرورة بالعمق الذي أرادته. لكن الاتفاق لم ينص على عودة قوات النظام لحدود سوتشي، بل ثبت الأوضاع الميدانية القائمة إلى حد ما، وهو تنازل تركي ولا شك.

 فضلاً عن ذلك، فقد حقق الاتفاق للطرفين هدفيهما الأساسيين، تجنب المواجهة وتجنيب العلاقات البينية سلبيات التوتر في إدلب.

عوامل التفجير

يعني كل ذلك أن الاتفاق المعلن مفتوح على عدة تفسيرات بحيث يمكن لكل من الطرفين تسويقه على أنه انتصار له وتحقيق لأهدافه ويقدم له سلماً للنزول عن شجرة التصعيد والتوتر. بوضع المتغيرات السياسية والميدانية بما فيها التعزيزات التركية في الحسبان، يفترض في الاتفاق الأخير أن يصمد أكثر من الاتفاقات السابقة. لكن بالنظر لكل ما سبق وخصوصاً المسكوت عنه من التفاصيل، يبدو أن الاتفاق يحمل بين طياته ألغاماً كفيلة بتفجيره في أي وقت.

فهناك احتفاظ تركيا لنفسها بحق الرد على أي اعتداء من النظام الذي أتى على لسان أردوغان، وهناك تشبث روسيا بسردية مكافحة الإرهاب كما نص على ذلك الاتفاق، وهناك الإشارة لسيادة سوريا ووحدة أراضيها بما يعني استمرار السعي للسيطرة، وهناك معركة سراقب التي لم تنتهِ تماماً. وكذلك هناك أزمة الثقة التي اتسعت بين الجانبين والتي تظهر أن الاتفاق المعلن لم يكن سوى هدنة مؤقتة قبل عودة القرار للميدان، لا سيما في ظل الصياغات حمالة الأوجه في النص.    

وقبل هذا وذاك، هناك اختلاف رؤى واضح بين البلدين. فأنقرة ما زالت تتحدث عن مناطق خفض تصعيد وحل سياسي بين الطرفين السوريَّيْن، بينما تريد موسكو فرض النظام/الحكومة سيطرته على كامل الأراضي في ظل “إصلاحات” تعيد المعارضة لكنفه، وهو ما تبدى في الترجمات المختلفة للنص بين “سوريا” التي تحيل على النظام و”السوريين” التي تحيل على الطرفين. وهناك الخلاف القديم المتجدد حول تصنيف المنظمات الإرهابية والراديكالية بين الجانبين، وهناك مصير هيئة تحرير الشام المسكوت عنه.

وهناك حسابات الأطراف الأخرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي لن تكون سعيدة بما تم الاتفاق عليه، وستكون جاهزة لتجديد دعمها لأنقرة وتحفيزها في حال انهار الاتفاق وسخن الميدان. كما هناك حزب الله والمجموعات المحسوبة على إيران التي كانت هدفاً للعملية التركية في أيامها الأولى، والتي قد يصعب ضمان التزامها بالاتفاق.

وفق هذه الرؤية، فالاتفاق مرشح للانهيار على المدى البعيد وربما القريب أكثر من الصمود والديمومة، ما يعني استئناف العملية التركية بدرجة أو بأخرى، وعودة النظام للتقدم ميدانياً مجدداً، ما قد يفتح الباب مرة أخرى على مواجهة مع تركيا والمعارضة السورية.

وعليه، ختاماً، سيكون الميدان هو التفسير المباشر والترجمة العملية للاتفاق ونظرة كل طرف له، وبالتالي مصيره على المدى البعيد، فهو يحقق مصلحة للطرفين اليوم لكنه لا يحل المشكلة من أساسها بل حاول تسكينها مؤقتاً قبل أن تعود للانفجار.