لكل عملة وجهان، هذه هي الفكرة الأساسية التي يستند عليها المسلسل المكون من عشر حلقات، ولكل إنسان وجهان أو بمعنى آخر حقيقتان، أو وجهان كلاهما حقيقي.

الشخصية الأساسية هي: عامل مخزن في شركة أدوية، مُولع بقراءة نشرات العقاقير الطبية حتى حفظها عن ظهر قلب؛ المادة الفعَّالة وأسباب وإرشادات الاستعمال ومدته.

كان أمله وأمل أبيه أن يصبح طبيبًا، ولكنه عِوضًا عن ذلك لم يفلح في اجتياز اختبار الثانوية العامة، فبات عامل مخزن بـ «الإعدادية».

ربما ينتظر الإنسان فرصة لإظهار وجهه الآخر أو إخراج قناع يحتفظ به ليضعه على وجهه ليُجرِّب الحياة من ورائه، كيف سيرى الأشياء، وكيف سيراه الناس إذا ارتدى قناعه، هذا القناع ربما يكون لقبًا يُضاف إلى اسم، أو ثروة تُضاف إلى حساب بنكي، فالحياة بعد الألقاب والثروات تكون مغايرة تمامًا لما كانت عليه قبلهما.

أدرك «جمال» في لحظة فارقة أنه مثل الفأر في مصيدة، عالق في وظيفة مملة وزواج فاشل من امرأة ترى أنها تتفوق عليه لمجرد حصولها على شهادة جامعية، حتى مع إداركاتها العقلية المحدودة وطباعها السيئة، فقد توحدت مع فكرة أنها عبارة عن «شهادة جامعية» متزوجة من «شهادة إعدادية»، فكانت في قرارة نفسها تحتقر زوجها، وكان هو يشعر أنها لا تراه من الأساس.

عوالِم مُهمَّشة

اختار «جمال» أن يسافر إلى مدينة طنطا، حتى يتمكن من الاختباء بين أهلها، ولكن ليس كعامل مخزن هذه المرة، بل كطبيب.

استعان بمزوِّر حتى يحصل على بطاقة شخصية بالمهنة الجديدة والاسم الجديد، أسَّس عيادة بدائية صغيرة، وكان إذا سأله أحد عن تواضع المكان، أجاب أن الشهادات والمعدات جميعها في عيادته الكبيرة في القاهرة.

دارت أحداث المسلسل بطبيعة الحال في مدينة طنطا، فكانت هذه إضافة إلى العمل، حيث ابتعد صانعوه عن بهرج القاهرة والبيوت المُصممة على أحدث الطُّرُز، والتي تجعل المواطن العادي من أرباب الطبقة المتوسطة والطبقات التي تليها انخفاضًا على السلم الاقتصادي والاجتماعي، يشعرون أنهم بعيدون كل البعد عن هذه القصص. كان المُشاهد بحاجة إلى أن يرى حياة تُشبه حياته، ومساكن مُصمَّمة كيفما اتفق، تفي بالأغراض المعيشية بالكاد، عيادات الفقراء ومنازل الفقراء وأنماط حياتهم، وتلك الومضة من الأمل هي ما كان يرنو إليه المتلقي وينتظره.

التف الناس حول الطبيب المزيف وأطلقوا عليه لقب «طبيب الغلابة»، حيث كان ثمن الكشف ضئيلًا للغاية، لا يتعدَّى العشرين جنيهًا، ذاع صيته لتواضعه واستعداده الدائم للمساعدة أيًّا كانت شكوى المريض، لا يعترف بالتخصص لأنه ليس طبيبًا من الأساس، يكتب الأدوية التي تعالج الأعراض التي تتشابه مع ما يعانيه المريض، بناءً على عمله مساعدًا في عيادة طبيب، كان يعطف عليه، بالإضافة إلى حفظه لإرشادات استعمال أدوية لا حصر لها.

جاء هذا العمل ببساطة تفاصيله حتى يعيد المشاهد إلى أجواء مسلسل الثامنة مساءً، الذي كانت تلتف حوله العائلة، لأنه المسلسل الوحيد على مدى اليوم، كان ذلك قبل عصر الفضائيات وثقافة العرض المستمر.

الراقصة والطبيب

يحتاج الطبيب بطبيعة الحال إلى ممرضة، ولكن بوصفه طبيبًا مزيفًا كان يخشى أن يُعيِّن مساعدة ذات خبرة، حتى لا يفتضح أمره، لأنها تعرف تمامًا كيف يتصرف الأطباء الحقيقيون، وسوف تدرك الفارق بينه وبينهم ربما من اليوم الأول، ومع ذلك فُرِض عليه أن يُعيِّن مساعدة بخبرة خمس سنوات من العمل في التمريض؛ أو هذا ما قالته «ضحى» للوسيط وللطبيب، ولكن الحقيقة كانت بعيدة كل البعد عن ذلك.

كانت «ضحى» راقصة درجة ثالثة، تُحيي الأفراح المتواضعة في الشوادر والحواري وأسطح المنازل، لبست «ضحى» قناع الممرضة، خائفةً دومًا من افتضاح أمرها، وأمَّا بالنسبة للطبيب فكان بدوره يتجنب التعامل المباشر مع «ضحى» خشية أن يُخطئ أمامها.

كلاهما يضع نفسه في مكان ليس له، والنتيجة كانت تأرجح كل منهما كبندول الساعة، فتارة يقلق كل منهما من الفضيحة، وتارة يتركان نفسيهما للاستمتاع بمكانة اجتماعية أرقى مما يحظيان بها في حياتهما الحقيقية.

كانت شخصيات هذا العمل حقيقية إلى أقصى حد، يمكنك أن تراهم يجوبون المحروسة كل يوم، يمشطون شوارعها وقد صبغت الهموم ملامح وجوههم بلون عوادم المدينة التي قضت على سلامة الجهاز التنفسي لكل منهم، يلبسون من المتاح بغض النظر عن اعتبارات الموضة؛ ممرضة أثناء النهار وراقصة إذا جن الليل، متعهد أفراح يعيش مع زوجة أبيه الراقصة المعتزلة، أسرة تعيش في القرية لا يشغلها ما يدور خارج حدود تلك الأراضي الخضراء التي يعيشون بالقرب منها ويأكلون من خيراتها، جموع غفيرة من الناس تغدو وتروح بجانب مقام «السيد البدوي»، البعض يقضي حاجات دنيوية من بيع وشراء الحمص والحلاوة والملابس المتواضعة المعلقة في قارعة الطريق، ينادي الباعة للتعريف ببضائعم، سلع متواضعة تشبه منْ يتوقفون للفرجة والسؤال عن الأسعار والفصال ثم الاتفاق مع البائع في أفضل الأحوال وإتمام الصفقات.

والبعض الآخر يرنو إلى تحقيق حاجاتهم بمساعدة بركة مقام «السيد البدوي» يتضرعون إلى الله ويسألونه أن تحل عليهم بركة صاحب المقام، وأن يحقق لهم الأغراض التي تبدو لهم مستحيلة، لا تكف ألسنتهم عن الدعاء والتضرع إلى الله، لا فرق في ذلك بين راقصة وممرضة، أو جاهل وعالم.

جاذبية الخرافة

انكشف أمر الطبيب بطريقة غريبة، حيث إن زوجته قامت باتهامه بتبديد منقولات بيت الزوجية، ولم تبلغ السلطات عن التزوير ولا عن انتحاله صفة طبيب، ولكن «جمال» ما إن وجد نفسه في مواجهة ضابط الشرطة ودون أن يعرف سبب استدعائه، اعترف بكل شيء، ربما كان في قرارة نفسه ينتظر هذه اللحظة حتى يتخلص من عبء الزيف والكذب، فـ «جمال» لم يكن مزوِّرًا متمرسًا، ولكنه استعذب الحلم وارتاح لتحقيقه بلا عناء، أحب التفاف البسطاء حوله، شعر أنه إنسان ذو قيمة، بات في بؤرة الضوء بعد أن عاش على الهامش طيلة حياته.

كانت المفارقة أنه في يوم المحاكمة استعان محامي «جمال» بشهود لنفي صفة التزوير عن الأخير، واستند الدفاع على أنه مجرد شخص يحب مساعدة الناس ولم يروج لنفسه على أنه طبيب، فما كان من الشهود إلا أن أكدوا أن «الدكتور جمال» كان طبيبًا طيبًا، يُعالج الناس بأجر ضئيل، ولم يغلق باب عيادته في وجوههم قط، على الرغم من افتضاح أمره، لم يرغب الناس في إدانته، كرهوا أن يتعرض للعقاب وتعاطفوا معه من منطلق أنه لم يقصد شرًّا بفعلته.

كان هو يريد أن يتطهر من ذنبه، وكانوا هم يودون لو استطاعوا إخراجه من محبسه وإعادته للعيادة وإجلاسه على عرش الطب من جديد وكأن شيئًا لم يكن.

يميل الناس، في المجتمعات متواضعة الوعي، إلى تصديق الخرافة والركون إليها، يعتقدون أنها ما دامت قادرة على حل المشكلات، فلا ضير منها.

في فيلم «البيضة والحجر» للفنان أحمد زكي، كان يقوم بدور مدرس فلسفة، ثم تحول إلى دجال بفعل صدفة، استغل نقاط ضعف الناس حتى يثبت أنه قادر على شفاء أمراضهم وتحقيق طموحهم، وقدرته على قراءة الغيب. قرأ عيون الناس ولغة أجسادهم، واطلع على مواطن احتياجهم وجوعم لمتاع الدنيا، وأوهمهم أنه رأى كل ذلك في كفوفهم وبقايا البن في فناجين قهوتهم.

عندما أراد المدرس أن يخلع عباءة الدجال، ويتطهَّر من ذنوبه، اعترف بالحقيقة ولكن أحدًا لم يصدقه، ذهب إلى الجهات المختصة ليسلم نفسه وطلب منهم إيداعه السجن بتهمة النصب والاحتيال، فما كان منهم إلا أن قدَّموا له فروض الولاء وطلبوا منه ألا يتهم «ذاته المباركة» بالدجل والاحتيال، ثم رفعوه على الأعناق وجدَّدوا له البيعة حتى يخدعهم ويستغل حاجاتهم إلى الأبد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.