لا أحد يستطيع أن يُنكر مكانة الشعر في التاريخ عند الأمم عامةً، وعند العرب خاصةً. فعند العرب شُنت حرب، كان بيتٌ من الشعر سببًا فيها، وعندهم سجدة سمَّوها «سجدة الشعر»، وكان فيهم قبيلة اسمها «أنف الناقة»، وكان إذا ذكر أحد هذا الاسم أمام أحد من أبناء القبيلة يثور غضبه حتى مدحهم الحطيئة وقال:

قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم *** ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا

ومن وقتها انقلب اسم القبيلة الذي كان يثير الغضب إذا ذكره أحد، إلى فخر يفتخر به كل مَنْ ينتسب للقبيلة. وقد أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) حسان بن ثابت أن يهجو كفار قريش وقال: «إنه أشد عليهم من وقع النبل». وعلى هذا المنوال لا أحد يستطيع أن ينكر مكانة المرأة عند الشاعر العربي أو مكانتها في الشعر العربي.

مكانة المرأة عند الشاعر العربي

قيل في العصر الجاهلي إن لكل شاعر من الشعراء قرينًا من وادي عبقر – وهو وادٍ يسكنه شعراء الجن – يُلقنه الشعر. فلافظ بن لاحظ صاحب امرؤ القيس، وجالد بن ظل صاحب عنترة بن شداد. وكذلك كان لكل شاعر امرأة يعشقها وينظم فيها ولها الشعر؛ فامرؤ القيس كان عاشقًا لابنة عم له يُقال لها عنيزة، وعنترة كان عاشقًا لابنة عم له يُقال لها عبلة. فكل شعراء العرب كانوا عُشَّاقًا، حتى إن منهم من اقترن اسمهم باسم المرأة التي عشقها، كجميل بُثينة وكُثيِّر عزة.

المرأة كانت أقوى سبب يدفع الشاعر لينظم الشعر. فقصيدة معاوية التي مطلعها:

نالت على يدها ما لم تنله يدي *** نقشًا على معصم أوهت به جلدي

لولا المرأة ما كانت نُظمت، حيث يُروى أن معاوية لم يكن قادرًا على النظم فحبسه ذووه، فمن العار عند العرب أن يكون فيهم شاعر لا ينظم الشعر. وبعد مدة من حبسه لم ينظم فجاءته ابنة عمه تختال وكشفت عن معصمها ووجهها، فجرى الشعر على لسانه.

ويقول الشاعر اللبناني ناصيف اليازجي:

كان الشيخ إذ ضاقت قريحته ينادي زوجته، فتأتي وتقف أمامه حينًا، فيبتسم لها ثم يصرفها ويعود لنظمه الشاق وقد فُتح عليه.

مكانة المرأة في الشعر العربي

لم يقتصر دور المرأة في كونها مُلهِمة الشعراء فقط، بل نظمت الشعر وأجادت النظم. فيُحكى أن أبا بكر الخوارزمي سأل الدخول يومًا على كبير فقيل له: لا يؤذن بالدخول إلا لمن حفظ عشرة آلاف أرجوزة من الشعر. فقال أبو بكر: شعر الرجال تريد أم شعر النساء؟

فكم كان يبلغ عدد شاعرات هذا العصر ليحفظ أبو بكر وحده عشرة آلاف أرجوزة من شعرهن؟ الشاعرات منهن منْ وصلنا سيرتهن وشعرهن، ومنهن منْ لم يصلنا عنهم شيء، هؤلاء بعض الشاعرات ممَّن وصلتنا سيرتهن وشعرهن:

1. الخنساء

هي «تماضر بنت عمرو بن الحارث السلمية»، صحابية وشاعرة مخضرمة، لُقِّبت بالخنساء بسبب ارتفاع أرنبتي أنفها. بدأت حياتها بنظم بيتين أو ثلاثة إلى أن قُتل أخواها معاوية وصخر، وكانت تحب صخرًا حبًّا جمًّا حتى نظمت فيه رثاءً حزينًا، وبالغت فيه حتى عُدت من أعظم الشعراء.

يا عينِ جودي بالدموعِ الغِزَار *** وابكي على أروع حامي الذمار

وعندما أنشدت رثاءها أمام «النابغة الذبياني» في سوق عكاظ أعجبه شعرها وقال: لولا أن هذا الأعمى (يقصد الأعشى) سبقك (أي أنشد شعره أمام النابغة قبل الخنساء)، لقلت إنكِ أشعر الجن والإنس. ورُوي في السيرة النبوية أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يعجبه شعر الخنساء، ويحثها على الإنشاد والاستزادة فيقول: «هيه يا خناس!» ويومئ بيده. وقال: «أما أشعر الناس فالخنساء بنت عمرو».

2. ليلى الأخيلية

هي «ليلى بنت عبد الله بن الرحال بن شداد بن كعب»، عاصرت صدر الإسلام والعصر الأموي. رفض أبوها زواجها من توبة بن الحمير، فنشأت بينهما علاقة حب عذري ونظمت فيه الشعر:

عفيفًا بعيد الهم صلبًا قناته *** جميلًا مُحياه قليلًا غوائله

لم تنل القرب منه. وعندما مات نظمت ترثيه قائلة:

أيا عين بَكِّي توبة بن حمير *** بسحٍّ كفيض الجدول المُتفجر
لِتَبكِ عليه من خَفَاجَةٍ نِسوةٌ *** بماءِ شُؤُونِ العَبْرَةِ المُتَحَدِّرِ

ولنا هنا وقفة لنتأمل التشابه بين رثاء ليلى لتوبة ورثاء الخنساء لصخر، في الاثنين كان هناك حث للعين لتبكي. ربما قد تأثرت ليلى بالخنساء، أو أن البكاء هو الحل ليُطفئ الحزن وجزع الموت، ولكن عند ليلى لا نجدها تبكي فقط بل تدعو النسوة للبكاء وكأن بكاءها التي صورته بفيض الجدول وحده لن يطفئ حزنها. وهنا أذكر قول الرافعي: «فعمود الشعر عند النساء الرثاء».

كانت هناك علاقة وثيقة تربط ليلى بالحجاج بن يوسف. فعُرف عن الحجاج أنه ما كان يُظهر بشاشة للخلق إلا لليلى، دخلت عليه في يوم وأنشدت:

إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة *** تتبع أقصى داءها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها *** غلام إذا هز القنا سقاها

فقال الحجاج عقب انتهائها: «لله ما أشعرها». وأعجب بشعرها الفرزدق وفضَّلها على نفسه، وأبو تمام ضرب بشعرها المثل، وكان بينها وبين النابغة الجعدي مهاجاة.

3. رابعة العدوية

هي «أم عمرو رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية» أو رابعة القيسية وكانت تُكنى أم الخير. من أتباع التابعين، ومن أوائل من نظموا الشعر الصوفي والعشق الإلهي، وسبقت الحلاج وابن الفارض وابن عربي فقالت:

أحبك حبين حب الهوى *** وحبًّا لأنك أهل لذاك
وأشتاق شوقين شوق النوى*** وشوقًا لقرب الخطى من حماك

4. نازك الملائكة

هي «نازك صادق الملائكة»، شاعرة عراقية، سماها أبوها نازك تيمنًا بالثائرة السورية نازك العابد. وُلدت في عائلة أغلبها شعراء، فأمها كانت تنظم الشعر وهي من أحفظتها أوزان الشعر، وجدتها لأمها الشاعرة هداية كبة ابنة الشاعر محمد حسن كبة، وخالاها جميل الملائكة وعبد الصاحب الملائكة شاعران، وخال أمها الشاعر محمد مهدي كبة.

يُنسب لها أول قصيدة شعر حر في الأدب العربي المسماة «الكوليرا»، ولها أيضًا شعر موزون أذكر منه بيتين من قصيدة «مأساة الحياة» وأختم بهما المقال:

كـيف يـا دهـرُ تنطفـي بيـن كفَّيـ *** ـــكَ الأمـاني وتخـمد الأحـلامُ؟
كـيف تَـذْوي القلـوبُ وهـي ضياءٌ *** ويعيشُ الظـــلامُ وهـو ظــلامُ