ماذا تعرف عن «دوستويفسكي»؟

في وسط فقير من الطبقة المتوسطة، ولد ونشأ الفيلسوف الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي الذي اشتهر بروايتيه «الجريمة والعقاب» و«الإخوة كارامازوف» اللتيْن تدوران حول الصراع النفسي، وتتعمقان في أعماق الشخصيات التي عاشت ظلال حقبة تاريخية مضطربة اجتاحت المجتمع الروسي، وبات النقد الأدبي يرى فيه واحدًا من أعمدة الأدب العالمي الذي تركت كتاباته أثرًا في دنيا الإبداع وجعلته كاتبًا ذا شهرة كوكبية.

المفارقة أن شهرته لم ترتفع ماديًا بمستواه، فظل أسير أزماته المادية وصعوبات الحياة.كان معلول الصحة وتفاجئه نوبات الصرع بين حين وآخر، وتحديدًا بعد وفاة والده، وقد استفاد من ذلك بتوظيف ما مرّ به في أعماله الروائية بامتياز. عُرف عنه الذكاء يافعًا، وتميز في دراسته الأكاديمية في كلية الهندسة. اشتهر بعزوفه وكراهيته للخدمة العسكرية. شارك في حركات سياسية مضادة لنظام الحكم وحكم عليه بالإعدام، لكن القدر تدخل في اللحظات الأخيرة وصدر بحقه الإعفاء.انعكس وضعه الفقير على بدايات حياته في طفولته، فعندما انضم عام 1833 للمدرسة الداخلية الفرنسية، لم يتمكن من متابعة تحصيله فيها لعدم قدرته على الانسجام مع طلبة المدرسة الأغنياء.

كان يتمتع بروحٍ طيبة، ويرى في نفسه مكافحًا للظلم ونصيرًا للفقراء، ولهذا أخذ على نفسه الوقوف بجانب فقراء المزارعين وتقديم يد العون لهم بكل ما يستطيع.نشر أولى رواياته «القوم الفقراء» عام 1845، وقال عنها الناقد الشهير فيساريون بيلنسكي حينها إنها أول الروايات الاجتماعية الروسية. وفي عام 1846 صدرت روايته الثانية بعنوان «الشبيه»، فلم تأتِ بالنجاح المأمول، مما أثر سلبًا على حالته الصحية.كان لقرار العفو الذي أصدره الإمبراطور نيكولاس الأول، وتحويل الحكم من الإعدام للسجن في سيبيريا، ثم إطلاق سراحه بعدها، الأثر البالغ في توظيف تجربته إبداعيًا، فألّف روايته المذهلة «بيت الموتى»، وفيها سجل دقائق وتفاصيل حياة السجناء ومعاناتهم.إدمان «دوستويفسكي» القمار جعل من أوضاعه المادية غير مستقرة، وقد وظف خبرته تلك أيضًا في روايته «المقامر».

على الصعيد الشخصي الأسري، تزوَّج «دوستويفسكي» من الأرملة «ماريا»، وكانت علاقتهما غير مستقرة ومتوترة، وبعد وفاتها تزوج من «آنا جريجورييفنا سنيتكينا».تُرجمت كتاباته للغات عالمية زادت عن مائة وسبعين خلال حياته وبعد موته – بنزيف في الرئة عام 1881 – ومما يسجل في سيرة الرجل أنه نشر أول عمل أدبي له وهو في الخامسة والعشرين من العمر، وأن والده كان من يقف خلفه مشجعًا لتوجهاته الأدبية واهتماماته الكتابية وأن حكومة الاتحاد السوفييتي تقديرًا منها لتميزه وإبداعه قد أصدرت عام 1956 طابعًا بريديًا خاصًا به، وفي عام 1971 صدر أمر تحويل بيته الذي شهد ولادة أعماله الروائية لمتحف يؤمه عشاق أدبه والمهتمون به.

يرى دوستويفسكي أن الإنسان هو الامتياز الوحيد على هذا الكوكب من بين الموجودات جميعًا، ولهذا فلا بد له من ممارسة حياته ويجرب ما فيها من آمال وآلام، يخطئ ويتعلم حتى يسمو ويصل للب الحقيقة بتجاربه وليس بإملاءات الواعظين، وهذا يصدر من وجهة نظر الكاتب التي ترى في الإنسان كيانًا معقدًا عميقًا ملتبسًا ومتناقضًا، ولا بد للأدب كما الأبحاث العلمية والاجتماعية والنفسية من أن تتضافر جميعًا لقراءة أعماق هذا الإنسان وتفسير سلوكاته وأصل الدوافع التي وجهت هذا السلوك، ومن ثم الوقوف على مدى ضعفه وهشاشته ومحدوديته كمخلوق أمام ما يتحلى في هذا الكون من عظائم ومعجزات يقف الإنسان أمامها محتارًا، ويظل في صراع وركض ولهاث في محاولة يائسة منه للوصول لنبع الحقيقة بلا جدوى.

ومن هنا تتكشف صراعاته وألمه وقلقة الدائم، لهذا يجد المتتبع لإبداعات دوستويفسكي تركيز أعماله جميعًا على قضية مركزية مهمة تتمثل في الوقوف على مفارقة المعارضة بين ما يتمناه الإنسان وما يلاقيه في مصيره الحياتي، على اختلاف وتنوع تلك الشخصيات، فكرًا وعمرًا ووعيًا وثقافة ومستوى تعليمي وكثافة وعُمق حضورها.من هنا، لا يجد المتابع غرابة في مجمل أدب الرجل، حينما يجده يعمل على إضاءة ركن الفجيعة والنظرة القلة السوداوية التي تكتنف أبطال أعماله وتشخيص معاناتهم، بالحفر عن أعماقها وكشف خطاياها ونقصها وصراعاتها وحالات ضعفها، فهو يرى أن التطهر والسمو لا يأتيان إلا بذلك، والعمل بدأب من قبل الكاتب على متابعة وكشف محاولات الإنسان، ولو لجأ للخديعة والتمويه لإخفاء نقصه وضعفه، وما تلك الشخوص جميعًا إلا مرآة ناصعة تعكس ما يعتمل في صدر الكاتب وعقله، فاستثمر تقنية تعدد الأصوات في رواياته لتعبّر عما يعانيه شخصيًا من عجز وتشتت وتناقض وقلق وخوف من المجهول، وبحث دائم غير مستقر للبحث عن معنى لوجوده، في محاولة للوصول لجواب يروي هذا العطش الدائم لديه، عسى أن يتمكن من إخفاء تناقضاته والشفاء منها، ومن هنا غرقت رواياته في أبعادها الفلسفية المعجونة بالتفسيرات الفرويدية للإنسان وما يصدر عنه.

هل يكون ما قلنا كافيًا ومبررًا لتفسير كل الاشتباكات الفلسفية الاجتماعية الدينية ومحاولات الانتحار التي فكر بها أبطاله أو أقدموا عليها؟ وهل هي من مجرد المصادفات أن تتكرر لفظة «فجأة» في رواية «الجريمة والعقاب» حوالي 560 مرة وما تعكسه من توتر وقلق وحجم العزلة التي يعيشها الإنسان فيها؟حياة حافلة قضاها أديب روسيا الكبير، تعرض خلالها لتجارب مريرة وعوز وحرمان، تقلبت به الأيام قبل أن يتربع على قمة المجد والشهرة الأدبية.

نساء في حياة «دوستويفكسي»

ما يلفت في حياة هذا الرجل علاقته بالنساء، تلك العلاقة التي مثلت فاصلة كبرى في تجربته الحياتية والإبداعية على حد سواء.السيدة ماري إيساييفا المستهترة الجميلة، زوجة السكير، تعرف إليها دوستويفسكي أثناء كتابته لـ«رسائل من بيت الموتى»، فهام بها ولم تردعه، بل انساقت وراء غزله وقضت بعض أيامها معه بحب من طرف واحد، وغادرته مسافرة مع زوجها بلا مراعاة لأشواق العاشق، فكتب لها:

آه لو تعلمين إلى أي حد تضنيني الوحدة هنا، إن عذابي الآن ليذكرني بالفترة التي قبضوا عليّ فيها ودفنوني حيًا في زنزانة رطبة ضيقة، لقد تعودت على رؤيتك، والآن محروم منك.. عشتُ خمس سنوات خارج المجتمع وجئتِ أنتِ فعاملتني كفرد من أسرتكِ، كم آلمتكِ بطباعي الشاذة، ولكنك أحببتني رغم ذلك، أدركتُ ذلك وأحسسته.

بعد مرور شهرين على رسالته تلقى نبأ وفاة زوج حبيبته، فسُرّ لذلك أملًا بزواجه منها، لكنها كانت قد وثقت علاقتها بمدرس وسيم، وما أن علم دوستويفسكي بذلك حتى ذهب إليها متوسلًا باكيًا، لكنه وقد أدرك فقدانها وعدم الفوز بقلبها، اتجه إلى تعويض ذلك بالتقرب لابنها بول، فعمل على إلحاقه بمدرسة داخلية طالبًا من أحد أصدقائه أن يقدم لبول مساعدات مالية، وقد ظهر ذلك في أدب دوستويفسكي في رواية «المستذلون المهانون» بعلاقة «ناتاشا» بعشيقها «اليوشا».

غيرت الحياة التي لا تسير أيامها بخط مستقيم من حال دوستويفسكي الذي ترقى لرتبة ملازم وزاد على إثر ذلك راتبه، وصادف ذلك في نفس الوقت مماطلة عشيق «ماريا» بالزواج، لتجدها فرصة للعودة إلى دوستويفسكي المتيم بها، فتزوجا سنة 1857، لكن السعادة لم تدم نتيجة الصرع الذي عاد لدوستويفسكي واشتد أثناء شهر العسل، فشحب لونه وصار فمه يمتلئ بالزبد كلما جاءته هذه الحالة، فلم تقوَ الزوجة الشابة على تحمل الحال وهي المعتادة على الترف.بولين سوسولوفا، صديقة دوستويفسكي الجميلة التي تعرّف عليها في ندوة، وكانت من المتحمسات لحقوق المرأة، والمولعات بالسياسة، جذبتها شهرة دوستويفسكي فوثقت علاقتها به، وكم تمنت أن يسيطر عليها عقلًا وروحًا، لكن العكس ما حصل، إذ سرعان ما سيطرت هي عليه بفتنتها، وتحول هيامها لاحتقار وكراهية، حتى كتبت في مذكراتها: «كنت أستيقظ من نومي فأتذكر ما حدث مع دوستويفسكي في الصباح، فيملأ الأسى نفسي وأجري إلى الحجرة منتحبة باكية».

لحق دوستويفسكي ببولين عندما علم بعد ذلك بسفرها إلى باريس، لكنها كانت قد وقعت في حب شاب إسباني أسود، كان لا يبادلها المودة والحب نفسه، وتحت إلحاح دوستويفسكي وافقت على الذهاب معه لإيطاليا وسويسرا، فترك ذلك في نفسه أثرًا جميلًا انعكس على كتابته بوضوح في روايته «المقامر».

نصحه أحد أصدقائه بضرورة الاستعانة بكاتبة توفيرًا لوقته، فكانت هذه النصيحة سببًا في اتصال دوستويفسكي بآنا جريجوريفنا التي بدأ يُملي عليها رواية «المقامر»، فأنس بها وأحسّ أن مزاجه يصبح أكثر هدوءًا وهو يملي عليها، وكثيرًا ما كان يتوقف عن الإملاء ويحكي لها بعض ذكرياته.

ليس هذا الجانب من حياته إلا كشفًا عن وجه آخر من معاناة الرجل الذي بحث عن الطمأنينة في التأليف والقمار والقراءة، ولم يعثر فيها جميعًا عما يروي عطشه الوجودي وقلقه الفكري، فالتجأ لهذا الباب: النساء؛ عسى أن يجد ما يتمنى، يضاف لذلك أن قلق الرجل وعزلته ومواضعات حياته جعلته مفتقدًا للحنان والطمأنينة التي لم يجدها، فحاول لذلك بتجريب القرب من المرأة حبيبة وزوجة وحتى عاملة عنده، وكانت النتيجة مزيدًا من ضياع وقلق وعزلة، وكأن لسان الحال يقول: أيها الإنسان لن تجد في الأرض وعليها جنتك وما تسعى إليه، فالتمسها في مبدأ يريحك من هذا القلق، ويجيبك على كل ما تبحث عنه، عن نفسك ووجودك وكونك.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.