مباريات دور المجموعات بكأس العالم قطر 2022 هي الأفضل على الإطلاق. 
جياني إنفانتينو، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم

منطقيًّا، كان من المتوقع أن يُشيد الرجل الذي يسكُن قمة الهرم الإداري للعبة بالمونديال الذي يُقام على أراضٍ عربية للمرة الأولى في تاريخه؛ لا لأي سبب سوى إبراز صوابية قرار الفيفا وإصرارها على إقامة كأس العالم في نسخته الاستثنائية، بغض النظر عن كل الانتقادات التي وُجهت للدولة المنظمة ومسئولي الفيفا على حد سواء. 

لكن المفاجأة كانت تنامي شعور بين المشجعين بأن هذه النسخة استثنائية بالفعل، أكثر متعة عن نُسخ سابقة، فهل هناك ما يدعم هذا الشعور؟ أم أنها حالة مؤقتة من الانبهار ببطولة تُقام كل أربع سنوات؟ 

بريق كرة القدم الدولية 

في مقاله «لماذا تعد كرة القدم الدولية أكثر متعة من البريمييرليغ؟» أشار الكاتب «ريان أوهانلون» إلى عدَّة عوامل أثرت إيجابيًّا على نظرة الجماهير لبطولات مثل كأس العالم، وتفضيل قطاع كبير لها مقارنةً بكرة القدم الخاصة بالأندية. 

طبقًا للكاتب، ساعد تدفُّق الأموال بغزارة تجاه الأندية بآخر عقدين من الزمن، في تحويل بوصلة المدربين الأفضل في العالم نحو تدريب الأندية بدلًا من المنتخبات؛ لأنها تضمن أموالًا أكثر، كرة قدم أكثر جودة، والأهم وقتًا أطول لتطبيق الأفكار. 

نتيجة لهذا التحوُّل، يعتقد «جوناثان ويلسون»، مؤلف كتاب «الهرم المقلوب: تاريخ تكتيكات كرة القدم»، أن أساليب لعب كرة القدم الدولية أصبحت مجرَّد محاكاة لكرة القدم التي تُقدمها الأندية، بما فيها من تطورات، عكس أوقات سابقة، كان كأس العالم خلالها منبع كل ما هو جديد. 

كرة القدم يتم تطويرها داخل الأندية لا المنتخبات. 
جوزيه مورينيو، المدير الفني لروما الإيطالي

ومع تراكم ثروات الأندية أصبح المشهد كالتالي: امتلاك المنتخبات التي تشارك بالبطولات الدولية للاعبين ممتازين تم تطويرهم داخل الأندية، ووجود مدربين لا يمتلكون وقتًا كافيًا لصبغ المنتخبات بفرشاتهم التكتيكية الخاصة. والنتيجة النهائية والمتوقعة هي أن نتائج كأس العالم أصبحت أقل قابلية للتوقع مقارنة بمباريات الدوريات المختلفة، وهو ما يجعلها أحيانًا أكثر إثارة بالنسبة للمشجعين

لا يبدو هذا الاستنتاج مُبهرًا، خاصة إذا ما أضفنا له حقيقة لعب بطولة كأس العالم كل أربع سنوات، الأمر الذي يمنح فعالياتها قيمة مضاعفة. لهذا يبدو أننا نحتاج للإجابة على سؤال أكثر تعقيدًا: من حيث المتعة، هل يعد كأس العالم قطر 2022 أكثر متعة بالفعل مقارنة بالنسخ السابقة؟ 

كيف تُعرِّف المُتعة؟ 

أثناء محاولة الإجابة على السؤال أعلاه، نصطدم بأول مشكلة، وهي أن تعريف المتعة نسبي، يختلف من شخصٍ لآخر، وكي نتغلَّب على هذه المعضلة، يمكننا تقسيم المتعة لشقين: متعة مشاهدة أكبر عدد من الأهداف ومتعة الاستمتاع بالمفاجآت داخل البطولة. 

في الواقع، عندما تضع نسخة كأس العالم قطر 2022 في مقارنة مع النسخ التي سبقتها من حيث متوسط عدد الأهداف المُسجَّلة، تجد أن مونديال قطر يحل ثالثًا بمعدل تسجيل للأهداف وصل لـ(2.63 هدف بالمباراة)، مقابل (2.64 هدف بالمباراة) في نسخة روسيا 2018 و (2.67 هدف بالمباراة) في نسخة البرازيل 2014. في حين تتفوق نسخة الدوحة من حيث الأهداف المُسجَّلة على نسخة جنوب أفريقيا 2010 والتي شهدت معدَّل تسجيل يساوي (2.26 هدف في المباراة)، وكذلك نسختي ألمانيا ( 2.3 هدف لكل مباراة)، وكوريا واليابان (2.5 هدف لكل مباراة).

بالتالي، لا يصب معدَّل تسجيل الأهداف في مصلحة المونديال القطري، خاصة إذا ما أضفنا لذلك انتهاء 7 مباريات بالتعادل السلبي، قبل انتهاء البطولة بمباراتين، وهو الرقم القياسي لعدد المباريات السلبية في تاريخ البطولة. 

إذن، هل هذه النسخة مُملة؟ لنرَ!

بعد انتهاء دور المجموعات تساءل «فيل ليك»، محرر «إندبندنت» البريطانية، عما إذا كانت نسخة كأس العالم 2022 أكثر نُسخ كأس العالم غير القابلة للتوقُّع. واتضح بعد مقارنته لهذه النسخة مع آخر ست نسخ لكأس العالم مجموعة من الحقائق، التي تصلُح للإجابة على سؤاله، خاصة أنه بانتهاء دور المجموعات ينتهي نحو 75% من مباريات كأس العالم. فما هي؟ 

أولًا، لم ينجح أي منتخب بهذه النسخة من عبور دور المجموعات بالعلامة الكاملة. ثانيًا، لم ينجح سوى 5 منتخباتٍ في العبور من دور المجموعات دون هزيمة، وهو العدد الأقل في تاريخ البطولة بنظامها الحالي. ثالثًا، شهدت 12 مباراة من أصل 48 مباراة فوز الفريق الأقل من حيث تصنيف الفيفا. رابعًا، نجح 25% من المنتخبات التي تواجه منتخبات تحتل 20 مرتبة أعلى في تصنيف الفيفا من الانتصار في مواجهتهما معًا، وهي النسبة التي ارتفعت من 9% في 2014، و18% في 2018. 

 الآن يمكننا أن نصل لنصف إجابة، بطولة 2022 قدَّمت للعالم طبقًا شهيًّا من المفاجآت، التي تُعد بالفعل أحد الأشياء التي يبحث عنها مشجع كرة القدم الذي سئم تتبُّع الدوريات التي تبدأ في أغسطس وتنتهي في مايو من كل عامٍ، وهو يعلم تمامًا هوية أبطالها، إلا فيما نَدَر. 

واستكمالًا لهذا النوع من المتعة، قبل انطلاق الدور ربع النهائي من كأس العالم، قدَّم موقع «Five Thirty Eight»، الذي يعتمد على نظام إحصائي خاص يقيِّم من خلاله المنتخبات المشاركة في البطولة، مجموعة من التوقعات التي أكدت عبور كل من منتخبات البرازيل، البرتغال، إنجلترا والأرجنتين للدور نصف النهائي. 

في الواقع، فشلت الثلاثة المنتخبات التي تمتلك الحظوظ الأوفر، طبقًا لهذا النموذج الإحصائي، في الفوز. 

كرة قدم أكثر ذكاءً 

إن كنت قد نسيت، فنحن قد اتفقنا بالسابق على أن كرة القدم الدولية لم تعُد سوى انعكاس للتطور الذي حَل على كرة القدم الخاصة بالأندية، هذا بالتحديد ما جنَت نسخة قطر 2022 ثماره. 

يخبرنا «دان كلارك» و«جوش نوبل» من «فاينانشيال تايمز» أنه بعد تحليل الإحصائيات الخاصة بالـ 56 مباراة الأولى من كأس العالم، اتضح أن المنتخبات أصبحت أكثر ذكاءً. 

فمثلًا، على الرغم من قلة عدد التسديدات في المجمل، نجحت الفرق في تسجيل عدد مقارب من الأهداف. كذلك ارتفع عدد الأهداف المسجلة من العرضيات بنسبة 83% مقارنة بالمرحلة نفسها من عام 2018. 

يؤكد كلارك ونوبل على أن لعب البطولة في الشتاء وفي قطر تحديدًا أفاد البطولة بشكلٍ عام؛ أولًا لأن اللاعبين لم يتم استهلاكهم بعد في دورياتهم، وثانيًا لأن إقامة البطولة في مدينة واحدة جنَّب اللاعبين الإرهاق الناتج عن التنقُّل بين المُدن المختلفة. 

وفقًا لتحليلهما، يمكننا أن نلحظ ذلك في معدلات الركض الخاصة بالمنتخبات المشاركة في كأس العالم، والتي شهدت ارتفاعًا ملحوظًا عن معدلات الركض الخاصة بالمنتخبات المشاركة في كأس العالم 2018. 

وأخيرًا، استفادت البطولة نفسها من تعديل قانوني الوقت المحتسب بدل الضائع والتبديلات الخمس، اللذين سمحا للاعبين البدلاء بإحداث الفارق بالفعل، حيث نجح البدلاء في التسجيل في 24 مناسبة، مقارنة بـ 16 في نسخة 2018. 

المونديال خارج الملعب 

بما أن تشجيع كرة القدم سلوك عاطفي بالأساس، لعل أبرز ما يميِّز هذه البطولة تحديدًا هو كونها بطولة الوداع لجيل كامل من اللاعبين، تألق على مدى 20 سنة كاملة، وعلى رأسهما ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو، اللذان كانا طبقًا لـ «روري سميث»، كاتب «نيويورك تايمز» الأمريكية، الشخصيتين المركزيتين للصحافة الرياضية. 

هذه البطولة تحديدًا مختلفة، هي فرصتهما الأخيرة لنيل اللقب بعيد المنال، وتعزيز أسطوريتهما، بل تأليههما عند البعض. 

حقيقة، وحتى إن ساهمت كل العوامل أعلاه في خلق حالة من الاهتمام بكأس العالم في قطر، تظل القصة أكبر من اختزالها في كرة القدم داخل الملعب وحسب، خاصةً أن هذه البطولة تحديدًا كانت قد أقيمت بعد سنواتٍ من الاستقطاب بين العالمين الغربي والعربي. 

طبقا لـ «سايمون كوبر»، مؤلف كتاب «Soccernomics»، كأس العالم في الدوحة يُعد التعريف الحرفي لشعار الفيفا: «كرة القدم قادرة على توحيد العالم». فحسب رأيه، قدمت النسخة المقامة في الدوحة شكلًا مختلفًا من الاحتفال بالحدث، يتمثَّل في اكتظاظ عربة «مترو» واحدةً بمشجعين من جميع الجنسيات والخلفيات الثقافية والأيديولوجية، حيث تتراجع حمية القومية والتعصُّب لصالح قيمة مثل التسامح والاعتراف بالآخر. 

رأيت مشجعين سعوديين مع مجموعات مختلطة من الإيرانيين، يشاهدهم رجال إنجليز حليقو الرءوس، تختلط النساء المحجبات بالكامل مع النساء اللواتي يرتدين السراويل القصيرة، البرازيليون يختلطون مع الأرجنتينيين، والجميع يصورون الجميع على هواتفهم.
سيمون كوبر. 

في النهاية، ربما لا يمكننا الجزم بأن كأس العالم في قطر هي الأكثر متعة، لكنها دون شكٍ نسخة استثنائية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.