إن الشعب الأفريقي، أُخذ على حين غفلة، لرؤيته أن الأمم الأوروبية الرائدة في التربية والمسيحية، لم تجد من طريقة أخرى غير السيف، وما كدسته من أسلحة الدمار لتسوية خلافاتها الدبلوماسية.
د.د.ت. جابافو – مُربِّي مسيحي جنوب أفريقي. [1]

السينما وترسيخ الصورة النمطية

عديدة هي الأفلام التي خرجت للنور لتتحدث عن البطولة الأنجلو-أمريكية في الحرب العالمية الأولى، وأحيانًا يكون لفرنسا دور البطولة كما نرى في أيقونة ستانلي كيوبريك عن الحرب العالمية الأولى Paths of Glory، وتتعدد الأفلام، ويتعدد أبطالها، وتتنوع طرق تقديمها والإبداع فيها، بين قصة متماسكة ومؤثرة، أو أداء مميز، أو خطبة تاريخية، أو حتى كما وصل إلينا فيلم الحرب العالمية الأولى الأخير «1917» كتحفة بصرية، ولكن الأهم بين كل هذا، أن البطل واحد لا يتغير.

تتغير أسماؤه، قد يكون كيرك دوغلاس، أو براد بيت، أو هامفري بوغارت، أو الدور الخالد لـ بيتر أوتول «لورنس العرب» وهو الأشهر لدينا نحن العرب عن الحرب العالمية الأولى، ولكن الأهم من تعدد الأسماء، ثبات الصورة وترسيخها في الذهن، أن بطل الحرب العالمية الأولى، كان أشقر ذا عينين زرقاوين، وبشرة تحمر بشدة حين تلوحها الشمس، وذراعين مفتولين، وبنيان قوي رياضي، منظر بطل لا يستجدي الشفقة والرثاء، ولكنه يثير الإعجاب، والتمني بأن تكون مثله. ولكن هل كان كلهم هكذا؟ هل كان كلهم أوروبيين أصلاً؟ الإجابة بالطبع لا.

هذا ما أريد تناوله، الحديث عن جنود خاضوا حربًا لا ناقة لهم ولا جمل، ولولاهم لم يُكتب لمن انتصر النصر، وسواء سيقوا إلى الحرب قهرًا، أو طوعًا وتطوعًا، لا تجد في أفلام الغرب المنتصر -التي شاهدتها على الأقل- لافتة شكر أو تحية لهؤلاء «الهمجيين» الذين شاركوا في الحرب باسم الإمبراطورية، التي جاءت لبلدانهم جالبة الحضارة إليهم.

أرقام ألبير سارو: وزير المستعمرات الفرنسية

منذ أواخر التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين، تهافت الأوروبيون على القارة الأفريقية وأجزاء من الشرق الآسيوي. في ذلك الوقت كان السباق الإمبريالي على أشده، ودول أوروبية تحمل شعلة الحضارة تتنازع وتتوافق حول الأراضي في مستعمراتهم وراء البحر خارج أوروبا، وحتى انهيار المستعمرات في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كانت الدول الأوروبية تفخر كثيرًا بمستعمراتها، لم تكن وصمة عار تحاول أن تمحوها من التأريخ السينمائي على الأقل، لذلك كتب «ألبير سارو» وزير المستعمرات الفرنسية والحاكم الأسبق للهند الصينية في عام 1923 أعقاب الحرب الأولى، كتابه «تنمية المستعمرات»، كتبه متباهيًا بالأمة الفرنسية بين باقي الأمم، ومتحدثًا عن المشاريع السياسية والاقتصادية، التي ستمثل مستقبل السياسة الاستعمارية الفرنسية في حقبة ما بين الحربين.

تباهى أيضًا سارو في كتابه بجنود تلك المستعمرات الذين أثبتوا أنه لا يجب على فرنسا الخوض في المشروع الطموح فحسب، بل وتثبتت «تلك المستعمرات البعيدة أنها لم تعد أراضي تُشكِّل مسرحًا لأحلام الروائيين وتخيلاتهم فحسب، بل وقد أضحت أراضي تفيض بالحياة القوية وغنية بالرجال والموارد الطبيعية، وقد أثبتت حيويتها في ساعة الخطر الأعظم». وبرهن المشروع الاستعماري من خلال هذه النتائج الإيجابية أنه «مثمر». [2]

تلك النتائج الإيجابية المثمرة التي قصدها سارو، تتمثل في أن الأراضي الواقعة تحت الاستعمار الفرنسي-أفريقيا الغربية والاستوائية، والهند الصينية، ومدغشقر إضافة إلى تلك التابعيات الصغيرة المنتشرة في أجزاء أخرى من أفريقيا والمحيطين الهندي والهادئ والكاريبي وأمكنة أخرى من العالم- ساهمت في محو 650 مليون فرنك من كلفة الحرب من خلال القروض الحربية أو التبرعات الخيرية، وشحنت في الفترة من 1914-1918 نحو 2.5 مليون طن من مختلف المواد إلى فرنسا، أما شمال أفريقيا (تونس والجزائر والمغرب) فقد ساهمت بمليار فرنك على شكل اكتتابات قروض الحرب، ونحو ثلاثة ملايين طن من المواد التي لها علاقة بالحرب. [3]

وللأمانة التاريخية أن نذكر أن تلك المساهمات شكّلت 2% من مساهمات فرنسا في الحرب التي بلغت ثلاثين مليار فرنك، ولكن كيف كان ليتأتى النصر لفرنسا وحلفائها في تلك الحرب الصناعية الحديثة، لولا استغلال كل فرنك؟

هذا السياق يجعلنا ندرك قيمة تلك المساهمة التي قامت بها المستعمرات في صناعة النصر الفرنسي، فهي تبدو أكثر وضوحًا مما تظهر عليه كنسبة مئوية، ولنتأمل تفاخر «سارو» وهو يقول:

إن مساهمة المستعمرات أكبر بكثير مما يمكن للمرء أن يأمله، وهكذا فإن هذه المستعمرات، التي اعتبرت -بلا مبالاة- ترفًا شاقًا لكن ضروريًا للهيبة الدولية للأمة العظيمة، أظهرت في شكل لافت أنها تستطيع، في الأوقات الخطيرة، تقديم مساندة فعالة للدفاع عن المتروبول.[4]

رجال ريا وسكينة!

القاسم المشترك الأعظم في سيرة حياة كل الذين عُرفوا فيما بعد باسم «رجال ريا وسكينة» بعد التغريبة هو «الشغل في السلطة»، وهو مصطلح شاع استخدامه على ألسنة المصريين خلال سنوات الحرب العالمية الأولى وما بعدها… ليشير إلى ما يقرب من مليون ومائتي ألف من الفلاحين المصريين تطوعوا بإرادتهم، أو سُخِّروا على الرغم منهم لكي يقوموا -نيابة عن جنود قوات الحلفاء- بكل ما ليس عسكريًا في المجهود الحربي.[5]

هكذا تكلم صلاح عيسى في وثيقته التاريخية «رجال ريا وسكينة» متحدثًا عن حسب الله سعيد، ومحمد عبد العال، وعبد الرازق، السفاحين فيما بعد، المذلون المُسخَّرون للإمبراطورية البريطانية آنذاك.

فعلى ألحان سيد درويش: «بلدي يا بلدي… وأنا بدي أروح بلدي… بلدي يا بلدي… السلطة خدت ولدي»، كان هؤلاء يحفرون الخنادق ويمدون الأسلاك الشائكة ويُقيمون أعمدة التليفون والتلغراف ويزيلون تلال الرمال، ويمهدون الطرق، وينشئون السكك الحديدية، ويحملون الذخائر، ويجرون المدافع، ويكنسون المعسكرات، ويحملون الطعام، وينظفون الدواب، ويغسلون الأواني والملابس، ويعيدون ترتيب الأسرِّة.

لو أن مليون ومائتي ألف فلاح مصري فقط خدموا في الجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى! فكم من البؤساء سيقوا كالحملان إلى المذبح في تلك الحرب الأوروبية؟

من المثير للسخرية في تلك الحرب، أن أول جندي في الخدمة البريطانية يطلق رصاصة في الحرب، كان «الحاجي غرونشي»، وهو كشّاف أفريقي في قوة الحدود الغريبة، أثناء محاولة بريطانيا السيطرة على لومي عاصمة توغو.[6]

الحاجي غرونشي لم يكن الأخير في الجيوش الأنجلو فرنسية في تلك الحرب من سكان المستعمرات، فمن يتأمل في جنود فرنسا الذين أُطلق عليهم «السكان الأصليين» في الحرب، يجد نحو 166 ألف مجند من غرب أفريقيا، و140 ألف من الجزائر، والهند الصينية منحت 50 ألفًا من رجالها، تونس المحمية الفرنسية قدمت 47 ألفًا، ومدغشقر 46 ألفًا، المغرب 24 ألفًا، وبهذا نرى أنه من أصل أكثر من ثمانية ملايين فرنسي عُبئوا للحرب دفاعًا عن بلدهم في الفترة 1914-1918، كان نصف مليون منهم من رعايا المستعمرات، الذين فقدوا أرواحهم دون رثاء وتخليد.[7]

أما بريطانيا، فقد جنّدت نحو 200 ألف رجل من نياسالاند (مالاوي حاليًا)، كحمّالين وناقلين، وفي أوائل العام 1917 جنّدت حوالي 230 ألف رجل من شمال روديسيا. ويُقدَر أن البريطانيين وحدهم استخدموا ما لا يقل عن مليون حمّال في الجيش. هؤلاء الحمّالون، الذين أسيئت تغذيتهم وعلاجهم، مات منهم 100 ألف من المرض، ولم تعترف وزارة المستعمرات بتلك الفضيحة إلا عام 1934.[8]

وهناك في الهند البريطانية، خدم في جيش الملك ما يزيد على مليون رجل، خدم نحو 900 ألف منهم فيما وراء البحار، وشكّلت جزر الهند الغربية فوجًا من أكثر من 15 ألف خدموا في أفريقيا وفي مصر. ومن الهنود من مات في الخطوط الأمامية في الحرب، فنحو 53 ألف هندي ماتوا في الحرب في الشرق الأوسط، فضلاً عن العائدين بذكرى خالدة من الحرب، على شكل ساق مبتور، أو عين لا ترى. ومن الجدير بالذكر أن الجنود الذين قدمتهم مستعمرة أستراليا إلى المملكة شكّلوا النسبة الأعلى من الإصابات في الجيش، بنحو 65% من أي قوة تقف مع بريطانيا وحليفاتها.[9]

تمايزت أساليب التجنيد وتنوعت بين المستعمرات، فالتطوع كان اختياريًا بالكامل في المغرب، وإلزاميًا فقط في تونس، والاثنين في الجزائر وغرب أفريقيا والهند الصينية ومدغشقر. ولكن، في مستعمرات أفقرها الغرب وامتص مقدراتها، كان يأمل بعض البسطاء أن يجدوا في التطوع بالجيش المال والمركز والفرصة، ولكن ذهبوا متطوعين، ولم يجدوا سوى بعض القروش التي لا تُسمِن ولا تغني من جوع.

وقد اعتمد الأسلوب الفرنسي في التجنيد في غرب أفريقيا على نظام «الكوتا»، فهناك مكاتب على المستوى المحلي، يديرها مديرون من السكان الأصليين، وهؤلاء ضغطوا على السكان بكل ما امتلكوا من قوة، بين الغرامات والسجون أو العمد إلى خطف وحبس أهل المجندين وأخذهم رهائن، حتى يذعنوا لرغبة التجنيد، وقد يُعرِّض عدم الامتثال قرى بأكملها للعقاب الجماعي، مثل القضاء على المحاصيل والأنعام والممتلكات العامة.[10]

وفي بريطانيا، نعود لرجال ريا وسكينة كمثال، فهؤلاء الصعايدة والفلاحين أجادوا في وظائفهم خلال فترات التجنيد التطوعي في الجيش، حتى قال عنهم السير «أرشيبالد مري» القائد العام للحملة البريطانية على جزيرة مودوروس، إن ما فعله هؤلاء تحت وابل من القنابل يعد بمثابة معجزة. وهو ما دفع الجيش البريطاني لتنظيم فرقة عُرفت فيما بعد بـ «سلاح الصعايدة»، ولما لم يعد يكفي عدد المتطوعين لمتطلبات الجيش البريطاني، لجأ إلى نظام السخرة وتعيين مدراء على كل قرية من أجل تجنيد سكانها، وإذا لم تعط القرية العدد الكافي من الرجال، فُرض عليها حصار وعُذبوا وقُهروا كما هو الحال في المستعمرات الفرنسية.[11]

على هامش الحرب

لم تجتمع دول أوروبا المتحاربة في تلك الحرب إلا على كلمة واحدة، وهي سمو الجنس الأبيض، فجدير بالذكر أن الأغلبية العظمى من هؤلاء الجنود من السكان الأصليين، خدموا فيما وراء البحر، وليس في حروب البر الأوروبية إلا قليلاً، وهذا كان من أجل شيء هام، وهو الخوف من أن يرى الأفارقة، البيض يحاربون بعضهم بعضًا، فتتقوَّض لديهم فكرة تفوق الحضارة البيضاء.

والأسوأ من ذلك أنه في حال اختارت سلطات الانتداب استخدام الجنود السود في الحرب في المستعمرات ضد السكان البيض الأعداء، فسيقوِّض ذلك التراتبية الهرمية العرقية التي يرتكز عليها الحكم الأبيض، وهذا هو السبب الذي دعا البريطانيين بعد استسلام «ليتو فوربك» قائد الجيش الألماني في حملة شرق أفريقيا، إلى الانتباه إلى عدم نزع سلاح جنوده البيض على مرأى من السكان الأصليين السود، إذ اعتبر ذلك أمرًا من شأنه إذلال جميع البيض في أعين السود.[12]

إذن فقد شارك هؤلاء الجنود في حرب لسيدهم الأبيض، وليست لهم، وفي ظل نيران تلك الحرب، لم ينسَ السيد الأبيض، أن يحمي السيد الأبيض الآخر ولو كان عدوه، من أن يقتله سكان المستعمرات، ولو كانوا جنوده. فكانت تلك حرب لجنود لم يُخلَّدوا في السينما البيضاء، ولم يظفروا حتى بفرصة الانتقام من مستعبديهم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. أ. آدو بواهن، “تاريخ أفريقيا العام: المجلد السابع”، بيروت، المطبعة الكاثوليكية ش.م.ل – اليونسكو، 1990. ص 226.
  2. إيريز مانيلا وروبرت غيروارث، “حروب الإمبراطوريات (1911-1923)”، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2016، ص 209.
  3. المرجع السابق، ص 214.
  4. المرجع السابق، ص 219.
  5. صلاح عيسى، “رجال ريا وسكينة: سيرة سياسة واجتماعية”، القاهرة، دار الأحمدي للنشر، 2002، ص 84.
  6. إيريز مانيلا وروبرت غيروارث، “حروب الإمبراطوريات (1911-1923)”، مرجع سبق ذكره، ص 281.
  7. المرجع السابق، ص 226.
  8. المرجع السابق، ص 270.
  9. المرجع السابق، ص 287.
  10. المرجع السابق، ص 228.
  11. صلاح عيسى، “رجال ريا وسكينة: سيرة سياسة واجتماعية”، مرجع سبق ذكره، ص 87.
  12. إيريز مانيلا وروبرت غيروارث، “حروب الإمبراطوريات (1911-1923)”، مرجع سبق ذكره، ص 135.