في الغالب تحدث الكتابة بطريقة تلقائية لدى المرأة أكثر مما لدى الرجل، ربما لاختلاف الطبائع فيما بينهما؛ فالرجل طوال الوقت لديه على الأقل خطة واحدة في رأسه، معظم الرجال لا يمضون برؤوسٍ فارغة، لديهم خطة مُسبقة لكل شيء تقريبًا، لا يهم إن كانت خططهم جيدة أم سيئة، ستودي بالواحد منهم إلى النجاح أم الفشل! المهم أنه يحاول بذل الكثير من الجهد في وضعها.

بينما المرأة تميل إلى التلقائية، تضع تصورات للمدى القريب فقط، ربما لأنها تعرف أن المفاجآت قادمة لا محالة. فالمرأة التي وضعت طفلها للتو لن يكون لديها أي تفسير أو تصور مسبق لتغير الهرمونات والرسائل المتبادلة طوال الوقت ما بين مخها وأعضاء جسدها، سواء قبل الولادة بتهيئة الجسم لهذا الحدث والسماح بتمدد عضلات الحوض لأقصى امتداد كي تسمح بمرور رأس وليدها، ولا للإشارات التي أرُسلت للتو للغدد اللبنية لتبدأ في إفراز اللبن الذي سيتغذى عليه الرضيع لأشهر قادمة قد تتعدى العام الواحد في الكثير من الأحيان.

يبدو الأمر جنونيًا كما لو كان هناك مايسترو صغير في الداخل يرسل الإشارات ويعطي الأوامر لكل عضو من أعضاء فرقته قبل أن يبدأ العزف.

لن تشعر المرأة بأي شيء من كل هذا سوى بأن الحليب قد بدأ فعلًا في التدفق وهكذا هي الكتابة. يدور ما يدور في عقل المرأة. يتبادل الجميع الرسائل. يبدأ أعضاء الفرقة في الدخول إلى خشبة المسرح واحدًا تلو الآخر. يقف منْ يقف ويجلس منْ يجلس، وأخيرًا يبدأ المايسترو في السيطرة على تلك الفوضى الداخلية، فينتظم الإيقاع وتتدفق الكتابة.

في أحيانٍ أخرى لا يحتاج الأمر لوجود مايسترو. بل إن الأمر كله قد يخرج عن السيطرة في لحظة، إذ تندفع المعازف كلها للعمل في وقت واحد، تدق في وجه الجميع كشلال يُوجِد لنفسه المخرج المناسب، مُعتمدًا على قوة اندفاعه التي لن تسير على طريقٍ واضح، بل ستظل تمضي في عدة اتجاهات عشوائية، قبل أن تخرج من أقل النقاط المحيطة ضعفًا، ضاربةً بالجميع عرض الحائط.

الأمر ربما أشبه بماء الولادة حين يندفع حاملًا الجنين، كشلال قوي دون أدنى قدرة على التوقف قبل تمام الخروج والانسلاخ. أشياء كثيرة تتدفق داخل المرأة دون ميعاد، كدم الحيض وماء الولادة. فجأة تجد المرأة نفسها في داخل المشهد دون أدنى مقدمات، وهكذا كنت أجد نفسي أيضًا فجأة في داخل القصة. فجأة أجدني في بيت لا أعرفه، أحادث غريبًا لم أره من قبل. الجمل تنساب على لسانينا كما لو كانت مكتوبة سلفًا. أشعر بأحاسيس ومشاعر تُثقلني وتُحدِّد كلماتي وأفعالي القادمة. الأمر ربما أشبه بفكرتنتا الطفولية عن التلفاز. الذي بمجرد ما إن نجد شاشته مليئة أمامنا بالألعاب والحلوى، حتى نعتقد أننا لو كسرنا تلك الشاشة سنتمكن من الدخول عبر هذا الجهاز الغريب لنستمتع بكل ما رأيناه للتو. هكذا بالضبط كنت أجد نفسي؛ فجأة في داخل المشاهد. لكن على رأس الجهاز تقف أنا أخرى، تُدِّون ما يحدث وتنقله عني بمنتهى الصدق والدقة، كما لو كانت فعلًا أنا.

هل لاحظت في الفقرة السابقة الإيقاع الدافئ لكلمة حليب؟ ما رأيك لو قارناها بكلمة حبيب؟

السؤال بعيد بعض الشيء عن الموضوع الذي ابتدأنا به لكن الجرس الموسيقي ودفء الحليب حملاني للتفكير غصبًا في مدى اقترابه من كلمة الحبيب، التي لها نفس الجرس والأثر الدافئ.

مجرد حرف واحد هو ما شكّل الفرق بين الكلمتين، هذا يعني أن هناك اتفاقًا واضحًا ما بين بقية الأحرف، مما يشي بالانسجام شبه التام ما بين الكلمتين اللتين اتفقتا في الثلاثة أحرف المتبقية، عوضًا عن التوافق في النطق والإيقاع كما لو كانتا مشتقتين من بعضيهما البعض. وكأن منْ تغذّى على حليب المرأة حبيبها لا محالة.

ومن زاوية أخرى فإن أحبت المرأة رجلًا منحته حليبها كطفل دونما تفكير. الرابط هنا تلقائي. ينشأ بمجرد التعرف لحقيقة الآخر. سواء كان طفلًا أو محبوبًا. كلاهما سوف يشتركان في النهل من فيض الحنان الأبيض.

على ذكر الحليب أتذكر أن بعد إنجابي لطفلتي الأولى، اكتشفت أن حليبي لم يكن كافيًا، ينتهي ولا تكف الطفلة عن البكاء. اضطررت لاستشارة طبيب والذي وصف لي بدوره حليبًا صناعيًا كي يساعد الطفلة على الشبع. أصابني الأمر بغصة شديدة وقتها، لدرجة أنني في فترة حملي بطفلتي الثانية لم أتوقف عن الابتهال إلى الله لكي يمنحني حليبًا غزيرًا.

استُجيبت الدعوة ولكن الغصة والإحباط كانا أقوى في تلك المرة، كانا كعاصفة كادت تقتلعني، إذ جاءت الطفلة بمرضٍ يمنعها من الرضاعة. ظلّلت لأشهر أجمع الحليب من صدري في أكواب معقمة أرصها متجاورة في الثلاجة، عل البنت التي لم تتعد رضعتها الواحدة عشرة مليمترات من الحليب، تحتاجه. ومضيت في كل يوم كسابقه، أملأ الأكواب وأفُرِّغها، حتى قررت التخلص من هذا الحليب الذي بات يُثقلني ويضعني على حافة المرض النفسي والعضوي. ابتلعت حبتين من عقار يساعد على إيقاف الحليب، وشعرت بالندم بعدها، رغم أن الطفلة كانت تعتمد اعتمادًا كليا على نوع معين من الحليب خاص بالأطفال الخُدج أو ناقصي النمو.

ظلّت لشهرين تقريبًا تتناول حليبها عن طريق أنبوب إطعام خارجي. نعم رُزقت وقتها بالحليب الكافي، لكني لم أحرم فقط من منحه للطفلة، بل حرمتُ أيضًا من مجرد ضمها إلى صدري وإطعامها بزجاجة الإرضاع بطريقة طبيعية.

كنت أضع الطفلة على السرير في وضع شبه قائم، وأضع سرنجة ذات حجم كبير في نهاية الرايل أو الأنبوب المار من إحدى فتحتي الأنف، أو حتى من الفم وصولًا إلى معدتها. أضع الحليب جزءًا بعد جزء في المحقن وأتركه لينزل إلى معدة الصغيرة بفعل الجاذبية.

هنا وفي تلك اللحظة كنت أبدأ في حبس أنفاسي خوفًا من أن تُعيد الطفلة الحليب مجددًا بطريقة عكسية، وفي أحيان أخرى وبعد تنهيدة راحة أطُلقها بمجرد إتمام عملية الإرضاع، كان الحليب يُفاجئني خارجًا من فمها أو أنفها، لأشعر وقتها بمنتهى الإحباط، إحباط شديد الشبه باللحظة التي تُدرِك فيها أن ما كتبته واجتهدت فيه للتو كان سيئًا، وليس أمامك أية حلول سوى تمزيق الورق، أو ضغط زر المسح أو الإلغاء لمحو كل هذا المجهود كأنه لم يكن. لكن في حالتي كان يمحو نفسه بنفسه بلا أي إذن مسبق مني أو إرادة.

بعد الشهرين كانت نصيحة الأطباء أن أتخلّى عن أنبوب الإرضاع. تلك الوسيلة الوحيدة القادرة على منحها الطعام دون صعوبة أو جهد، لتبدأ رحلات البحث عن زجاجة إرضاع مناسبة لحالتها. كنت أذهب لأكبر الصيدليات وأكبر مراكز التسوق في العاصمة أشتري كل أنواع الحلمات الاصطناعية، المصنوعة من البلاستيك أو السليكون، المنتفخة والمفلطحة. أصنع ثقوبًا إضافية وبأحجام أكبر كي أساعد المسكينة التي لا تقوى على المص. كانت معلومات الأطباء غير كافية، لذا بدأت أتصرّف على أنها حكايتي ومعركتي أنا فقط. عليّ أن أطرق فيها كل الأبواب وأجُرِّب كل الأفكار. وها أنا ذا أستحضر تلك الذكريات من ذاكرتي الآن بعدما قاربت طفلتي على إنهاء عامها الرابع عشر.

هل للكتابة علاقة بكل هذا؟

الإجابة هي نعم في الغالب. الإيمان الذي تابعت فيه رحلتي تلك هو ذاته الإيمان الذي يدفعني للاستمرار في معركة الكتابة، تلك المعركة التي بتُّ أعرف جيدًا أنها لا تخص أحدًا سواي. أنا الوحيدة المسئولة عن مراعاة هذا الفعل الذي أحبه، عن تغذيته بكل الطرق الممكنة دون النظر لتجارب الآخرين ونصائحهم، كأنها الطرق الوحيدة أو الآمنة لاحتمالها صفة التجريب المسبق، وإن كان أخذها في الاعتبار أمرًا مفروغًا منه.

ولكن سيظل عليّ أن أخلق طريقي وطريقتي أنا. أنتظر انسياب الحليب قطرة بعد قطرة، حتى وأنا مضطرة لابتلاع حبات تُوقِف إدراره، سأجده يتدفق داخلي وحولي في كل مكان، غامرًا إياي بالدفء والرضا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.