على بعد كيلومتر ونصف فقط من ملعب الكامب نو العريق، كان السيد «خواكيم هرنانديز» يجلس كل يوم فوق أريكته وأمام تلفاز لا يبث شيئًا سوى مباريات كرة القدم. لم يستطع السيد هيرنانديز طوال مسيرته مع كرة القدم أن يتجاوز اللعب لفرق الدرجة الثانية بالدوري الإسباني، فقرر أن يسلك مهنة التدريب لعله يلقى حظًا أفضل، لذا كان يحاول دائمًا أن يحلل مباريات كرة القدم في البيت.

لم يجلس السيد خواكيم وحده أبدًا فوق تلك الأريكة. كانت بقية المقاعد محجوزة دومًا لأولاده الأربعة، أوسكار وأليكس وهما الأكبر سنًا والبنت أرديانا ثم الصغير تشافي. كان الأولاد الأربعة يعيشون داخل عالم عنوانه كرة القدم حتى أنهم كانوا يجلسون رفقة الجماهير خلال المباريات التي عمل خلالها والدهم مدربًا لمناقشة التغييرات المحتملة وجدواها.

لم يكتف الإخوة الأربعة بتحليل المباريات بالطبع بل إنهم لم يفوتوا فرصة ممارسة الكرة إلا قليلًا. كان الأمر واضحًا أمام أعين خواكيم الذي أفنى حياته رفقة كرة القدم، ربما يحترف أوسكار وأليكس كرة القدم لكنهما لن يتخطيا مسيرته المتواضعة، لكن هذا الصغير تشافي إنه استثنائي دون شك فقط لو أن جسمه كان أكبر قليلًا.

كنت في الخامسة من عمري عندما ناداني أبي أثناء لعب كرة القدم قائلًا: لمَ لا تشارك في الهجوم؟ سوف تتمكن حينئذ من تسجيل الأهداف. فأجبته: حسنًا ولكن من يحمي المرمى من خلفي إذا تقدمت للهجوم. كنت أفكر في كرة القدم قبل أن التحق بالمدرسة.
تشافي متحدثًا عن بدايته مع كرة القدم

فقط سنوات قليلة وكان الجميع يردد مقولة الأب، فقط لو أن جسمه كان أكبر قليلًا. كان الجميع يتساءل إلا أن الإجابة كانت على بعد كيلومتر ونصف فقط.

أغمض عينيك وسيصبح تشافي الأفضل دون شك

يقولون إن السيد كارلوس ريكساش الشريك الذهبي لكرويف ومدرب «برشلونة ب» لسنوات يستطيع أن يغمض عينيه ويحدد مدى جودة اللاعب من خلال الصوت الذي تصدره الكرة عندما يمررها.

حسنًا تستطيع أن تتوقع مدى ملاءمة تشافي لـأفكار كرويف ومقولاته والتي كانت دستور اللاماسيا حينذاك. أفكار مثل «كرة القدم لعبة تلعبها بعقلك لا بأقدامك» مهدت الطريق لكي يتمركز تشافي بجوار خط الوسط ويتعلم كرة القدم.

التعليم هو المفتاح. عندما تصل إلى برشلونة فإن أول شيء يعلموك إياه هو: فكر، ارفع رأسك، تحرك، انظر قبل أن تحصل على الكرة. إذا تحصلت على تمريرة يجب أن تكون على علم مسبقًا ما إذا كان هناك لاعبًا متاحًا لتمريرها له من لمسة واحدة.
تشافي متحدثًا عن فلسفة برشلونة عبر كتاب الخوف والبغض في الدوري الأسباني: برشلونة وريال مدريد وأكبر منافسة رياضية في العالم.

لم يحتج تشافي داخل اللاماسيا أكثر من 8 سنوات حتى تشرّب تمامًا فلسفة الفريق والأفكار الرئيسية. كان في عمر التاسعة عشر فقط عندما أصبح انضمامه للفريق الأول واقعًا، ولكن ترى من سيجلس على دكة البدلاء من أجل هذا الصغير؟

أن تحل محل مثلك الأعلى فيلومك الجميع

استطاع تشافي أن يفوز بجائزة أفضل لاعب شاب في إسبانيا عام 1999 حيث قاد منتخب الشباب للفوز بكأس العالم، ثم بدأ يثبت قدميه داخل صفوف الفريق الأول والذي كان يشرف فان خال على تدريبه. والمثير هنا أن ذلك كان على حساب مثله الأعلى وصانع أسطورته فيما بعد بيب جوارديولا.

كان بيب في الثامنة والعشرين من عمره وفي أفضل حالاته الفنية لذا كان تشافي يرى أنه من المستحيل أن يشارك بشكل أساسي. بدأت أفكار الخروج من برشلونة تطرح على الصغير خاصة أن ميلان في إيطاليا وعدوه بمركز أساسي بجوار ديميتريو ألبرتيني، لكن الولد الذي كان يتنفس أفكار برشلونة كان تواقًا لتنفيذها بقميص نفس الفريق.

بقي تشافي وشارك وازدادت رقعة مشاركاته وخلال ثلاث سنوات أصبح لاعب الوسط الأساسي لبرشلونة مما دفع بيب للخروج نحو بريشيا عام 2001. لم يكن استخدام فان خال لتشافي بالشكل الأمثل وربما كان تشافي أيضًا يحتاج لسنوات من أجل أن تتطور إمكانياته وهو أمر مفهوم بالطبع لكن تم إلقاء اللوم عليه بشكلٍ ضمني؛ لأنه أخرج بيب من الفريق ولأن برشلونة لم يحقق أي ألقاب لمدة 6 سنوات بعد خروج بيب.

إنه قصير وهزيل للغاية. هل ترون لاعبي الوسط في فرق أوروبا؟ إننا نحتاج إلى باتريك فييرا آخر كي نسيطر على مجريات اللقاء.

كان تشافي كبش الفداء المنطقي خلال تلك السنوات حتى أن الصحافة أسمته ممسحة الزجاج الأمامي في إشارة إلى أنه لا يجيد سوى تمرير الكرة لأقرب لاعب جواره ونقل الكرة من اليمين إلى اليسار والعكس. لكن ما أوصله للفريق الأول في برشلونة هو ما جعله يصمد أمام الجميع، إنه يلعب بعقله ويؤمن أن فلسفة برشلونة ستنتصر.

دعنا هنا نقف عند عدة نقاط ربما تجيبنا عن السؤال الذي سننهي به الحديث عن تشافي، بيب خريج اللاماسيا وأحد أكبر المقتنعين بمبادئ كرويف كما يعرف الجميع لم يضمن مركزه الأساسي أبدًا في الفريق «راجع حالة بوسكتس واحذر جلطات القلب». حتمًا سيتأثر الفريق بخروج لاعبين كبار وتواجد آخرين شباب، وحتمًا سيفقد الفريق ألقابًا، لكن هل يدفعنا هذا لتغيير فلسفة الفريق؟ «انظر شكل 14 حيث يقف بارتوميو وبجواره صفقة جديدة باهظة الثمن غير مفيدة على الإطلاق». رهان برشلونة واللاماسيا هو رهان يحتاج للصبر والإيمان بأن اللاعب الجيد المتفهم لفلسفة الفريق هو كنز في حد ذاته «حاول حذف صورة سيرجيو روبيرتو من على جهازك».

تشافي الذي نعرفه

كان فريق برشلونة آنذاك متخبطًا مثل الآن مما استلزم العودة للجذور. عام 2003 تولى رئاسة النادي خوان لابورتا، والذي أحضر فرانك ريكارد لتدريب الفريق. تحسن الوضع رفقة ريكارد الذي اعتمد على فكرة الاستحواذ مستخدمًا طريقة 4-3-3.

تم انتداب ديكو ورونالدينيو وإيتو وتحرير تشافي من الأدوار الدفاعية أخيرًا. عاد برشلونة إلى منصة التتويج وعاد تشافي إلى الظهور بشكله الحقيقي، لكن مع الوقت كان الأداء في طريقه للانخفاض وكانت غرفة اللاعبين مثل سيرك. كل الطرق كانت تؤدي إلى الطريق الأمثل وهو بيب جوارديولا.

كان تشافي قد أصبح بطلًا قوميًا بالفعل بعد فوز إسبانيا ببطولة اليورو لعام 2008 وحصوله على أفضل لاعب بالبطولة. تزامن ذلك مع وصول بيب الذي قرر سريعًا أن يغير من شكل غرفة اللاعبين، وشكل الفريق على السواء. تخلص الرجل من رونالدينيو وديكو وأصبح كبار الفريق في المقابل هم تشافي وانييستا وبويول، أبناء الأكاديمية الذين يعرفهم جيدًا.

عندما انضم تشافي وإنييستا وكارليس بويول إلى بقية الفريق بعد يورو 2008، لم يصدقوا أعينهم. كان برشلونة يتدرب في سانت أندروز في أسكتلندا وقد تغير كل شيء بشكل كبير؛ كانت الشدة والجدية هما عنوان الفريق. كان الضغط هاجسًا خاصًا لبيب، طالب جوارديولا فريقه بالضغط من أماكن متقدمة ليخنق الخصم. اقتنع الجميع بأفكار الفيلسوف وأصبح تشافي هو رجل بيب الأهم في تنفيذ تلك الأفكار، رفقة إنييستا بالطبع.

خلال أحد المؤتمرات الصحفية، طُلب من جوارديولا تحديد نموذج لفريق برشلونة. كان رده باللغة الإنجليزية بسيطًا وهو «أحصل على الكرة، أمرر الكرة، أحصل على الكرة، أمرر الكرة وهكذا. لكن قليلين هم الذين يجسدون ذلك أفضل من تشافي».

لم يتحول تشافي رفقة بيب إلى مجرد لاعب وسط رائع ولكنه تحول إلى واحد من أفضل لاعبي خط الوسط عبر التاريخ. يشبه الأمر عندما تمتلك قطعة بازل مهما كانت القطعة ساحرة لكنها تحتاج للقطع الأخرى حتى تكتمل الصورة النهائية. كان تشافي دومًا قطعة ساحرة لكنها لم توضع في صورتها الأصلية أبدًا إلا في وجود بيب وبجوار انيستا وميسي.

لم يكن ميسي هو المشكلة بل كانت إنييستا وتشافي. يمكنهم الاحتفاظ بالكرة طوال الليل
السير اليكس فيرجسون عقب هزيمة خسارة فريقة لدوري أبطال أوروبا أمام برشلونة

لكن ماذا جعل تشافي تحديدًا مميزًا لهذا الحد؟

من ممسحة زجاج إلى مهندس برشلونة الأول

فكر بسرعة، ابحث عن المساحات. هذا ما أفعله: ابحث عن المساحات طوال اليوم. أنا أبحث عن المساحات دائمًا.
تشافي

يعتقد البعض أن قدرات تشافي تنحصر في قدرته الهائلة على التمرير، لكن هذا يليق بممسحة زجاج لا أكثر، استثنائية تشافي كانت تتعلق بقدرته على اتخاذ القرار والتحرك بدون كرة.

قدرات تشافي الهائلة في اتخاذ القرار والتحرك بالكرة ودونها جعلت منه أفضل لاعبي جيله في مسألة التحكم في إيقاع اللعب. يعرف تشافي جيدًا متى يبطئ إيقاع المباراة لاستنزاف حماس الخصم وبناء الهجمة بشكل دقيق، ومتى يسرع من إيقاع الهجمة للاستفادة من ثغرة في دفاع الخصم.

في دراسة أجراها أحد طلاب معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والتي تتناول بشكل أساسي شكل حركة اللاعبين، ألقت تلك الدراسة الإحصائية نظرة فاحصة على حركات 3 لاعبين خلال موسم 2012/ 2013 وهم ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو، وتشافي وذلك لتحليل أنماط تحركاتهم.

 

تبدو حركات رونالدو متوقعة للغاية، حيث يبقى البرتغالي على اليسار كجناح متحرك كما يميل أيضًا إلى التمركز كمهاجم 9 كما بدأ خلال المراحل الأخيرة من مسيرته في ريال مدريد.

يبدو ميسي أقل قابلية للتنبؤ به لكنه يفضل البقاء على الجانب الأيمن من الملعب لاستخدام سحر قدمه اليسرى. يميل ميسي إلى الهبوط في وسط الملعب ليبدأ عددًا من الهجمات من خلال الانخراط السريع في لعبة ثنائية، وإيجاد مساحة من خارج منطقة الجزاء للتدرج والوصول إلى مكان أقرب إلى حارس المرمى.

 

بينما تبدو خريطة تشافي لا يمكن فك رموزها أو التنبؤ بها أبدًا، حيث يعمل الرجل في كل الملعب بنفس الدقة والتركيز والتواصل مع عدد كبير من اللاعبين في كل المراكز.

كما يقول تشافي فهو يبحث دومًا عن المساحات وهي الوظيفة التي أعطاها له بيب وأحاطه بالعديد من اللاعبين القادرين على خلق واستغلال تلك المساحات أيضًا.

رحل بيب وتغيرت الأمور بمرور السنين. ومع كبر سن تشافي أصبح رحيله هو الآخر حتميًا وهو ما حدث في عامه الخامس والثلاثين رغم تمسك انريكي به.

بدأت برشلونة في فقد هويتها رويدًا رويدًا، بل كان الأمر أكثر قسوة حيث استخدمت إدارة النادي تلك الهوية بغرض الاتجار لا غير، وهو الأمر الذي تفهمه تشافي بعد الرحيل ورفض العودة كمدرب لهذا المسخ.

لماذا لم يصبح تشافي مدربًا لبرشلونة؟

قبل عشرة أعوام من الآن بالتمام والكمال أقيمت مباراة بين برشلونة وأرسنال ضمن ثمن نهائي دوري أبطال أوروبا، وعلى هامش تواجد الفريق الإسباني في عاصمة الضباب استطاع الصحفي الإنجليزي «سيد لو» أن يقيم حوارًا مع نجم برشلونة آنذاك لاعب خط الوسط تشافي هيرنانديز.

كان تشافي منتشيًا بالفوز على مدريد بالخمسة قبل أقل من شهرين فتحدث بالكثير من الثقة والفخر بنفسه وفريقه، إلا أن السيد لو سأله بشكل مباشر: «أنتم على وشك اللعب ضد أرسنال الذي يلعب كرة قدم رائعة ويملك مدربًا يحظى باحترام كبير ولكنهم لم يفوزوا بأي شيء منذ سنوات. هل يمكن أن يحدث هذا في برشلونة؟»

يكاد يكون هذا من المستحيل. إذا مضى عامين على برشلونة دون أن يفوز الفريق بالألقاب يجب أن يتغير كل شيء. لكنك تغير الأسماء وليس الهوية. لا يمكن أبدًا أن تفقد الفلسفة الخاصة بك.
تشافي

تلخص إجابة تشافي كل شيء هنا. إنه يعرف جيدًا أن الشيء الوحيد الذي لن يعوض أبدًا هو الهوية التي حافظ عليها برشلونة لسنوات. سنوات من الصبر والأسماء التي تدور في فلك واحد وهو هوية برشلونة أو برشلونة دي إن إيه كما يطلق البعض.

قررت الإدارة السابقة أن تمحو هوية برشلونة عن عمد، ومع الوقت أصبح برشلونة نسخة باهتة من الفريق الذي يعج بنجوم على الورق ولاعبين صغار لا يجدون شيئًا من هوية النادي.

كان تشافي يعرف جيدًا أنه لن يصبح ممسحة زجاج لإدارة برشلونة. هذا الرجل الذي يعرف جيدًا كيف يصبح اللاعبون أكباش فداء للجميع وقت الحاجة، كان ذكيًا للغاية بألا يعود لبرشلونة من بوابة بارتوميو، بل ربما يحتاج تشافي هو الآخر أن يعود لأريكة السيد خواكيم كي يحلل الكثير من المباريات قبل أن يتولى تلك المهمة، والأهم أن يعيد إلى فريقه هويته.