بعد 60 يومًا من القصف الوحشي على قطاع غزة، وارتقاء أكثر من 20 ألف شهيد بفعل الإجرام الإسرائيلي، يقف نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، ليقول إن قواته تحاصر بيتًا مدنيًا وإن ساكن هذا البيت لن يستطيع الفرار. ثم يخرج المتحدث العسكري باسم الجيش الإسرائيلي ليؤكد أنه لو كان صاحب البيت فوق الأرض أو تحت الأرض فسوف تصل إليه القوات الإسرائيلية مهما كلّف الأمر.

يتحرك القادة الإسرائيليون وبداخلهم شعور عارم بالانتقام من الرجل لأنه، كما يقولون، صاحب الفكرة الرئيسية لعملية طوفان الأقصى. كذلك يخالطهم شعور آخر بالندم لأن الرجل كان في قبضتهم بالفعل، وهم من فتحوا له أبواب السجن بأنفسهم في صفقة التبادل مع الجندي الأسير جلعاد شاليط، صفقة وفاء الأحرار. صاحب البيت، وصاحب الطوفان في نظر إسرائيل، هو يحيى إبراهيم حسن السنوار.

السنوار من أبناء المخيمات، فقد وُلد عام 1962 في مخيم خان يونس. استطاع أن يُكمل تعليمه، رغم فقر أسرته، ودرس في الجامعة الإسلامية في غزة. كان ناشطًا سيًاسيًا منذ اللحظات الأولى، فانضم للكتلة الإسلامية ثم ترأسها. الكتلة هى الكيان الطلابي الذي يتبع جماعة الإخوان المسلمين. ومن تلك الكتلة وجد طريقه لحركة المقاومة الإسلامية، حماس. وسطع نجمه فيها سريعًا، فبات من أعمدة الحركة حتى وإن لم يكن من المؤسسين الأوائل.

لكن صفة المؤسس يستحقها السنوار بجدارة حين يتعلق الأمر بجهاز مَجد. كان للسنوار رؤية واضحة منذ البداية، يجب القضاء على العملاء الذين دسّهم الاحتلال في وسط المقاومة. كما يجب أن تزيد المقاومة من تدابيرها الأمنية بصورة كبيرة. طرح تلك الرؤية على الشيخ أحمد ياسين، فوافقه فيها، فانبرى السنوار يؤسس جهازه الخاص، مَجد. ليكون شبيهًا بجهاز استخبارات تابع للمقاومة.

تتبع السنوار، عبر مَجد، العديد من العملاء الذين عملوا لصالح الاحتلال، وتعاملت معهم الحركة بأساليب مختلفة. ثم أتت الفكرة أن يتحول مجد لتتبع الضباط الإسرائيليين تمهيدًا لاختطافهم ومبادلتهم. رغم حذر السنوار المُعتاد فإن الحركة كانت مخترقة بشكل أكبر من قدرة السنوار على تحييد كل العملاء في وقت قصير. لذا علمت إسرائيل بخطط السنوار، فقررت القبض عليه فورًا.

الاعتقال الأول كان عام 1982، وحُكم عليه بالسجن لمدة 6 أشهر بتهمة عامة وهى المشاركة في نشاطات أمنية ضد إسرائيل. ثم خرج من السجن ووضع اللمسات الأخيرة على جهاز مَجد لملاحقة المتعاونين، فاعتقلته إسرائيل عام 1985. ثم خرج وأعادت اعتقاله، ثم في يناير/ كانون الثاني عام 1988 أدركت إسرائيل حقيقة ما كان يُخطط له السنوار، فتتابعت ضدّه الأحكام المؤبدة. فقد حُكم عليه بالسجن مدى الحياة، مضروبًا في 4.

يعني 4 أحكام بالسجن مدى الحياة، فقد اتهم بقتل جنديين إسرائيليين و4 فلسطينيين متعاونين مع الاحتلال. ثم أضافت إسرائيل لهم 30 عامًا  بتهمة تأسيس جهاز أمني، والمشاركة في تأسيس ما سنعرفه حاليًا باسم كتائب القسام، لكن عُرف حينها باسم «المجاهدون الفلسطينيون».

مع تلك الأحكام المهولة لم يكن لدى السنوار أي أمل في الخروج من السجن حيًا، لكنه كان يعلم أنه سيخرج رغم الاحتلال. بالفعل أتت صفقة وفاء الأحرار، بعد أن قضى الرجل في السجن 23 عامًا كاملة. سنوات كثيرة لكنها لم تُكن في حكم المُهدرة. بل تندم إسرائيل عليها الآن، أكثر ما تندم على تحريره. فقد قضاها الرجل رفقة الشيخ المؤسس أحمد ياسين، وكان من يساعده على التحرك في السجن.

كما قضاها في قراءة المجتمع الإسرائيلي، وتعلّم العبرية بطلاقة، وتعمّق في فهم دواخل إسرائيل، ونقاط اتفاقها ونقاط خلاف قاداتها. مكنّه ذلك من أن يضمن مكانًا في المكتب السياسي للحركة، لكن المهمة الحقيقية كانت الإشراف على كتائب القسام. لم تكن إسرائيل تتوقع أن يعود الرجل للعمل بهذه السرعة وتلك القوة. فوضعت اسمه ضمن قائمة المطلوبين للاغتيال. ووضعته الولايات المتحدة على قائمة الإرهاب، بجانب محمد الضيف. لكن ذلك لم يمنع أن يُنتخب السنوار رئيسًا للمكتب السياسي للحركة، ليملك الرجل في يديه الجناحين السياسي والعسكري.

قضى وجود الرجل على أشباح التناحر بين الفكر العسكري والفكر السياسي، وجعلهما يتكاملان. توّقع الجميع أن يخوض السنوار حربًا شرسة ضد إسرائيل منذ اليوم الأول، لكن ما حدث كان عكس ذلك. كان الرجل هو من وُجِّد في مفاوضات القاهرة عام 2017 للحديث عن المصالحة الفلسطينية الشاملة. وبدأ الرجل يقترب من حركة فتح، التي تقود السلطة الفلسطينية، أكثر مما فعل سابقوه. وكانت خطاباته متعلقة بالقضية الفلسطينية ككل، وأن أي انتهاك إسرائيلي في أي منطقة من فلسطين هو خطر على إسرائيل.

صدقت تهديدات السنوار، وداهم إسرائيل بطوفان الأقصى الذي أربكها وهدد وجودها كلها. فخرج نتنياهو غاضبًا يصف السنوار بأنه رجل ميت يمشي. أبو إبراهيم، كُنية السنوار، بالفعل يمشي، لكن لا أحد من الاحتلال يعرف أين يمشي، ولا متى سيضرب إسرائيل. بعد أن كان محققو إسرائيل يظنون أنهم يعرفون كل شيء عن شخصية الرجل، فإن العديد منهم قد اعترف أن قراءتهم الخطأ لشخصية الرجل كان مقدمةً لأكبر فشل استخباراتي في تاريخ إسرائيل. وأنهم لم يفهموا الرجل قط، وقد نجح في خداعهم في نهاية المطاف.

لكن رغم ذلك فإن عليهم أن يتعاملوا معه هذه الآونة أكثر من أي وقت مضى، بسبب قيادته المباشرة لمفاوضات عمليات تبادل الرهائن. وموقفه المتشدد فيها، فقد أوقف عملية التفاوض بعد اقتحام الاحتلال لمستشفى الشفاء. إنه كما وصفه ميخا كوبي، الضابط الذي استجوبه لصالح الشاباك، بأنه رجل يتمتع بحضور قوي وكاريزما، وأنه قليل الكلام لكن سريع الغضب، وأنه سيكون قائدًا سواء داخل السجن أو خارجه، وأنه يتمتع بالانضباط، وحاد الذكاء.

هذا الرجل استطاع أن يمرر لإسرائيل في أكثر من لقاء، مثل لقائه مع صحفي إسرائيل بمناسبة فوز حماس بانتخابات غزة، ومثل لقائه مع أحد الصحف الإيطالية، بأنه يؤيد هدنة طويلة مع إسرائيل، ولا يريد تدميرها. كما أنه يطمح أن تتحول غزة لمكان مهم مثل سنغافورة ودبي. واستطاع عبر التفاوض مع السلطة الفلسطينية أن يحصل على تصاريح بالعمل لأكثر من 18 ألف مواطن من غزة داخل إسرائيل. تلك الألوف هي التي رسمت الخرائط التفصيلية، وقدمت المعلومات الكاملة عن سكان مستوطنات غلاف غزة.

 لكن لم يبدُ أن إسرائيل لم تقرأ باقي تقرير المحققين الذين قابلوا السنوار فوصفوه بأنه يجيد التلاعب ويكتفي بإعلان القليل ويخفي الأسرار حتى عن السجناء من نفس الحركة، ولديه قدرة غير عادية على الإقناع والحشد. لقد تحدى السنوار إسرائيل حين هددت باغتياله سابقًا، وقال إنه سيذهب لبيته مشيًا دون أن يرجف له جفن، وبالفعل تراجعت إسرائيل عن قرارها.

 أما هذه المرة، فإسرائيل تضع السنوار، مع محمد الضيف، ثمنًا مقبولًا للترضية مقابل الهزيمة الشديدة التي تعرضت لها. لكن كما اعتادت المقاومة الفلسطينية، فإن اغتيال قائد يؤدي إلى ميلاد مئة قائد غيره، وجميعهم يسيرون في مسار واحد لهدف واحد، القضاء على إسرائيل.