هذه هي السابعة من سلسلة رسائل يكتبها ياسين الحاج صالح لزوجته «سميرة الخليل»، المخطوفة في دوما منذ مساء يوم 9/12/2013، يحاول فيها أن يشرح لها ما جرى في غيابها. نُشرت لأول مرة بجريدة الجمهورية.


سمور، تذكرين أني كنت على وشك الانتقال إلى أول مسكن لي في إسطنبول. سكنتُهُ بعد اختطافك بأربعة أيام، وأقمتُ فيه 21 شهرًا تقريبًا، وأقيمُ منذ نحو عامين في مسكن آخر. وهما معًا واسعان نسبيًا، مثل بيتنا في ضاحية قدسيا تقريبًا، يمكن استضافة زوجٍ في كل منهما دومًا، وعند الضرورة ثلاثة. والبيتان مفروشان، وحصلتُ على كليهما عن طريق أصدقاء، وليس من مكاتب عقارية. من هذه الناحية لم أواجه صعوبات يواجهها معظم السوريين، الأسر منهم والشباب المستقلون.

لكنهما مسكنان وليسا بيتين، يا سمور. أقيمُ فيهما مثل طالب جامعي في مدينة غريبة، لي فيهما كتبٌ وألبسة، وكمبيوتران. لي فيهما أيضًا لوحتان لك، وهدايا أيضـًا، اشتريتها من مدن زرتها، أو أرسلها لكِ أصدقاء. كنتِ أنتِ من صنع بيوتًا من المساكن الذي أقمنا فيها في ضاحية قدسيا. وفي غيابك عدتُ البري المترحّل الذي كنتُهُ من قبل.

لكن تيسرَ لي العمل في ظروف مناسبة في المنزلين في إسطنبول. العمل لم يساعدني على تحمل غيابك فقط يا سمور، ولكنه ساعدني على البقاء متوازنًا (أرجو أني لست مخطئـًا كثيرًا في هذا الشأن)، وفي صحة معقولة. تلقيتُ مساعدات عظيمة من أصدقاء وصديقات، سوريين وأتراك، ولولاهم لكانت الحال أصعب بما لا يقاس. وهم شركاء في العمل وفي القضية، وفي أوجهٍ من الحياة اليومية.

أقام السوريون، وعددهم نحو 400 ألف في إسطنبول، في أحياء متعددة، الفقراء في أحياء أفقر، والعمال منهم قريبًا من مواقع عملهم، المحافظون في أحياء محافظة، والشابات والشبان المستقلون من الطبقة الوسطى في أحياء «كوسموبوليتية» يسكنها أشباهٌ لهم، أتراكٌ وأجانب. أول منزل سكنته أنا كان ضمن كتلة سكنية في حي طبقة وسطى، والمنزل الثاني في حي شعبي أكثر قليلاً، لكن مختلط. والطريف أن البيت الأول كان لسيدة تركية، روائية ومدربة يوغا، تعيش في أميركا؛ والثاني لسيدة أميركية تعيش في تركية.

لا أزال لا أعرف إلا القليل من إسطنبول يا سمور. المدينة كبيرة جدًا، سكانها 18 مليونًا، ويصعب حتى على من ولدوا فيها أن يعرفوا بعض مناطقها وأحيائها، ومن باب أولى الغرباء الذين يأتون في عمر متأخر نسبيًا. ولم أكد أستطيع تخصيص وقت للتجول في المدينة أو حتى زيارة معالمها الكبرى. يتندّر أصدقائي، وأشاركهم التندر، على أني لم أزر أيا صوفيا ولا الجامع الأزرق ولا السسترن، لولا زيارة فاروق مردم بيك، الصديق الذي لم أتعرف عليه شخصيًا إلا هنا في إسطنبول. رافقتُ فاروق المُحبّ للسياحة التاريخية، الذي يقرأ عما يزور من معالم قبل زيارتها، في جولاته في زيارتين له إلى إسطنبول. فاروق، المقيم في فرنسا منذ أكثر من نصف قرن، كان دليلي في المدينة التي أقيم فيها منذ ما يقترب من أربع سنوات.

السسترن حوض مائي كبير تحت الأرض، كان أكثر شيء أحببته من معالم المدينة الأثرية. بني في القرن السادس الميلادي بغرض إمداد المدينة بالماء في أوقات الحصار (أرجوك سمور، لا تعتبري معلوماتي الآثارية شيئًا موثوقًا). وفي هذا الحوض أعمدة حجرية ضخمة، قاعدة اثنين منهما رأسان للغورغون، وهي كائن أسطوري مؤنث، شعرها أفاعٍ مهتاجة، وتقول الأسطورة إن من ينظر إليها يتحول إلى حجر. وهناك تقليد في هذا المكان، أن يرمي الزائرون قطعة نقود معدنية ويتمنوا شيئًا في قلوبهم.

رميتُ قطعًا، وما تمنيتُ غير عودتكِ سالمة يا سمور. دموعي سالت في ذلك الأثر الرطب الظليل كما صارت تفعل كثيرًا، وفاروق النبيل تصنَّعَ أنه لم يلحظ شيئًا.

المنطقة التي أعرفها أكثر من غيرها في إسطنبول هي تقسيم، قلب القسم الأوروبي من المدينة. تقسيم (تلفظ تاكسِم في التركية) اسمٌ لساحة كبيرة أخذت اسمها من نظام تقسيم الماء على أحياء إسطنبول في أزمنة أقدم. في الساحة تمثال لمصطفى كمال أتاتُرك بلباس عسكري بين جمعٍ من المحاربين أو القادة العسكريين. صور وتماثيل أتاتُرك منتشرة في كل مكان في إسطنبول وتركية يا سمور، لكن لم أرَ من تماثيله ما يشبه الفزاعات التي هي تماثيل حافظ الأسد. في صوره وتماثيله يبدو «الغازي»، وهذا لقبه، في وضعية فعل، منهمكًا في عملٍ ما، بما في ذلك شرب العرق. له فعلًا صورٌ وهو يشرب العرق، والرجل الشرّيب مات بتشمع الكبد قبل أن يبلغ الستين. أما حافظ فجامدٌ في تماثيله، وهذه «أوابد» تحرس خوف السوريين، القصد منها فعلًا إثارة الفزع وشلّ إرادة المحكومين المرتاعين من سلطة تعشق نفسها بهذا القدر. ثم إن تماثيل أتاتُرك أُقيمت بعد موته، أما حافظ فهو من نثر نسخًا من نفسه في كل مكان في سوريا المنكوبة.

والأهم يا سمور أنه يغلب أن تَرَي تماثيلَ لأتاتُرك وهو بين مجموعة، بينما تعرفين أن حافظ واحد وحيد في تماثيله كلها. ما يمارسه حافظ بناء على ملاحظة تماثيله هو سلطة الطاغية الوحيد التي جوهرها الخوف، أتاتُرك الذي كان حاكمًا قوميًا متسلطًا ارتكب نظامه العديد من الجرائم، يَظهَرُ مع ذلك مُمارسًا الحياة.

ساحة تقسيم أشبه ببحيرة ينبع منها شارع شهير جداً في إسطنبول، شارع استقلال. الشارع نهر من البشر فعلاً، وبخاصة في أماسي الجمعة والسبت (العطلة الأسبوعية في تركية يوما السبت والأحد)، حيث يقدر عدد من يمرّون به كل يوم بثلاثة ملايين. وفي أيامي وشهوري الباكرة في إسطنبول كنت أحبُّ هذا الشارع، وبخاصة مشهد الصبايا (بما قلَّ ودلَّ من الثياب في الصيف) والشباب، وهم يسهرون إلى وقت متأخر في نهاية الأسبوع، في بارات ومطاعم متفرعة عن شارع استقلال. كان استقلال يبدو لي شارعًا للحب وللشباب. اليوم يبدو شارعـًا تجاريًا أكثر، لا يكفّ عن دفع النهر البشري المتدفق فيه، والتوقف ممتنع وفي حكم الممنوع. وليس في الشارع نفسه مقاه أو بارات شعبية، أو دور سينما ومراكز ثقافية يراها العابر وقد تستوقفه في الشارع. هناك محلات ألبسة، بعضها ماركات مشهورة عالمياً، وهناك مطاعم للأكل السريع، لكن ليس للجلوس فيها. هذه مطاعم لمأكولات تركية ترينها من الخارج، ويمكن أن تختاري ما تفضلين من أطباق وتأخذينها في صينية إلى طاولة في داخل المطعم.

لكن شارع استقلال المزدحم مشهور بموسيقى الشارع، بما في ذلك موسيقيون سوريون مع آلاتهم يغنون أغاني شعبية سورية وعربية، ويجود عليهم المارة ببعض المال. وانطباعي أن الموسيقيين السوريين محبوبون، وحولَهم أكثرَ من غيرهم ترين تجمعات من الناس، بعضهم عرب، يصورونهم ويمتعون أنفسهم بغنائهم. هناك مجموعات موسيقية متنوعة، بما فيها مجموعات من البيرو مع زي الهنود الحمر المميز: على رئوسهم ليس ريشة، بل تيجان بكاملها من الريش!

الموسيقيون وحدهم من يستوقف الناس قليلاً ويبطئ سرعة الحركة في الشارع المزدحم الذي يسوق البشر سوقاً. لو كان شارع استقلال أبطأ قليلاً لكان أجمل بكثير.

وفي كل وقت تسمعين العربية في الشارع، عربية السوريين بخاصة، وفي الصيف بخاصة تسمعين وتشاهدين سواحًا من الخليج، ومن لبنان…

في الشوراع المتفرعة عن استقلال هناك حياةٌ أكثر: مقاه وبارات ومطاعم… وطاولات على الأرصفة. مشهد الشابات والشبان في مقاهي البيرة أو الشاي مليئ بالحياة، ومبهج. أما القهوة التركية الشهيرة، وهي تسمى بهذا الاسم في تركيا نفسها وفي أوروبا (تيركيش كوفي)، فلا تستحق الشهرة ولا اسم القهوة في رأيي. أنا أقول عنها إنها تؤكل ولا تشرب، كثيفة ونصفها طِحْل. قهوتنا السورية أطيب بكثير. الأطيب طبعًا هي القهوة التي كنتُ أعدها لك: البن على ماء بارد، ويُترَك ليغلي على أخفض نار ممكنة لوقت كاف.

في هذه الشوارع القليلة التي أعرفها مشيتُ وفكرتُ فيك يا سمور. وصفتُ لك في قلبي ما أرى. جلستُ وحدي أو بين أصدقاء، لكن كنتِ حاضرةً في خاطري وبيننا في كل وقت.

معي أيضًا حين أعبر البوسفور إلى القسم الآسيوي. تجدين هناك أيضًا ما يشبه تقسيم، منطقة اسمها كاديكوي (قرية القاضي)، أعرفها أقل من تقسيم، لكنها تبدو أقل تجارية من شارع استقلال، وإيقاعها ليس محمومًا بالقدر نفسه، وفيها أفضل مطاعم السمك. ويبدو أن الفنانين والشباب ومجموعات ثقافية متنوعة (مسرح، فرق موسيقية، معارض فنية…) يفضلون هذا القسم من البرّ الآسيوي أكثر من تقسيم في البرّ الأوروبي.

هناك ثلاثة جسور على البوسفور تصل القسمين الآسيوي والأوروبي، لكني أفضّلُ الانتقال في العبّارات التي تنطلق كل نصف ساعة من أكثر من موقع. الرحلة ثلث ساعة، والمدينة في شطيها تبدو جميلة جداً لخالي البال.

بأمل أن نمشي هذه المشاوير كلها يا سمور معـًا، قريبًا.

بوسات يا قلبي، وبس ديري بالك على حالك رجاءً.

ياسين