في طفولته، كان يرى مقابر منفصلة على زمام قرية «بني عدي» بأسيوط، كان الأهالي يعتنون بها ويضعون «العمامة الخضراء» رمز الشهادة والولاية على شواهدها.

تساءل الطفل: من هؤلاء؟ وكان الرد دائمًا بأنهم من استشهدوا أثناء مقاومة الجنرال «دافو» أحد رجال الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت، وقد استخدم تبة السبع بنات لنصب مدافعه فأصلت أهل القرية بالنيران، ولكن الأبطال خرجوا بسيوفهم وغداراتهم القديمة وفئوسهم غير مبالين بالموت.

هكذا يحكي المترجم «أحمد العدوي»، الذي أضاف للمكتبة العربية كتاب «جيش الشرق» لمؤلفه «تيري كرودي» أحد خبراء الحقبة النابليونية.[1]

الكتاب الذي صدرت ترجمته حديثًا عن دار «مدارات» يمتاز بأنه يشكل وثيقة باعترافات الضباط الناجين بالحملة الفرنسية على مصر والشام، وهامش ضئيل جدًا من تدخل المؤرخ، وقد جمعها من خلال أرشيف «شاتو دي فينسين»، وبالتالي فهي رحلة في «انطباعات الآخر»، وتكشف زيف الصورة الأسطورية التي وضعها الغرب لحملات نابليون؛ فنكتشف مثلًا أنه عمد لتسميم جنوده المصابين بالطاعون أكثر من مرة، وأنه توحش ضد أهل البلاد خلافًا لوعوده، وهرب طمعًا في السلطة ببلاده، ولكن الكاتب لم يغفل ما أنجزته الحملة من صدمة حضارية فتحت أعين العرب على أساليب النهضة الحديثة، كما سجلت موسوعة «وصف مصر» لبنة علم المصريات.


خديعة «أنشودة الرحيل»

سافر المحاربون القدامى محملين بآمال امتلاك أراضٍ بفرنسا والكثير من العطايا كما وعدهم قائدهم، بعد حملتهم الخاطفة على مستعمرات إنجلترا، وبعد 3 سنوات عادوا بخفي حنين أمام تهديدات الأسطول البريطاني وهزائمهم بالشام وتركوا آلاف الضحايا الجرحى والمصابين بالطاعون يتوسلون لحملهم، بعد هرب نابليون ومقتل كليبر وتسليم عبد الله مينو القائد الأخير لجيش الشرق دفة المستعمرات.

اكتشف هؤلاء أن آمال «أنشودة الرحيل» لماري جوزيف كانت خديعة، وهي تقول «ستدوي أبواقنا، وقد حانت ساعة القتال، عندئد يرتجف أعداء فرنسا، ويتجرع الملوك الدم ممزوجًا بالكبرياء، الجمهورية تدعونا فإما الظفر وإما الموت».

يذكر «لافال» ما حل بسليمان الحلبي الثائر الذي قتل كليبر وكيف تم إحراق يده ثم وضعه على الخازوق إمعانًا بتعذيبه

وبحسب شهادة الجندي «فيريير» فقد كان أغلب قوام الحملة من المحاربين القدامى بإيطاليا، كما تم تغطية تكاليفها من المال المسلوب من سويسرا وأموال المضاربين الذين صدقوا أن الحملة ستعزز ثروتهم، ويكشف كبير الخياطين «بيرنويه» أن السرية كانت محاطة بالحملة واعتقدوا أنهم ذاهبون لصقلية أو مالطا، وقاد الأمير بول بروي الأسطول المكون من 55 سفينة حربية و130 سفينة تجارية و150 سفينة تقل 10 آلاف بحار و34 ألف جندي، قبل أن ينشطر جسده في معركة مع الأسطول البريطاني في خليج أبي قير. وكان احتراق سفينة «الشرق» المقاتلة مزلزلًا للجميع، وتظهر رسالة «جراندجان» كيف تطاير الرجال في الهواء واشتعل الميناء بفعل قذائف الأسطول الإنجليزي.

كان البحر مروعًا بعد أن عصفت الريح العارمة بالصواري وكانت وسيلتهم للنجاة هي التمسك بالحبال! وقد عانى هؤلاء المكدسون بحسب رسائل «موران» من الأمراض وإن سعوا للتسرية بحفلات اللهو والمقامرة والموسيقى. ومع سقوط مالطا بعد مقاومة رمزية من قبل فرسان القديس يوحنا، كانت وجهتهم للإسكندرية والتي قاومت ببسالة، وهنا سعى نابليون لإقناعهم بالرسالة الأخلاقية، وبأنهم ينشرون الحضارة ومؤيدون من الله ويحترمون عقيدة المسلمين كما احترموا مسيحيي إيطاليا، وأن الهدف هو محو البكوات المماليك الذين قاسى منهم سكان وادي النيل وأهانوا فرنسا.


عن مصر آنذاك

وفي رسائل «موران» نرى كيف كان صغار التجار المصريين ينتشون بعملات المحتلين، وكيف كانت قوافل العبيد تحمل السلع من بقاع الأرض لمصر ومنها الفواكه والبخور والتوابل والزينة، والتي حرص الجنود على اقتنائها كذكرى، يقول الضابط «لافال»: «لقد بيع الحبشيون التعساء العراة كما الخيول أمامه بأسواق القاهرة بـ150 قرشا»، ويخبرنا «الضابط الفارس» وهو رجل مجهول وقع رسائله بأنهم كانوا يتصارعون على غنائم المعارك مع المماليك بتقسيم الصرر المليئة بالذهب والأسلحة، كما افتتنوا بالحمامات العثمانية، وتكيفوا شيئًا فشيئًا مع عادات أهل البلاد، ومنها شرب القهوة وتدخين النرجيلة، فيما صدر حظر لتناول الكحوليات والحشيش الذي كان يؤثر على حيوية ويقظة الجنود، واتجه البعض لصنع البراندي لتعويض ذلك.

وكانت هناك محاولات لرفع الروح المعنوية للجيش، ومنها ما رواه «موران» من استحداث حي فرنسي ببركة الفيل بالأزبكية، يضم الورش والمطاعم، وقد سعى الجنود المهووسون بالداعرات لتقفي أثرهن حتى في قاعدة نصب نابليون التذكاري! وكان الموسرون منهم قادرين على شراء الجواري، ومنهم ربيب بونابرت «بوهارنيه»، وكانت الرسائل تعكس ولعًا بالمرأة المصرية عمومًا رغم أنها تقبع عادة بالحرملك.

وتذكر الرسائل أن عقوبات رادعة كانت تفرض على الجنود المدانين بالسرقة، وتم إعدام جنديين أُدينا بقتل سيدتين تركيتين، ولكن العقوبات ضد السكان المحليين أشد قسوة، وهذه الأجواء أكدتها كتابات العلامة الجبرتي الذي عاصر تلك المرحلة؛ وبحسب رسائل «بيرنويه» فقد اعتقلوا أكثر من ألفي تركي، وتحت جنح الظلام قطعوا رؤوسهم واحدًا تلو الآخر، وألقوهم بالنيل، ويذكر «لافال» ما حل بسليمان الحلبي الثائر الذي قتل كليبر بطعنة في صدره في 14 يونيو 1800، وكيف تم إحراق يده ثم وضعه على الخازوق إمعانًا بتعذيبه، وتم إعدام من تستر عليه أيضا، وهم ثلاثة رجال من عائلة واحدة.

وبخصوص الحضارة الفرعونية، تذكر الرسائل كيف فتن علماء الحملة بها؛ وسعوا لنقش أسمائهم على المعابد، وبحسب رسالة الفنان «دينون» الذي تعرض لإصابة بصدره أيضا؛ فقد أسف لأنه لم ينجز رسومه عن «معبد دندرة» وغيره من أسرار تلك الحضارة لضيق الوقت، كما فتنوا بقرية الناصرة وجبال لبنان خلال حملات الشام. كما تم كشف حجر رشيد الجرانيتي الضخم أثناء هدم جدار في حصن سان جوليان، والذي اضطر الفرنسيون لتسليمه للبريطانيين وقت الاستسلام.

وتكشف رسالة «موران» عن تراجع 10 آلاف مقاتل مملوكي أمام قوات الجنرال ديزيه المؤلفة من 3 آلاف في معركة «سدمنت»، نتيجة التقدم الكبير للفرنسيين بتقنيات الحرب والتي تعلموها من حروب نابليون السابقة ومنها أسلوب «التربيع» والذي يصعب من اقتحام الصفوف، والنيران الكثيفة من المدفعية المتقدمة، والتي كانت تمطر فرسان المماليك رغم شجاعتهم، وهو ما تكرر بمعركة الناصرة وشبراخيت والأهرام، وفي الأخيرة تكشف رسالة «دوجيرو» عن حفلة مروعة لإطلاق النيران على المماليك الذين ألقوا بأنفسهم بمياه النيل راح ضحيتها آلاف الرؤوس؛ وشاهد حرق المماليك أحياء وكسر عنق جثة مملوكي مقتول، وترك كثير من الرفاق الفرنسيين بساحة القتال حين يسقطون جرحى، وبرغم ذلك كانت مقاومة المصريين كبيرة، ومن ذلك ذبح أهل دمنهور لحامية فرنسية بأكملها.


رحلة الهلاك

تعترف رسائل الضباط بتفرد الفرسان المماليك برغم تخلف عتادهم، فهم الأكثر شجاعة وتمكنًا بركوب الخيل والفروسية

وتعترف رسائل الضباط بتفرد الفرسان المماليك برغم تخلف عتادهم، فهم الأكثر شجاعة وتمكنًا بركوب الخيل والفروسية، وخاصة جنود إبراهيم بك، ويكشف العريف «كيو» عن حالة العطش والإنهاك الشديدين والرعب من هجوم العربان ممن يقطعون الطرق، وشح الطعام حتى اضطروا لأكل الكلاب خلال الرحلة الصحراوية للشام، وبحسب «دوجيرو» فقد اضطروا بعد أمر بالإبرار المفاجئ لأن يلاقوا الموت في قوارب تحملهم بجنح الظلام وتصطدم بالصخور، على حين يسقط العشرات ولا يجدون مغيثا.

اتجهت قوات نابليون ليافا من خلال العريش، وهناك وقعت مجزرة رهيبة بعد سقوط أسوارها المنيعة، ويروي «بيرنويه» عن الأطفال المذبوحين وعويل النساء، وخديعة نابليون حين عرض الأمان على الناجين ولما ألقوا أسلحتهم قادهم الفرنسيون إلى شاطئ البحر، حيث اصطف 6 آلاف منهم في انتظار إعدامهم واحدًا تلو الآخر، ثم راحوا يتنازعون في النساء السبايا حتى صدر أمر نابليون بمحاكمتهن، ولكن سرية من القناصة كانت قد أعملت القتل بالفعل.

وأزفت النهاية مع حصار عكا؛ فقد كان أميرها أحمد الجزار محنكًا ومحاطًا بحماية أعداء فرنسا، وقد صب القنابل والأواني فوق المحاصرين، وهنا يخاطب كليبر نابليون: «لقد كدت أصدق أن الأعمال التي نقوم بها من تخطيط بعض الصبية الهواة» !

بعد تلك المعارك فقد الكثير من الجنود ثقتهم في نابليون وجاهروا بالتذمر ضده ونعته بما يكره، وازدادت شعبية كليبر، ويعترف «فيرتراي» أن فصيلته أبيدت عن آخرها، ولكن الفصل المروع من المأساة بدأ مع انتشار وباء الطاعون بين صفوف الجنود، والمخيمات التي كانت تقلهم وقرار نابليون بتسميمهم خشية وقوعهم أحياء بيد الترك، وكان من الناجين الجندي «لالمان» الذي يكشف أنه تقيأ الأفيون المركز بالحساء، والذي قدم على أنه شراب للقوة، ولما هاجمهم الترك بعد انسحاب الفرنسيين من عكا، فوجئوا بأنهم أحسنوا معاملتهم وأعادوهم لفرنسا بعد تحسن 40 رجلًا وتماثله للشفاء!

وقد تكرر المشهد الأليم في يافا التي انسحبت لها القوات، يقول «دوجيرو»: كان الميناء يعج بالموتى والمحتضرين، والذين توسلوا للمارة من أجل المال أو تضميد جروحهم ولم يكن لهم محل على متن القوارب المغادرة، وهؤلاء تم تسميم معظمهم بنفس الأسلوب!

بقي أن الكتاب يعج باللوحات المهمة التي رسمت خلال الحملة الفرنسية وعنها، ومنها لوحة الغلاف لمعركة الأهرام لـ «لويس فرانسوا لوجينيه» أحد معاصري الحملة، كما طعمه المترجم بشروح وافية من الوثائق والكتب. وقد استلهمت روايات مصرية عدة تفاصيل تلك الشهادات الفرنسية، ولعل أهمها حديثًا رواية «الأزبكية» لناصر عراق، ورواية «بيت السناري» لعمار علي حسن، وقد نجحتا بتصوير أجواء المقاومة والهيمنة الاستعمارية في ثوب إنساني.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. جيش الشرق، تيري كرودي، ترجمة أحمد العدوي، الطبعة الأولى، القاهرة، مدارات للنشر والتوزيع، 2017.