كانت شهادة ميلاد «إسرائيل» في المجتمع الدولي هي الاعتراف بها من قبل القوى الدولية، على رأسها الدول الأوروبية، والولايات المتحدة، وروسيا، مقدمين للحركة الصهيونية دعمًا قبل الـ 48 بسنوات عدة، وفي اتجاه مقابل ظهرت مؤخرًا حركة شعبية متصاعدة الحدة، ومتسعة النطاق لمقاطعة إسرائيل اقتصاديًا، وثقافيًا، وأكاديميًا، بهدف رئيس هو وقف الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.وفي هذا السياق يبرز التساؤل حول المحركات السياسية للمقاطعة، ومدى فعالية المقاطعة الشعبية كأداة ضغط لتغيير سياسات الحكومات الداعمة لإسرائيل، وما التأثير المتحمل لها داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه على أصعدة سياسية واجتماعية واقتصادية، وهل تحمل المقاطعة مقومات استمرار أم عقبات، وأخيرًا هل يمكن أن تكون المقاطعة الشعبية اعتذارًا شعبيًا عن جرم الحكومات في القرن الماضي؟


المحركات السياسية للمقاطعة

لم تنشأ حملة المقاطعة الشعبية لإسرائيل من فراغ، بل ثمة محركات سياسية، لسنوات عشر أو أكثر قليلًا، دفعت نشطاء حملة المقاطعة الشعبية لتأسيسها وتفعليها، وجذبت مواطنين بالدول الغربية والأميركتين لاتخاذ مسار عقابي ضد إسرائيل، عكس المسار التقليدي لحكوماتهم، ومؤسسات المجتمع الدولي الرسمية، من أهمها ما يلي:

(1) فشل التفاوض

إن إسرائيل دائمًا ما استخدمت التفاوض بهدف تسويف حل القضية، ولتكسب وقتًا تتمكن من خلاله من خلق متغيرات جديدة على أرض الواقع لصالحها، ولإبراز مظاهر قوتها، وفي نفس الوقت إضعاف الطرف الفلسطيني، فمن تفاوض إلى آخر، قامت إسرائيل بتوسيع بناء المستوطنات في الضفة والقدس الشرقية، ومصادرة الأراضي الفلسطينية، ولم تتطرق إلى اتفاق سياسي يتصل بالاعتراف بحدود دولة فلسطين، أو عودة اللاجئين الفلسطينيين، أو القدس، أو قضايا المياه، بل وافقت على بنود تتصل بالحكم الذاتي، وإدارة القضايا الإقليمية مع دول الجوار مصر، والأردن، ولبنان. وعليه، فإن مسار التفاوض فشل تمامًا في الوصول لحل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، أو ضمانة حياة آمنة للفلسطينيين، مما أدى بالرأي العام الغربي إلى فقدان الثقة بنية إسرائيل في تحقيق السلام، او إعطاء الفلسطينيين جزء من حقوقهم، واتجه إلى دعم خيار المواجهة والمعاقبة لإسرائيل.

http://gty.im/106004336

(2) حيوية الدعم الدولي لإسرائيل

إسرائيل هي ابنة أو مولودة الأمم المتحدة، ويُعتبر المجتمع الدولي هو المنوط بحماية ما تراه «حقها في الوجود»

دائمًا ما أكد المتحدثون الإسرائيليون في خطاباتهم الدولية، وتحركاتهم الدبلوماسية، أن إسرائيل هي ابنة أو مولودة الأمم المتحدة، وأن المجتمع الدولي هو المناط بحماية ما تراه «حقها في الوجود». وبُناءً على ذلك، فإن تهديد إسرائيل بتحويل الرأي العام بالدول الغربية ضدها، واحتمالية أن ينجح هذا الرأي المضاد لها في حمل الحكومات على التوقف عن دعم إسرائيل، هو أداة ضغط قوية لتغيير السياسات الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية، وهو بعينه التهديد الذي تحمله حملة المقاطعة.

(3) جرائم الاحتلال

إن الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي، والمستوطنون الصهاينة في حق المدنيين الفلسطينيين، وما تتسم به بشاعة، وهتك للأعراف الإنسانية هي أكبر محرك للرأي العام ضد إسرائيل، وقد ساهم تقدم وسائل الإعلام وسعة انتشارها في نقل الصورة الحقيقية الانتهاكات، التي كان يتم التدليس عليها قبل ستين عاما، لذلك فإن نشطاء حملة المقاطعة يحرصون على عرض صور لجرائم الاستيطان والاحتلال في أغلب فعاليات الحملة، لجذب عدد أكبر من المتفاعلين معها.

http://gty.im/452954658


اتساع النطاق

أعلنت شركة «أورانج» إنهاء شراكتها مع شركة «بارتنر» للاتصالات الإسرائيلية فور انتهاء أمد العقود المبرمة وعدم التجديد

لا يتسع المقام هنا لحصر انتصارات حملة المقاطعة الدولية، ونكتفي بالتدليل على ذلك، بهدف الإشارة إلى نطاقها المتسع، فأكثر من 20 بنك وصندوق تقاعد أوروبي قاموا بسحب استثماراتهم من البنوك الإسرائيلية، وشركات السلاح والبناء الاستيطاني، كما أفادت شركة G4S عن إنهاء عملها في السجون الإسرائيلية بحلول 2017. وأرغمت المقاطعة شركة «فيوليا» الفرنسية العالمية على التوقف عن بيع منتجاتها في إسرائيل بعد أن خسرت حوالي 14 مليار جنيه إسترليني، لتورطها في بناء المستوطنات الإسرائيلي. كما أعلنت شركة «أورانج» إنهاء شراكتها مع شركة «بارتنر» للاتصالات الإسرائيلية فور انتهاء أمد العقود المبرمة وعدم التجديد. فيما يُعد قرار اللجنة التنفيذية في المفوضية الأوروبية وضع ملصقات لتمييز المنتجات القادمة من المستوطنات الإسرائيلية خطوة على طريق انتصار الحملة.


تأثيرات على الداخل الإسرائيلي

يبدو أن تصاعد حملة المقاطعة يطعن صورة «دولة الرخاء اليهودية» التي تُصدّرها إسرائيل ليهود العالم لتجذبهم للهجرة إليها

وعلى الصعيد الاجتماعي، يبدو أن تصاعد حملة المقاطعة، وما ينتج عنها من خسائر اقتصادية يطعن صورة «دولة الرخاء اليهودية» التي تُصدّرها إسرائيل ليهود العالم لتجذبهم للهجرة إليها، لا سيما مع ارتفاع التأثير المحتمل على مستويات المعيشة بإسرائيل، وهو ما سوف يحوّل نظر اليهود خارج إسرائيل عن الهجرة عنها، ومن المتوقع أن يدفع اليهود الموجودين بها للهجرة بحثًا عن وظائف ومستوي معيشي أعلى خارجها.


مقومات الاستمرار

خلال نشاط حملة المقاطعة في العشر سنوات المنصرمة، برزت عدد من العوامل تعزز من استمرار الحملة، منها ما يتصل بإسرائيل، سواء سياسيًا أو اقتصاديًا، ومنها ما يتصل بالساحة الإقليمية، والدولية، كما يلي:(1) بنية الشراكةتتوفر بنية شراكة متسعة بين إسرائيل، ودول الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية، فحوالي 35.4% من الصادرات الإسرائيلية تذهب إلى أوروبا، و28.4% إلى أمريكا الشمالية، طبقًا لوزارة المالية الإسرائيلية، وهو ما يضمن تصاعد الخسائر الإسرائيلية مع اتساع نشاط المقاطعة في استهداف مؤسسات الأعمال والمشروعات داخل إسرائيل، فإذا كان المقاطعة تأتي من دول لا تملك بنية شراكة واسعة ومتمددة مع إسرائيل كالدول العربية، فإنها لن تحدث تأثير فاعل أو تمثل أي تهديد لإسرائيل

(2) تزامن التهديدات

أتى تهديد حملة المقاطعة متزامنًا مع تصاعد تهديدات أخرى، لتصب جميعًا في نفس الاتجاه، ألا وهو إدانة إسرائيل، وتحويل الرأي العام ضدها دوليًاـ من أبرز هذه التهديدات منظمة «كسر الصمت» الإسرائيلية، والتي تم تأسيسها من قبل ضباط وجنود إسرائيليين متقاعدين، وتهدف إلى كشف جرائم وانتهاكات الجيش الإسرائيلي في حرب 2014 على قطاع غزة، ومعاملته اللاإنسانية للفلسطينيين بالضفة، ونجحت المنظمة في إقامة معرض للشهادات بزيورخ السويسرية، كما نجحت في لقاء مسئولين من مجلس الأمن القومي الأمريكي لتداول شهادات حول الانتهاكات، ثمة تهديد آخر متصاعد وهو إدانة منظمات حقوقية دولية لإسرائيل، فقد طالبت منظمة «هيومن رايتس واتش» الأمين العام للأمم المتحدة، بإدراج إسرائيل على لائحة العار.

(3) تصاعد الفاعل الفرد

اتسمت الفترة الماضية منذ بداية القرن الـ 21، بتصاعد قوة الفاعل الفرد في تغيير السياسات، وقيادة التنمية وخلق الفرص، وهو ما يتوافق مع أسس عمل حملة المقاطعة التي تقوم على فاعلية دور الفرد في نجاحها.


التحديات

على الجانب الآخر لمقومات الاستمرار، توجد تحديات أمام اتساع الحملة، منها ما يتصل بالوضع الفلسطيني، ومنها ما يتصل بمتغيرات داخل الدول الغربية، محل عمل الحملة، على النحو التالي:

(1) تبعية الاقتصاد الفلسطيني

في حقيقة الأمر، إن اتفاقية باريس الاقتصادية 1994، قد أسست لتبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي، فعلى السبيل المثال لا الحصر، تتحكم إسرائيل تمامًا في حركة الصادرات والواردات من وإلى الاقتصاد الفلسطيني، وتملك المنع أو السماح بالنفاذ لكافة السلع، كما تملك إسرائيل تحويل الاستقطاعات الضريبية، وتأمين المعاشات، واستقطاعات المنفعة الاجتماعية والخدمات الصحية إلى السلطة الفلسطينية، علاوة على التداول بالشيكل الاسرائيلي، وتدفق العمالة الفلسطينية إلى اسرائيل. وبُناءً على هذه التبعية، فإن خسائر الاقتصاد الإسرائيلي سوف تنتقل نسبة من آثارها إلى الاقتصاد الفلسطيني، من خلال عدة قنوات:

  • سوف تستهدف إسرائيل تضييق فرص الشراكات البديلة مع الدول الأخرى أمام القطاع الخارجي الفلسطيني، وتفرض تصريف صادراتها الفائضة جراء المقاطعة بالسوق الفلسطيني.
  • سوف يؤدي ارتفاع التضخم بإسرائيل – كنتيجة غير مباشرة للمقاطعة – إلى رفع أسعار الصادرات الإسرائيلية إلى أراضي السلطة الفلسطينية، والتي تمثل حوالي 55% من الواردات إلى فلسطين، طبقًا لتقرير اليونسكو الاقتصادي الاجتماعي عن الضفة الغربية وقطاع غزة 2015.
  • تراجع الاستثمار، لاسيما الأجنبي المباشر، في إسرائيل، وانخفاض قدرة الحكومة الإسرائيلية على تمويل تكلفة رأس المال، قد يؤدي إلى خفض تحويلات الاستقطاعات إلى السلطة الفلسطينية، وربما تلجأ الحكومة الإسرائيلية إلى توقيف الاستقطاعات كأداة عقابية للفلسطينيين.
  • فقدان الإسرائيليين لوظائفهم – كنتيجة لحملة المقاطعة – سينعكس في تسريح العمالة الفلسطينية من إسرائيل، مما يرفع معدلات البطالة بالاقتصاد الفلسطيني.

(2) ضغط اللوبي الاسرائيلي

كثّفت الحكومة الإسرائيلية، وجمعيات أصدقاء إسرائيل بالدول الغربية، وغيرها من جماعات الضغط الصهيونية، من جهودهم لتجريم مقاطعة المنتجات الإسرائيلية باعتبار ذلك تمييز عنصري لا يتوافق مع اتفاقيات التجارة الحرة، فأصدرت الحكومة البريطانية في فبراير المنصرم 2016 قرار بحظر مقاطعة الموردين الإسرائيليين، وهو ما قوبل بتنديد شعبي واسع، علاوة على مهاجمة نواب مجلس العموم البريطاني للفرار، فيما تداولت أخبار عبرية عن ترتيبات بالكونجرس الأمريكي لسن قانونين أحدهما يحظر مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وآخر يمنع التمييز بين السلع المنتجة داخل الخط الأخضر، وبين المنتجة داخل المستوطنات.وختامًا، يبقى القول بأن مقاطعة إسرائيل تحمل مقومات استمرار بقدر أكبر مما تواجه تحديات، كما أن تفعيل سلاح المقاطعة الشعبية في وجه التوحش الإسرائيلي، هو حق فلسطيني في عنق الضمير العالمي، وحول ما إذا كانت المقاطعة أداة للغفران السياسي، فإن تحديد ذلك يبقى مرتهن بتغيير أوضاع الاحتلال على الأرض وما يتصل بذلك من فك المستوطنات، وهدم جدار الفصل العنصري، والإفراج عن الأسرى، وغيره من الجرائم. على جانب آخر يبقى على الحكومة الفلسطينية أن تعدل من اتفاقياتها السياسية والاقتصادية مع الاحتلال حتى لا تكون عقبة أمام نجاح المقاطعة.