تمثل التطورات التي تشهدها الساحة الأفغانية تحولًا استراتيجيًّا بالغ الأهمية في مصير النزاع الأفغاني، فبعد 20 عامًا من بداية النزاع الأمريكي الأفغاني، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أن ما تبقَّى من عسكريين أمريكيين هناك يتراوح بين 2500 و3500 عنصر، وأنهم سوف يختفون بحلول 11 سبتمبر 2021. تقوم بريطانيا بالشيء نفسه، حيث تسحب ما تبقى من قواتها البالغ عددها 750 جنديًّا، يأتي ذلك بعد عقدين من الأحداث المشتعلة والخلاف المستمر.

المدى الزمني للصراع

 تعود جذور الأزمة الحقيقية بين الولايات المتحدة وطالبان إلى منتصف التسعينيات، وذلك مع سيطرة طالبان على الحكومة الشرعية في كابول، وإعلانها مقرًّا للخلافة الإسلامية، فرفضت الولايات المتحدة وسائر دول العالم الاعتراف بشرعية وجود طالبان على سدة الحكم، باستثناء (باكستان والإمارات والسعودية). وفي عام 1998 وقع حادث انفجار السفارات الأمريكية في كل من دار السلام ونيروبي، وقد اتهمت الولايات المتحدة طالبان بتنفيذ هذه الهجمات، ومنها قامت الولايات المتحدة بالرد على هذه التفجيرات.

الربع الأول: سيطرة أمنية كاملة وحكومة مؤقتة

إن الحدث الفارق في تاريخ النزاع الأفغاني وقع في 11 سبتمبر/أيلول 2001 حيث فُجِّر برج التجارة العالمي، لترد الولايات المتحدة في أكتوبر/تشرين الأول 2001 بقصف أفغانستان، وتدخل قوات التحالف الشمالي المناهضة لطالبان كابول بعد ذلك بوقت قصير، لتبدأ الولايات المتحدة فرض سيطرتها الأمنية على البلاد، والتخلص من سيطرة طالبان على الحكم هناك.

في يناير/كانون الثاني 2002 انتشرت أول مجموعة من قوات حفظ السلام الأجنبية في البلاد – قوة المساعدة الأمنية الدولية بقيادة الناتو (إيساف) – إيذانًا ببدء معركة طويلة الأمد ضد طالبان. وفي ديسمبر/كانون الأول 2002 بدأت الجماعات الأفغانية التفاوض حول تشكيل حكومة مؤقتة، ثم تم اعتماد دستور جديد في عام 2004، كما أدى «حميد قرضاي» اليمين الدستورية رئيسًا للحكومة، ليُجرى أول اقتراع في أفغانستان منذ 30 عامًا.

الربع الثاني: تزايد السيطرة الأمريكية الأمنية على أفغانستان

في أكتوبر/تشرين الأول 2006 تولى الناتو المسئولية عن الأمن في جميع أنحاء أفغانستان، وتولى القيادة في الشرق قوة التحالف التي تقودها الولايات المتحدة، وبدأت التحركات الأمنية الواسعة تجاه فرض السيطرة الأمنية على الداخل الأفغاني.

منذ بداية الربع الثاني حرصت الولايات المتحدة على زيادة عدد قواتها في أفغانستان تباعًا، وكانت أول زيادة في عدد القوات بعد الهجوم الذي وقع على السفارة الهندية في كابول، ففي سبتمبر/أيلول 2008 أرسل جورج بوش 4500 جندي أمريكي إضافي إلى أفغانستان، وكانت الولايات المتحدة تتعامل مع وجودها في أفغانستان وسيطرتها على الأوضاع على أنه اختبار للإدارة الأمريكية، وذلك بحسب تصريح لوزير الدفاع الأمريكي آنذاك «روبرت غيتس».

تتابع إرسال القوات العسكرية إلى أفغانستان، وفي فبراير/شباط 2009 تعهدت دول الناتو بزيادة الالتزامات العسكرية وغيرها في أفغانستان بعد أن أعلنت الولايات المتحدة إرسال 17000 جندي إضافي، وفي مارس/أذار من العام نفسه تم إرسال 4000 جندي أمريكي إضافي، بغرض تدريب وتعزيز الجيش والشرطة الأفغانية. وقد أدت زيادة القوات الأمريكية والقوات المحسوبة على الناتو إلى زيادة الأعمال الهجومية التي تشنها حركة طالبان، والتي كانت ذروتها في عام 2010.

الربع الثالث: الأكثر تعقيدًا وتشابكًا وعنفًا بين الفاعلين

نظريًّا كان يفترض أن يتجه الربع الثالث من عمر الصراع نحو التهدئة، وذلك بسبب ما أعلنته إدارة باراك أوباما الجديدة – آنذاك – عن تغير نهجها في التعامل مع الأزمة الأفغانية، حيث كانت تهدف إلى تسليم السيطرة الأمنية للقوات الأفغانية، وذلك بالإضافة لتدعيم الخطط التنموية. وكذلك فقد انسحبت القوات الهولندية من قوات الناتو في عام 2010، ووافق الناتو على تسليم السيطرة الأمنية للقوات الأفغانية في عام 2014.

لكن ما حدث كان النقيض تمامًا، فقد تصاعدت موجات العنف في هذه الفترة، ففي مايو/أيار 2011، وبالتحديد في «أبوت آباد» الواقعة على بعد 120 كم عن إسلام آباد في عملية اقتحام استغرقت 40 دقيقة، قُتل فيها أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة. وفي ديسمبر/كانون الأول من نفس العام، قُتل 58 شخصًا على الأقل في هجومين على ضريح شيعي في كابول.

وفي فبراير/شباط 2012، قُتل ما لا يقل عن 30 شخصًا في احتجاجات على حرق نسخ من القرآن في قاعدة «باغرام» الجوية الأمريكية، كما قُتل جنديان في هجمات انتقامية، لتعلن طالبان ما أسمته «هجوم الربيع» على الحي الدبلوماسي في كابول.

ويُعَدُّ عام 2012 هو بداية إعادة تشكيل التحالفات العسكرية، فمن ناحية وافقت طالبان على فتح مكتب في دبي كخطوة نحو محادثات السلام مع الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية، وفي مايو/أيار أيَّدت قمة الناتو خطة سحب القوات المقاتلة الأجنبية بحلول نهاية عام 2014، أمَّا فرنسا فقد قررت سحب مقاتليها بحلول نهاية عام 2012، أي قبل عام مما كان مُخططًا له، وهو ما دفع الولايات المتحدة بالتعجيل بتسليم بعض المهام الأمنية للقوات الأفغانية، فقامت في سبتمبر/أيلول من العام نفسه بتسليم الحكومة الأفغانية سجن «باغرام» شديد الحراسة، كما علَّقت الولايات المتحدة تدريب مجندين جدد في الشرطة. وفي يوليو/تموز 2012، تعهد مؤتمر المانحين في طوكيو بتقديم 16 مليار دولار مساعدات مدنية لأفغانستان حتى عام 2016.

وبحلول أواخر عام 2014 انسحبت قوات الناتو، لتُنهي مهامها القتالية التي استمرت 13 عامًا في أفغانستان. وفي عام 2015 أجرى ممثلو طالبان والمسئولون الأفغان محادثات سلام غير رسمية في قطر، واتفق الجانبان على مواصلة المحادثات في موعد لاحق.

الربع الأخير من عمر الصراع

بدأت طالبان تتقدم إلى ضواحي «لشكركاه» عاصمة هلمند، وإلى مدينة «قندوز الشمالية»، وقد نجح التنظيم في وضع جزء كبير من المحافظتين تحت سيطرته منذ انسحاب الجزء الأكبر من قوات الناتو بحلول نهاية عام 2014. وفي سبتمبر/أيلول 2016 وقَّعت الحكومة الأفغانية اتفاق سلام مع الحزب الإسلامي الأفغاني، ومنحت الحصانة قائد الجماعة «قلب الدين حكمتيار».

لكن الاشتباكات استمرت، وفي 2017 أدى انفجار قنبلة في قندهار إلى مقتل ستة دبلوماسيين إماراتيين، كما أُبلِغ عن ارتفاع في أنشطة داعش في عدد من المحافظات الشمالية والجنوبية، وفي يونيو/حزيران سيطر مسلحو داعش على منطقة تورا بورا الجبلية في إقليم ننجرهار، والتي كانت تستخدم في السابق مقرًّا تنظيميًّا لأسامة بن لادن، ليعلن الرئيس الأمريكي – حينئذ – دونالد ترامب أنه سيرسل المزيد من القوات لمحاربة حركة طالبان. وفي منتصف عام 2018 كانت الحكومة الأفغانية تسيطر على 55% فقط من أراضي البلاد، وفق ما جاء في تقرير أمريكي.

الولايات المتحدة تبدأ في التفاوض مع طالبان

مع مرور السنوات اقتنعت الولايات المتحدة أنه لا يوجد تهدئة وحل في أفغانستان دون أن يكون هناك محادثات مع طالبان، لذا باشرت واشنطن وممثلون عن حركة طالبان محادثات سرية في الدوحة عام 2019، لكنها باءت بالفشل. وفي نهاية مارس/أذار التقى وفد من طالبان في كابول ممثلين عن الحكومة للمرة الأولى منذ 18 عامًا للبحث في تبادل الأسرى، وهو شرط مسبق للمفاوضات.

وفي يناير/كانون الثاني 2020 عُقدت الجولة الثانية من المفاوضات، والتي انتهت بتوقيع الولايات المتحدة وحركة طالبان اتفاقًا تاريخيًّا في الدوحة، يفتح الباب أمام انسحاب شامل للقوات الأجنبية من أفغانستان ومفاوضات سلام غير مسبوقة بين الأطراف الأفغانية.

وفي 17 مايو/أيار وقَّع الرئيس «أشرف غني» و«عبد الله عبد الله» اتفاقًا لتشارك السلطة، ثم أعلنت حركة طالبان وقفًا لإطلاق النار. واحتاج الطرفان إلى ستة أشهر منذ توقيع اتفاق الدوحة لتبادل خمسة آلاف سجين من حركة طالبان مع نحو ألف من عناصر القوات الأفغانية أسرى لدى الحركة.

وفي 12 سبتمبر/أيلول 2020 بدأت الحكومة الأفغانية وحركة طالبان محادثات في الدوحة. وفي 2021 أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن إنهاء أطول حرب أمريكية، مُتطلعًا إلى طي صفحة تدخل بلاده عسكريًّا هناك منذ 20 عامًا، كما أعلن حلف الناتو أنه يسحب قوات الدعم الحازم التي أُرسلت في 2019 لتدريب القوات الأفغانية.

وفي هذا الصدد نستخدم أداة منحنى النزاع لتوضيح التغيرات التي طرأت على الفترات الزمنية المختلفة للصراع، والمنحنى هو أداة رسومية توضح مسار النزاع في فترة زمنية معينة، والتي تمر بمراحل مختلفة من النشاط، ومستويات شدة ومقاييس العنف.

المنحني الزمني للنزاع وفقًا لدرجة العنف في أفغانستان.
/ من تصميم الكاتب

في هذا المنحنى نفترض أن درجة العنف التي تُقاس بها الأحداث تحدد من 10، بحيث 10 تعني عنيفًا جدًّا، وصفر يعني غير عنيف، ونجد أن الربع الأول يُمثِّل على المنحنى مرحلة تصعيد المواجهة أو النزاع، في حين وصل العنف لأقصى درجاته أو مرحلة الأزمة والنزاع الحاد في عام 2010 أي بنهاية الربع الثاني، وذلك بالتزامن مع زيادة قوات الناتو، وزيادة هجمات طالبان، والغياب التام لأي نوع من التسويات عن الساحة، لتبدأ من بعدها وحتى الآن مرحلة التهدئة، وهي تهدئة لما سبقها من مرحلة الأزمة، لكن نسب العنف كانت مرتفعة أيضًا وتُقدَّر بـ 8 من 10.

الفاعلون

في هذا الجزء نُسلِّط الضوء على الفاعلين في الصراع الأفغاني في أوقات متغيرة من عمر الأزمة، لمعرفة التغير في خريطة الفاعلين التي طرأت على أفغانستان، وترتيب هذه المصفوفات بالشكل الذي يساعد على فهم تطور الفاعلين في الداخل الأفغاني، والتغيرات التي طرأت على أعدادهم ومصالحهم واحتياجاتهم، بالشكل الذي يساعد على فهم النزاع.

الربع الأول:

كانت الحكومة المؤقتة برئاسة «حميد قرضاي» تحظى باعتراف دولي، تمثَّلت آمالها في إعادة الاستقرار لأفغانستان والحظوة بشرعية. لذلك سعت إلى القضاء على طالبان والقاعدة، وتوسيع قاعدة الدعم الدولي. وفي مواجهة الحكومة الشرعية كانت هناك حركة طالبان، التي وقع الغزو الأمريكي في عهدها، وبالتالي سعت إلى التخلص من القوات الأمريكية، والعودة إلى الحكم مرة أخرى. وكان الفاعل الثالث هو تنظيم القاعدة الإرهابي، الذي كان يسيطر على أجزاء واسعة من البلاد.

تدخلت الولايات المتحدة والناتو – بالإضافة إلى عدد من الوسطاء الخارجيين – للتخلص من طالبان، وكانت وسيلتهم هي إرساء قواعد حكم جيدة ونظام مؤسسي خالٍ من وجود طالبان. أمَّا أجندة السلام المستخدمة حينئذ فكانت اتفاق بون في ألمانيا لتشكيل حكومة مؤقتة باستبعاد كامل لطالبان.

الربع الثاني:

سيطرت طالبان على أجزاء واسعة من أفغانستان، وسعت إلى التوغل أكثر، واستمر الناتو وشركاءه في محاولة فرض السيطرة الأمنية على الداخل الأفغاني للتخلص من طالبان. وخلا هذا الربع من أي محاولة للتوصل لاتفاق سلام، لذا شهد الربع الثاني ارتفاعًا للتصادم بين الفاعلين في أفغانستان.

الربع الثالث:

في هذه الفترة بدأ الفاعلون الرئيسيون في الاعتراف بأن الحل لا بد أن يتضمن الجلوس على مائدة تفاوض واحدة. حيث تغيرت احتياجات طالبان، وتطلعت للاعتراف الدولي بها كفاعل سياسي شرعي، وبدأت في طرح مسألة إبعاد الجنود الأجانب عن الأراضي الأفغانية، وإنهاء استهداف قادتهم، وإزالة القادة من قوائم الأمم المتحدة للإرهاب، وإطلاق سراح السجناء.

أمَّا تنظيم القاعدة فأراد الإطاحة بالحكومات في أفغانستان وباكستان وما يرتبط بهما، وبدأت الأطراف الخارجية كذلك في وضع النواة الأولى للتواصل مع طالبان، ففتحت دولة الإمارات العربية مكتبًا لطالبان على أراضيها كخطوة نحو محادثات السلام، وبدأ التفكير في إبعاد الجنود الأجانب عن الأراضي الأفغانية.

الربع الرابع:

شهد تغيرًا جذريًّا، وعلى العكس من الربع الأول، سعت طالبان إلى التوصل إلى تمثيل عادل في العملية السياسية، كونها فصيلًا سياسيًّا وليس كيانًا إرهابيًّا، وذلك للوصول إلى أكبر مزايا ممكنة للانخراط في السلطة، والضغط على الولايات المتحدة في المفاوضات. أمَّا الأطراف الخارجية فأرادت الوصول إلى اتفاق تسوية بمشاركة طالبان.

الخاتمة

بعد 20 عامًا من الصراع أصبحت أفغانستان الدولة الأقل سلامًا في العالم، وذلك وفقًا لمؤشر السلام العالمي لعام 2020. وقد ساعد في هذا التعقيد عدد من العوامل:

  • تدخل الولايات المتحدة للرد على تفجير برج التجارة العالمي دون اتباع أي إجراء قانوني متعلق باللجوء لمحكمة العدل الدولية.
  • فرض السيطرة الأمنية الكاملة على أفغانستان عقب دخولها، وذلك دون التوصل إلى تسوية بشأن وضع طالبان، وهو ما كان السبب الرئيسي وراء تزايد أعمال العنف، والتي نتجت عن مواجهة مباشرة وغير مباشرة بين طالبان والولايات المتحدة.
  • الزيادة غير المحسومة لقوات الولايات المتحدة في أفغانستان، والتي كان يعقبها تزايد في حجم وشدة ومدى أعمال العنف التي تشنها طالبان، فغالبًا ما كانت تؤدي أي زيادة في أعداد القوات الأمريكية والقوات المحسوبة على الناتو إلى زيادة الأعمال الهجومية التي تشنها حركة طالبان.
  • استبعاد الولايات المتحدة والحكومات الأفغانية المتعاقبة حركةَ طالبان من أي تسوية سياسية مقترحة، وكذلك استُبعِدت من التمثيل في أي من الاستحقاقات الدستورية، وبالتالي استمر الصراع حتى لم تجد حكومة أفغانستان والولايات المتحدة بُدًّا من الجلوس مع طالبان للبحث عن تسوية.
  • فشل التعامل مع عمليات تنظيم القاعدة. بجانب عدم التفات الفاعلين إلى التغير الذي طرأ على الساحة الأفغانية، وهذا الإغفال أدى إلى دخول فاعل جديد بمصالح وقوات جديدة متعارضة مع الفاعلين القدامى.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.