لا لن أرحل. هذه حكومتي وسأعدل وأبدل فيها كما أشاء. أنا رقم صعب في المعادلة، ولن أخرج منها بسهولة

هذه باختصار الرسالة التي أراد رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد أن يوصلها إلى خصومه السياسيين، وعلى رأسهم الرئيس الباجي قائد السبسي ونجله حافظ، من خلال التعديل الوزاري الواسع الذي أجراه على فريقه الحكومي في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.

أما حركة النهضة، صاحبة الكتلة الأكبر في البرلمان، والداعم الرئيسي للشاهد، فقد أرادت من خلال دعمها للتعديل الوزاري أن تؤكد لخصومها السياسيين أنها لم تعد الحيوان المستأنس التي كانت عليه في السابق حين كانت الظروف المحلية والإقليمية غير مواتية، وأن لها أنيابًا ومخالب لن تتراجع عن استخدامها لحماية مصالحها السياسية.


كيف بدأت أزمة الشاهد؟

لم يكن رئيس الوزراء التونسي الحالي يوسف الشاهد معروفًا للكثيرين حين أسندت إليه وزارة الشؤون المحلية في حكومة الحبيب الصيد مطلع العام 2016، ولم يهتم أحد به كثيرًا بعدما عُين وزيرًا، إذ اعتبره الجميع أحد أعضاء الحزب الحاكم نداء تونس الذين أُتي بهم لملء فراغ في الحكومة، لكن الأنظار سُلطت عليه عندما دعمه «النداء»، وعلى رأسه مديره التنفيذي حافظ السبسي، نجل الرئيس، لتولي رئاسة الحكومة، وهو ما وافقت عليه حركة النهضة شريك نداء تونس في الحكم.

كان السبسي الأب والابن يريدان رئيس وزراء ضعيفًا من حزبهما حتى يستطيعا التحكم فيه وتسيير أمور الدولة كما يشاءان، وكانت «النهضة» كذلك تريد رئيس وزراء ضعيف ويسهل إسقاطه، وظن الطرفان أنهما وجدا ضالتهما في الشاهد،فكُلف بتشكيل الحكومة في أغسطس/ آب 2016، لكنه فاجأ الجميع.

حاول الشاهد شيئًا فشيئًا تكوين كتلة موالية له داخل «النداء»، وتوسيع دائرة تحالفاته وتقوية علاقاته مع حركة النهضة وأطراف أخرى في البرلمان والساحة السياسية، من أجل الإفلات من قبضة آل السبسي والاستقلال بالقرارات الحكومية، وربما استعدادًا لطرح اسمه في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

لم يعجب هذا بالطبع حافظ السبسي، فحاول تقويم الشاهد، وعندما فشل شن هجومًا حادًا عليه واتهمه بتوظيف أجهزة الحكم ومستشاريه ووسائل إعلام لتشويه حزب نداء تونس لخدمة غايات وأجندات انتخابية سابقة لأوانها وغير مشروعة، والسعي لخلق توازنات سياسية جديدة، وفي النهاية أعلن أن حكومة الشاهد تحوّلت إلى عنوان أزمة سياسية ولم تعد حكومة وحدة وطنية، وطالب الشاهد بالاستقالة. وهي مطالبة دعمها الرئيس التونسي، والاتحاد العام للشغل.

رفض يوسف الشاهد الاستقالة واتهم حافظ السبسي بـ«تدمير حزب نداء تونس»، وحظي بدعم حركة النهضة، التي ترى أن تغيير الحكومة حاليًا أمر غير ذي جدوى، وأن الأفضل أن تبقى حتى إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية أواخر العام 2019.

تفاقم الخلاف ووصل إلى أقصاه في سبتمبر/ أيلول الماضي،فأعلن حزب نداء تونس تجميد عضوية الشاهد وإحالة ملفه إلى لجنة النظام في الحزب، بتهمة «الخروج عن الخط الحزبي». لكن هذا لم يمنع الشاهد من الاستمرار في قيادة الحكومة، بل وتجهيز تعديل وزاري واسع.

نحن الآن أمام رئيس وزراء يواجه مطالبات بالاستقالة، وعلى خلاف حاد مع رئيس الجمهورية ورئيس حزبه، ومهدد بالطرد من الحزب، ويسعى إلى تفتيت حزبه واستقطاب نوابه في البرلمان لتشكيل كتلة موالية له، ومتحالف مع حزب منافس لحزبه، وهي كلها أمور ندر أن تجتمع في مشهد سياسي واحد في أي دولة.


التعديل الوزاري وتبعاته

بدأ الشاهد قبل نحو شهرين مساعي جادة لإجراء تعديل وزاري يهدف من ورائه، بشكل أساسي، إلى الحصول على شرعية جديدة تسمح له بالبقاء على رأس الحكومة خلال الفترة المقبلة، دون إيلاء اهتمام كبير للأصوات المطالبة باستقالته.

أعلن الشاهد في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري التعديل الحكومي، قائلًا إن أحد أهدافه وضع حد للأزمة السياسية الراهنة، لكنه يعلم جيدًا أن هذا الهدف بالتحديد لن يتحقق. فالتعديل والأجواء التي خرج فيها وطريقة خروجه، كلها عوامل كان يدرك الشاهد أنها ستفاقم وتعمق الانقسام السياسي الحالي، وهو ما بدا جليًا من خلال ردود الأفعال التي صدرت في أعقاب إعلان التعديل.

أتى رد الفعل الأول والأبرز من رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، الذي قالت المتحدثة باسمه إنه «غير موافق على هذا التمشي (التعديل) لما اتسم به من تسرع وسياسة الأمر الواقع»،بينما قال الباجي نفسه، خلال ندوة صحفية، إن الشاهد استعجل إجراء التعديل الوزاري دون مناقشته أو مراعاة الإجراءات والتقاليد الواجب اتباعها، لذلك رفض التعديل.

أما حزب نداء تونس فقد قامت ثورته عقب التعديل الوزاري واعتبر أنه «انقلاب على الدستور والديمقراطية في البلاد. القانون لا يخوّل لرئيس الحكومة القيام بهذا التمشي دون التشاور مع رئيس الجمهورية وتباحثه في مجلس وزاري»، واتهم حركة النهضة بأنها «تشارك في عملية انقلابية واضحة على الديمقراطية». كما خير الحزب أعضاءه المشاركين في الحكومة بين البقاء في «النداء» أو في حكومة الشاهد، وقالت المتحدثة باسم الحزب إن «وزراء النداء الذين هم الآن في حكومة الشاهد، أو ما تسمى بحكومة النهضة، لا ينتمون لحركة نداء تونس».

وبالطبع أعلنت حركة النهضة، الداعم الرئيسي للشاهد، ترحيبها بالتعديل الحكومي، وقالت إنها ستصوت لمنحه الثقة في البرلمان. واعتبرت أن التعديل «حافظ على الطبيعة التعددية الائتلافية للحكومة، وحافظ على عدد الوزراء المنتسبين لنداء تونس (ستة وزراء واثنين كُتّاب دولة)، كما حافظ على حجم النهضة (خمسة وزراء وأربع كتاب دولة)».

وفي خضم ردود الأفعال، اشتعل جدل دستوري وقانوني حول مشروعية قيام الشاهد بالإعلان عن التعديل الحكومي دون مناقشته مع رئيس الجمهورية والمرور بالإجراءات المرعية، وبرزت دعوات تطالب الباجي قائد السبسي برفض استقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين ورفض اعتماد قرار تعيينهم، لكن الباجي أوضح أنه لن يصعد إلى هذا الحد باعتباره نهجًا «غير سليم»، وأكد أنه إذا نالت الحكومة ثقة البرلمان فلن يستطيع تنحيتها.

استمر الجدل قائمًا لمدة أسبوع كامل حتى عقد البرلمان جلسة للتصويت على منح الثقة للتعديل المقترح، وسط غياب كتلة «النداء» التي اعتبرت أن المشاركة في التصويت يشرعن الانقلاب الذي قام به الشاهد و«النهضة». وفي النهاية، حصل التعديل الوزاري على ثقة البرلمان، بعدما أيدته بشكل أساسي كتلة حركة النهضة، وكتلة الائتلاف الوطني التي صنعها الشاهد على عينه من المنشقين عن نداء تونس، وكتلة مشروع تونس المشاركة في الحكومة، وهو تأييد كان كافيًا لتمرير التعديل.


النهضة تبرز أنيابها ومخالبها

سئمت حركة النهضة من لعب دور الحمل الوديع الذي يسعى إلى التوافق مع الجميع وعدم إغضاب أحد. لعبت الحركة هذا الدور بشكل أساسي بين عامي 2013 و2017، عندما كانت الموجة المضادة لثورات الربيع العربي في أوج قوتها، والإخوان المسلمون في مصر وأغلب دول المنطقة يُنكل بهم وتُوئد تجربتهم.

قررت «النهضة» في ضوء هذه المعطيات اعتماد مبدأ خفض الجناح والمهادنة، فلم تقدم مرشحًا للانتخابات الرئاسية عام 2014، ودعمت الباجي قائد السبسي ضمنيًا للوصول إلى قصر قرطاج عندما قررت عدم دعم أي من المرشحين في الانتخابات، وتوافقت مع حزب نداء تونس الحاكم، وشاركت في الحكومات المتعاقبة بدلًا من الجلوس في مقعد المعارضة، وحتى عندما فقد نداء تونس الأغلبية البرلمانية لم تسع لطرح نفسها كحزب حاكم باعتبارها صاحبة الكتلة الأكبر في البرلمان.

سأم «النهضة» من دور الحمل الوديع بدأ يتجلى قبل نحو عام تقريبًا، وكان أبرز تمظهراته الاستمرار في دعم الشاهد في مواجهة آل السبسي، وها هي الحركة الآن تدعم التعديل الوزاري الذي يعارضه آل السبسي وقوى سياسية كثيرة في تونس، دون أن يرف لها جفن.

لم تعد «النهضة» تعبأ عمليًا بالتوافق، رغم أن خطابها النظري ما زال متمسكًا به. «النهضة» باتت ترى الآن أن لها رؤية ومصالح سياسية يجب أن تتحقق، وأنها تحظى بدعم جماهيري كبير يجب أن تستغله، وأن من حقها أن تجني الآن مكاسب من سياستها التوافقية السابقة.

لذا لم يعد يهمها كثيرًا أن يعلن السبسي الأب انقطاع العلاقة مع الحركة، أو يهاجمها السبسي الابن ونداء تونس، بل ما يهمها الآن أن يبقى يوسف الشاهد المتوافق معها حتى يتم إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية أواخر عام 2019، وأن يواصل «النداء» الاحتراب الداخلي حتى تتفتت قوته وتصبح هي القوة الرئيسية بلا منازع.