أنا صفر على الشمال مقارنةً به. رجل مقاتل، كان مجلس الثورة يخشاه لأنه مقاتل شجاع وجدع.

بعفوية شديدة تحدث محمد نجيب، أول رئيس لمصر بعد ثورة يوليو/ تموز 1952، عن العقيد يوسف صديق. ثم في عام 2018 قرر الرئيس المصري الحالي، عبد الفتاح السيسي، منح يوسف صديق قلادة النيل التي تُعتبر أرفع وسام مصري، بعد 43 عامًا على وفاته. لتكون تلك القلادة اعترافًا بفضل الرجل في نجاح ثورة يوليو/ تموز، واعتذارًا رسميًّا لما ارتُكب في حقه لاحقًا.

وُلد يوسف في زاوية المصلوب، التابعة لمركز الواسطى، في محافظة بني سويف. نشأ في عائلة عسكرية من الجد إلى الأب. فقد كان والده اليوزباشي منصور صديق، الذي شارك في حرب استرداد السودان وقضى جل حياته هناك. تُوفي والده عام 1911، بعد عام من ولادة يوسف. أما جده يوسف فقد كان حاكم كردفان إبان الثورة المهدية. قُتل الجد في تلك الثورة، وقُتلت عائلته كلها، لم ينجُ منها إلا ولدان، هما منصور وأحمد.

بعد النجاح في مدرسة الواسطى الابتدائية، ثم بني سويف الثانوية، التحق بالكلية الحربية. تخرج في الكلية عام 1933، واختار تخصصًا في التاريخ العسكري. أثناء عمله حصل على شهادة أركان الحرب عام 1945. في تلك الأثناء كان ليوسف اتجاهًا سياسيًّا واضحًا. فرغم أنه خدمته العسكرية كانت في السلوم، إلا أنه بدأ يتواصل مع العديد من الأحزاب اليسارية المصرية.

لكن انشغاله بالسياسة والنقاشات النظرية لم ينقص من خبرته العسكرية شيئًا. فحين دقت طبول الحرب العالمية الثانية كان صديق من أوائل المشاركين في القتال الدائر في الصحراء الغربية. كما شارك لاحقًا في حرب فلسطين عام 1948. في تلك الحرب لمع اسمه كقائد عسكري شجاع. فقد احتل نقطة مراقبة حيوية بين المجدل وأسدود. وصار وجوده في منطقة علامةً على شدة تحصينها، فشاع بين الجنود استخدام مصطلح شريط يوسف صديق، لوصف المناطق التي يسيطر عليها الرجل وجنوده.

التحرك مبكرًا

كانت حرب فلسطين الملتقى للعديد من الضباط الذي سيتعرفون فيها على تنظيم الضباط الأحرار، ولم يكن صديق استثناءً. ففي حرب فلسطين التقى الرجل بوحيد جودة رمضان، نقيب مصري مشارك في الحرب. نشأت صداقة بينهما امتدت لسنوات ثلاث قبل أن يعرض وحيد جودة على صديقه الانضمام إلى الضباط الأحرار. لم يتردد يوسف صديق في الانضمام، ولم يتردد أيضًا في تنفيذ ما طُلب منه في الزيارة التي قام بها جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر لمنزله قبل 23 يوليو/ تموز 1952 بأيام قلائل.

تلك الزيارة تحديدًا ذكرها جمال عبد الناصر، بعد أن صار رئيسًا لمصر في عيد الثورة العاشر. في خطاب الاحتفال تحدث عبد الناصر عن دور يوسف صديق في نجاح الثورة. وحكى قصة اعتقال صديق من قبل قوات الثورة، وسعادة عبد الناصر حين رأى صديق لأول مرة بعد الثورة، وقرر فك أسره فورًا. تلك الرواية يتوافق حولها جُل رجال الثورة المؤثرين. وأبرز ما يتوافقون حوله هو أهمية دور يوسف صديق في نجاح الثورة. من هؤلاء الرجال عبد اللطيف البغدادي، ومحمد نجيب، وحمدي لطفي، وجمال حماد.

لكن قصة صديق مع الثورة بالتفصيل فيحكيها لنا الرجل في مذكراته. يقول إن وحيد رمضان أخبره عام 1951 عن التنظيم، وأن أهدافه تتلخص في التخلص من الفساد، وإرساء حياة ديموقراطية سليمة. قبل صديق فأُسندت إليه على الفور قيادة الكتيبة الأولى مدافع. قبل ليلة الثورة المحددة تحرك البكباشي يوسف صديق برجاله، ومعاونه عبد المجيد شديد، من العريش إلى مقر الكتيبة الجديدة في الهايكستب.

يخبرنا أحمد حمروش في كتابه قصة ثورة يوليو، بزاوية أخرى للقصة. يقول إن لجنة قيادة الثورة اجتمعت وقررت أن تكون ليلة 23 يوليو/ تموز هي ليلة التحرك. وحُددت ساعة الصفر لتكون في الثانية عشرة مساءً. وأُعطيت عملية التحرك اسمًا كوديًّا، نصر. لكن عبد الناصر عدَّل الساعة للواحدة صباحًا. قام عبد الناصر بإبلاغ جميع الضباط الذين يُفترض مشاركتهم في التحرك، إلا يوسف صديق نظرًا لبعد الهايكستب عن خط سير عبد الناصر. قرر عبد الناصر أن الأسهل هو انتظار صديق ورجاله في الطريق العام، ثم ردهم إلى الثكنات وإخبارهم بالعودة للتحرك بعد ساعة.

واقعة الملابس المدنية

الدكتور عبد العظيم رمضان، الذي نشر مذكرات يوسف صديق، نقل لنا على لسان الرجل نفس الرواية. ويكشف لنا ما حدث في المعسكر قبل التحرك. يقول إن صديق لم يخفِ على رجاله ما هم مقدمون عليه. بل وقف فيهم خطيبًا وأخبرهم أنهم مقدمون على عمل تاريخي، سيظلون يفخرون به للأبد. وأن ما سيفعلونه الليلة سوف يؤثر على أبنائهم وأحفادهم وأحفاد أحفادهم.

بدأ صديق التحرك من الهايكستب دون أن يدري ما يحدث داخل مقر قيادة الثورة. كان الرجل في مقدمة عربات جنوده. بمجرد الخروج من المعسكر رأى صديق اللواء عبد الرحمن مكي قائد الفرقة يقترب منهم. أمر صديق رجاله باعتقال اللواء. وضع الجنود اللواء في سيارة تسير خلف سيارة صديق وباقي سيارات الجنود. استمرت السيارات في الحركة حتى وصلت على مشارف مصر الجديدة.

هناك قابلت القوة الأميرالاي عبد الرءوف عابدين، قائد ثاني الفرقة. كان عابدين يتجه مسرعًا إلى الهايكستب ليحتوي التمرد الذي حدث فيه. أمر يوسف صديق باعتقاله وإركابه بجوار اللواء عبد الرحمن مكي. ثم عاودت السيارات الحركة، ووجه الجنود مدافعهم ناحية السيارة التي يركب فيها الرجلان.

يروي صديق أنه بعد التحرك لمسافة وجد بعض رجاله ملتفين حول رجلين يريدون المبادرة باعتقالهما. يقول صديق إنه تبين أن الرجلين هما جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر. لكن كانا في ملابس مدنية. تعجب الرجل من عدم ارتدائهما للزي العسكري فأخبره عبد الناصر عن تغيير الخطط. في تلك النقطة تحديدًا هناك آراء كثيرة تنفي هذه الواقعة، وأن عبد الناصر وعامر قابلا صديق بالفعل، لكن بملابسهما العسكرية. وأنهما لو كانا بملابس مدنية لما لفتا أنظار جنود صديق. لكن يُصر يوسف صديق أنهما كانا بملابس مدنية.

 المهم أنه حدث سجال بين الثلاثة حول خطأ صديق في التحرك المبكر، وتبعات ذلك على أمن باقي الضباط الأحرار. ورأى عبد الناصر ضرورة أن يعود صديق لمعسكره، ريثما تحين الساعة المحددة.

أخبره يوسف صديق صراحةً أن الرجوع لم يعد متاحًا. وأن الثورة بدأت لحظة اعتقاله الرجلين، وأنه لم يعد أمامه بد من التقدم نحو مقر الجيش لاحتلاله. كان إصرار صديق هو السبب الأبرز في نجاح الثورة كما سيكتشف الجميع لاحقًا. فقد تسرب خبر الثورة إلى الملك. فأبلغ القيادة بدوره بضرورة اتخاذ إجراء مضاد. فقررت قيادة الجيش قمع هذا التمرد.

السيطرة على مقر القيادة

لكن تحرك صديق لمبنى القيادة العامة للجيش قلب كافة الموازين. حينما وصل يوسف صديق إلى المبنى قام رفقة جنوده باقتحامه بعد معركة قصيرة، سقط فيها 4 جنود من الطرفين. استسلم بقية الحرس فدخل يوسف المبنى وبدأ في تمشيطه تباعًا. الدور الأرضي كان خاليًا تمامًا. لكن في طريقهم للطابق العلوي وجد شاويشًا يمنعه في الصعود فأصابه صديق في قدمه ثم استمر في التحرك بين الغرف بحثًا عن القادة أو من تواجد منهم.

في غرفة القيادة وجد صديق الباب موصدًا، حاول فتحه فوجد مقاومةً من خلفه. أمر رجاله فأمطروا الباب بوابل من الرصاص. اقتحموا الغرفة فوجدوا الفريق حسين فريد، قائد الجيش، والعديد من الضباط الآخرين، اختلفت رتبهم لكنهم اتفقوا في رفع منديل أبيض إعلانًا للاستسلام. قبض صديق عليهم، وسلَّمهم لمعاونه عبد المجيد شديد ليرافقهم إلى معسكر الاعتقال المُعد مسبقًا، في الكلية الحربية.

بعد ساعة كاملة بدأت الإمدادات تصل إلى صديق، فقد وجَّه عبد الناصر الفرق التي ستتحرك في موعدها الرسمي بالتوجه لمساندة صديق. وبعد تمام الاستيلاء على مقر القيادة، ومع بزوغ الفجر توجه صديق مع كتيبته لمواجهة الملك فاروق. ليكون الخطأ التنظيمي البسيط بعدم إعلام يوسف صديق بالموعد الجديد هو السبب المباشر في نجاح الثورة، وتحركه المبكر كان الدرع التي حمت بقية الضباط الأحرار من رد فعل قوي من قيادة الجيش والملك.

بعد بضعة شهور بات يوسف صديق عضوًا في الهيئة  التأسيسية للضباط الأحرار. وبعد استتاب الأمر للثورة بدأ صديق يطالب مجلس القيادة بعودة الحياة النيابية. ينقل لنا صديق جانبًا من تلك النقاشات في مذكراته فيقول إنه كان بديهيًّا أن يكون في المجلس التأسيسي للثورة. وإنه ظل في مكانه حتى أعلنت الثورة أنها ستجري الانتخابات في فبراير/ شباط 1953. لكنه لاحظ أن مجلس القيادة بدأ يتجاهل تلك الأهداف.

يقول إنه آثر ترك المجلس والعودة للجيش لكن لم يُسمح له. صمت صديق لكن ثار حين ثار عدد من مجلس القيادة يطالبون بالانتخابات، فاعتقلت الثورة أبناءها وقامت بمحاكمتهم. حينها اتصل صديق بعبد الناصر يخبره أنه لا يمكن أن يستمر في مجلس القيادة. استدعاه عبد الناصر لمكتبه، وحين وصوله نصحه بالسفر لتلقي العلاج والراحة في سويسرا في مارس/ آذار عام 1953.

هجاء ودعوة للعودة

كان الأمر طعنةً للرجل الذي رأى نفسه فارس الثورة ومنقذها. ابتعد، أو أُبعد، لكن ظلت مقالاته تنقل بعضًا من أفكاره ورؤيته للأحوال السياسية. حتى أتت أزمة مارس/ آذار 1954. ارتفعت نبرة صديق في مقالاته ورسائله وبدأ يطالب نجيب بدعوة البرلمان المنحل لممارسة عمله، وتكوين حكومة ائتلافية من التيارات المختلفة.

على إثر تلك المناشدات والمقالات اُعتقل صديق وأسرته وبات السجن الحربي مستقره لشهور طويلة. أُفرج عنه في مايو/ آيار 1955، لكن بشرط الإقامة الجبرية في قريته. وظل القرار مفروضًا عليه حتى وفاته في 31 مارس/ آذار عام 1975.

في غمرة حكاياته يقول صديق إنه لا يعرف إذا كان عدم إبلاغه بساعة الصفر هو خطأ تنظيمي فحسب، أم قرار متعمد. يقول إنه ظل بقية عمره يسأل الضابط زغلول، رسول القيادة إليه، هل كانت ساعة الصفر التي نقلها له مقصودًا أن تكون مبكرة أم أنه أخطأ فحسب، يقول صديق إن زغلول كان يبتسم ولا يجيب.

لكن كانت الغصة التي تعرض لها قبل اعتقاله وأثناءه شاغلًا كافيًا. فبعد اعتقاله علم الرجل أن عبد الناصر طلب اعتقال زوجته أيضًا. فتوجهت قوة من الداخلية إلى منزل السيدة توحيدة صبري، وخرج أحد الضباط من المنزل بمجموعة من المنشورات الشيوعية. اقتادوا توحيدة إلى وزارة الداخلية، لكن أُخلي سبيلها بعد أن تبين أن الزوجة المطلوب القبض عليها هى الزوجة الثانية، علية توفيق. وتم القبض عليها وعلى المساعدين الموجودين في المنزل وأودعوا السجن الحربي.

حينها نظم يوسف قصيدته اللاذعة في هجاء جمال عبد الناصر بعنوان فرعون، قال فيها:

أعرضي يباح ويلقى به
على ناظريك بقاع السجون
وكل رجالي غدرت بهم
 أكل رجالي من المجرمين؟
ولما وقعت وعبد الحكيم
 بأسر رجالي وما يعلمون
وقد كنت مختفيًا في ثياب
 تباعد عنك مثار الظنون
فأنقذت روحيكما من هلاك
 ورحت بروحي ألاقي المنون

لكن رغم هذه القسوة والجفوة بين الرجلين، أرسل صديق إلى عبد الناصر برقية تهنئة حين وقع اتفاق الجلاء. وكان آخر لقاء بينهما حين أعلن عبد الناصر تنحيه بعد النكسة عام 1967، فكان صديق من أوائل الجالسين في مكتب عبد الناصر يطالبه بالعدول عن الاستقالة.

قاوم الرجل الموت جراء النزيف الحاد الذي أصابه قبل التحرك بثلاثة أيام. وأقنع عبد الناصر وعامر أنه سيواصل ما طُلب منه، وأنه لن ينسحب من الثورة. وافق عبد الناصر وقتها مع وعد من صديق أنه إذا شعر بالتعب سوف يلجأ للمستشفى العسكري بكوبري القبة بعد أن يُتم السيطرة على مقر قيادة الجيش. لكن بعد تلك الجفوة، واتخاذ الأمور مسارًا لا يرضاه، ظل الرجل منتظرًا الموت في قريته حتى وافاه.