لقد أتيت أنت إلى منزلك، فمرحبًا. ادخل، إن مجيئك إنما يكون مصحوبًا بالسعادة، ادخل من باب القلب.
مولانا جلال الدين الرومي

(1)

فرحٌ يُنسي البسطاء الهموم ولو لوقت قليل، ويبعث في قلوبهم ألوانًا من السرور، الأطفال والنساء والرجال، الكلّ يغيب عن اليوم واللحظة ولا يذكر من هموم قلبه هناك شيئًا، وإن ذكر شيئًا في المقام الحنون مما يزعجه فذكره بقصد المحو، فخزانة الأسرار تستوعبه وآخرين، وتضمد جرحه، وتسكّن ألمه، فالسيدة معطاءة ولا يخيب قاصدها، وترنيمة الدرويش الدائمة (كريمة يا سِتْ).

لا فرق بين رجلٍ وامرأة في الطريق، الكلّ سواء، فالرجال والنساء عند السيدة زينب معتقداتهم واحدة، وكلماتهم واحدة، فالسيدة زينب تنادَى (ماما- أمّه- أم الحنان) بلسان الذكر والأنثى، وإن تعطّش الرجل إلى الحنان والحب في رحاب السيدة، فكذلك الأنثى. ربما يكون الاختلاف الوحيد في التعبير عن الفرح في زغاريد النساء التي تختص بها دون الرجال، لكن الرجال لا يتوقفون عن الإعلان عن محبتهم وفرحهم بترديد الصلوات على حضرة النبي وإنشاد بعض الأشعار فرحين مستبشرين.

أصحابُ الأحكام والمؤمنون بالصور وناصبو الأوثان ينشغلون دومًا بأحكام الرفض والقبول لمظاهر الفرح (القليل) الذي يعيشه البسيط، المقهور والمهدور دائمًا من أهل الدين والسياسة والمجتمع، ولا يرون في الفرح شيئًا طيبًا ومطببًا لقلب هؤلاء الذين يمرحون أمامه، فهم في نظره (مخابيل) غُرر بهم، لا يرون في (الفرح) شكلاً من أشكال التقوى والعبادة؛ لأنهم لم ينخرطوا يومًا بعين الرضا أو بعين النظر المتمهلة في إصدار الحكم بعد معاينة وخبرة، لو تريثوا قليلاً ولمسوا إنسانًا من هؤلاء لعاينوا (أطعموا الطعام، وأفشوا السلام) جسدًا وحقيقة عند هؤلاء، فكل من قصد (السيدة الكريمة) يبذل كل ما في وسعه من كرم على قدر الطاقة، فالخبز يوزّع، والسلام ينتشر، والابتسامة لا تفارق وجه العجائز، والأنفاس التي تهدأ بعد توتر تضفي على الأجواء دفئًا مفقودًا في غير هذه البقعة الطاهرة.


(2)

ناصبو الأوثان ينكرون النذور والأضحيات في الموالد؛ لكنهم يضحّون بحقوق الناس الموروثة، بفرحة قلوبهم، بهدوئهم، ويحاولون إلغاء وجود وجه ظلّ مستمرًا من وجوه الدين الباسمة لجميع الخلائق!.

نحتاج لكلمة تنبئ عن فهم عميق لخلفيات البسطاء وممارساتهم لتكشف لنا عن المغزى والدلالات، لا تسجن الآراء وتحاكم المعتقدات، وتقتل المرح في قلوب تنشده كي تستريح من وعثاء هذا السفر الطويل.

نحتاج لمن يكون مصباحه منيرًا للُحمة هذه الثقافة العميقة، كما فعلت نادية أبو زهرة في دراستها عن السيدة زينب “النقاء والسلطة: دراسة في الشعائر الدينية في المجتمعات الإسلامية” Abu-Zahra, Nadia, The Pure and Powerful. Studies in Contemporary Muslim Society, Berkshire, Ithaca Press, 1997، إذ ركّزت على دراسة الطقوس التي تحيط بضريح السيدة زينب في القاهرة، فشعّ الدفْء والفهم والتعاطف في تقديمها لهذه الدراسة. فها هي السيدة زينب في القاهرة وفي قلوب المصريين، ثم ها هي السيدة زينب ولية النساء (الحلم والحقيقة) وتلا ذلك (حيوات النساء والفتاوى التي ترشدهن). بعدها دخلنا عالم المولد (احتفال الناس والحكومة) و (الليلة الكبيرة واحتفالات الفجر) أخيرًا. دراسة ممتعة بكل المقاييس، فقد تمكّنت نادية أبو زهرة من أن تقدّم صورة حيّة لقطاع عريض من الشعب المصري في جزئية من حياته اليومية ونشاطه في بؤرة محدودة من المكان، ولكنها في الوقت نفسه تستشف روح هذا الشعب في أفراحه وأتراحه، وشجاعته في مواجهة الصعاب والحرمان. ترددت نادية على مسجد السيدة زينب في القاهرة للقيام بدراستها الميدانية وأجرت مقابلات مع زوار ضريح السيدة زينب من النساء على وجه الخصوص، ومع إمام الجامع، وكثير من المسئولين في وزارة الأوقاف وإدارة الموالد إلى غير ذلك من الجهات التي تساهم في إدارة شئون المساجد وإقامة الموالد في مصر، كما اطلعت على المصادر التاريخية التي تعالج حياة السيدة زينب والمصادر الفقهية التي تتناول الإرشادات الخاصة بزيارة الأضرحة والمشاركة في الموالد، ولم تكتف بهذه المصادر ولكن عنيت أيضًا بنصوص أخرى لها أهميتها في تلمّس الوازع الدفين الذي تنطلق منه الطقوس الخاصة بالسيدة زينب في مصر، مثل بردة الإمام البوصيري (بعض أبيات البردة منقوشة قبالة المحراب في المسجد الزينبي) وخطب الشيخ جلهوم، إمام المسجد، إلى غير ذلك من نصوص تساعد في دراسة (رئيسة مملكة الديوان) والجالسة على عرش الولاية كما يعتقد أغلب الجمهور القاصد لمقامها.


(3)

في وقتٍ سابق كان الانخراط في الموالد صعبًا للغاية، وبخاصة لو كان من الدارسين، ويحكي ج.و. مكفرسون شيئًا من الصعوبات التي واجهته في عمله الأبرز (الموالد في مصر)، يتعرف القارئ من خلالها على مدى حرص الدارس الغربي ومثابرته من أجل الوصول إلى حقيقة يطمئن إليها وهو يسجل وقائع هذه الملتقيات، ولا يخجل من تكرار كلمة (أنا أجهل) و(لا يمكنني أن أقول) ولا يدعي أنه وصل إلى حقيقة يمكن القطع بها!، فاليقينيات والمسلمات لا يمكن البدء بها حين الدرس.

ومن الطرائف التي يحكيها مكفرسون في مشاركته وزيارته لمولد السيدة زينب عام 1940 أنه تمّ تقديمه للشيوخ والأعيان كزائر تركيٍّ عظيم التقوى كما قُدّم صديقه هارولد بيز Harlod Base كدرويش أخرس، وتمّ استقبالهما بكرم بالغ يصفه مكفرسون بالكرم الذي وخز ضمائرنا، “فقد جلسنا وشربنا القرفة وقدّمتُ أفضل ما في جُعبتي من التركية والعربية، وكنا سعداء جميعًا، حتى سنحت لأحدهم فكرة شريرة باستحضار أحد البكوات من إستنابول إلى مجموعتنا الصغيرة، والذي اعتقد أنه قد يجب أن (يدردش) مع بعض مواطنيه. وقع حامد وأولاد عرابي –الذين ساعدوا مكفرسون في حضور المولد- في رعبٍ شديد، وقبل أن نتحقق أنا وبيز من الإجراء الذي نووا عمله، سارع أولاد عرابي بالهرب من المسجد يتبعهم حامد الذي لم يكن قد أتقن بعد طرق الدبلوماسية ودون أن يدري الدرويش الأخرس وأنا بالمصير الذي ينتظرنا، تبعناهم خارج المسجد بغاية السرعة”.

الأمر مختلفٌ اليوم عما حكاه مكفرسون إذ يستطيع غير المسلم أن يشارك الحاضرين احتفالاتهم، وبخاصة إن لم تبدُ عليه مظاهر الترف والأعجمية، وقد شاركني بعض أصدقائي المسيحيون زيارة المقامات في مصر سواء في القاهرة أو الصعيد، وما يوجّه إليهم من أسئلة –إن كان- يوجّه إليّ، فبمجرد أن تظهر بمظهر المريد للشرح والتفصيل أو الطالب للمعلومة يبدأ الشيخ أو المتحدث بسؤالك عن أمورك الشخصية، لخشيته أن تكون من فريق يخاصم التصوف والصوفية.

وقد منعنا البعض ممن حصلوا على قدر من التعليم يصاحبه قدر من الحيطة أن نقوم بتصوير أو تسجيل بعض الوقائع التي شاركنا فيها، خوفًا من أن تُستخدم المادة المرئية ضد الصوفية والتصوف، ورغم معرفة حسن (أحد الدراويش الصوفية الذي اكتفى بأن يحصل على الثانوية العامة ويُطلّق التعليم النظامي كما قال) بي منذ فترة بعيدة، حينما رآني في المولد طلب مني ألاّ أكتب شيئًا أنتقد فيه الممارسات التي قد تظهر لي في المولد.

الخوف من الكلام عن الصوفية يمكن أن نفهمه في سياق ما حدث بعد إعلان (الإسلاميين) في مصر لآرائهم عن رفضهم للممارسات الصوفية المعلنة، فتوقف المديح والإنشاد لفترة في مقام المرسي أبي العباس مع تولّي محمد مرسي الحكم في مصر، واعتبر بعض المشاركين في مولد أبي الحجاج الأقصري قبل عامين أن ما حدث لمرسي من (زوال حكمه) كان سببه غضب أهل الله عليه، إذ عزم وبعض من تشاركوا معه الحكم على إيقاف هذه التظاهرات التي تعبر عن فرح الصوفية بآل البيت والأولياء.

قد يبدو هذا سببًا مضحكًا، وقد يظهر للمتابع أن السلطة الحالية تتبنى التصوف وتدعمه، لكن من يقارن بين مظاهر مولد السيدة زينب اليوم –كمثال- واحتفاليات الأعوام الفائتة سيعرف أن السلطة لا تعبأ بالمتصوفة ومثلهم كمثل بقية الجماهير الغفيرة، مهدورة حقوقهم.


مراجع قد تفيد القارئ للتعرف على السيدة زينب عند الصوفية ومكانتها والاحتفال بها:

1-نفحات من سيرة السيدة زينب، خطة جديدة في التربية الشعبية كتبها الأستاذ الشيخ أحمد الشرباصي وتناول فيها الموالد والأذكار والأضرحة والتعامل معها ووضح للقارئ كيفية الاستفادة من هذه المواد الروحية لتكون أداة لصلاحه وخيريته.

2-زينب للأستاذ الشاعر أحمد زكي أبو شادي، وتتميز كتابة أبو شادي بالعمق الصوفي والنقد العلمي، كما هو الشأن في بقية كتاباته الإسلامية التي لم تعد معروفة عند قطاع كبير من الدارسين اليوم.

3- تاريخ السيدة زينب للشيخ جاد الحق، وهو عمل إضافة لأهميته في التعرف على سيرة السيدة، يعبّر عن معايشة دامت أكثر من عشر سنين لكاتبه إذ كان إمامًا لهذا المسجد، شاهد وذاق وتأمل.

4-الموالد في مصر، ج. و. مكفرسون، ترجمة وتحقيق عبد الوهاب بكر، وهو من الأعمال الوافية عن الموالد في مصر بشكل عام .

5- Abu-Zahra, Nadia, The Pure and Powerful. Studies in Contemporary Muslim Society, Berkshire, Ithaca Press, 1997. وتمت الإشارة إلى عمل نادية أبو زهرة في المقال الذي يعد امتدادًا لاهتمامها بالتدين الشعبي في مصر وتونس، وقد قدّمت الأستاذة سيزا قاسم عرضًا وافيًا للكتاب كله، اعتمدنا عليه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.