عقب نكسة يونيو/ حزيران عام 1967 ألقى جمال عبد الناصر، الرئيس المصري آنذاك، خطابه التاريخي الذي يعلن فيه التنحي. يذكر المصريون، والتاريخ، هذا الخطاب ورد الفعل الشعبي عليه. لكن ما يذكره التاريخ بدرجة أقل أنه في نفس الخطاب قال عبد الناصر إنه كلَّف زميله وصديقه وأخاه برئاسة الجمهورية. هذا المقصود هو زكريا محيي الدين، الرجل الذي وضع عبد الناصر، على حد خطابه، نفسه وكل ما عنده تحت طلب زكريا وفق النصوص الدستورية التي تُحدد آلية عمله كرئيس جديد للجمهورية.

ساعات طويلة من الانتفاضة الشعبية أعادت عبد الناصر للسلطة مرة أخرى، لكن في الجانب الآخر من تلك الساعات كان «زكريا محيي الدين» هو رئيس الجمهورية. منصب سواء كان فعليًّا أو شرفيًّا، فإنه منصب لم يصل إليه أحد من الضباط الأحرار في حينه. ويبدو هذا التكليف من عبد الناصر عاكسًا لثقة مهولة في الرجل، كما أن هذا التكليف لا بد أنه سُبِق بترتيبات وسجالات بين زكريا وعبد الناصر، وبين عبد الناصر وباقي قيادات الثورة.

لكن زكريا ظل صامتًا للنهاية. فلم يخبرنا عن أسرار هذا التكليف، ولا العديد من خبايا حياته. فظلت حياته ومسيرته السياسية محل جدل بين روايات الآخرين لها، لأن الرجل لم يترك روايته الخاصة للأحداث. كذلك لم يبالِ الرجل بالظهور في لقاءات صحفية تفصيلية كما فعل غالبية الضباط الأحرار. لذلك فإن الإحاطة بحياة زكريا محيي الدين تعني ضرورة تجميع نثارها من حكايات الضباط الأحرار الآخرين.

انضم للتنظيم متأخرًا

زكريا محيي الدين من مواليد يوليو/ تموز عام 1918. والده عبد المجيد محيي الدين، عمدة كفر شكر. فتلقى تعليمه الأوليَّ في مدرسة الإصلاح في الكفر، ثم أكمل الثانوية في مدرسة فؤاد الأول. وفي أكتوبر/ تشرين الأول عام 1936 قرر الالتحاق بالكلية الحربية. تخرج فيها بعد عامين برتبة ملازم ثانٍ، وعُيِّن في كتيبة بنادق مشاة الأسكندرية. لكن عام 1939 نُقل إلى قرية منقباد، قرية تابعة لمحافظة أسيوط، وهناك التقى بجمال عبد الناصر للمرة الأولى. ثم انتقل إلى السودان عام 1940 ليلتقي هناك بعبد الناصر مرة أخرى، وتعرَّف أيضًا بعبد الحكيم عامر هناك.

بعد ذلك التحق بكلية أركان الحرب، وتخرج فيها عام 1948. في نفس العام سافر إلى فلسطين وارتفعت أسهمه في الجيش المصري بسبب بلائه الاستثنائي في تلك الحرب. فمثلًا تطوَّع هو وصلاح سالم بمهمة الاتصال بالقوة المحاصرة في الفالوجا، وإيصال الإمدادات الغذائية لهم. انتهت الحرب وعاد الرجل إلى مصر ليشغل وظيفة مُدرس في الكلية الحربية ومدرسة المشاة.

طوال تلك المدة لم يكن زكريا عضوًا في تنظيم الضباط الأحرار. ولم ينضم إليهم إلا قبل قيام ثورة يوليو بثلاثة أشهر فحسب. وبمجرد انضمامه برز نجمه بين القدماء، فقد كان من بين المشاركين في وضع خطة تحرك القوات. كما قاد بنفسه عملية محاصرة القصور الملكية في الأسكندرية، في وقت تواجد الملك فاروق الأول فيها.

بعد نجاح الثورة بدأ زكريا محيي الدين في تقلد المناصب. فتولى منصب مدير المخابرات الحربية بعد الثورة مباشرة لمدة عام. ثم صار وزيرًا للداخلية عام 1953. وفي العام التالي كلفه عبد الناصر بمهمة إنشاء جهاز المخابرات العامة. وعاد بعدها ليشغل منصب وزير الداخلية مرتين، ثم رئيسًا للوزراء، ثم نائبًا لرئيس الجمهورية. ثم رئيسًا للجمهورية عام 1967، وفي عام 1968 قرر الرجل اعتزال الحياة السياسية، والابتعاد عن الأضواء تمامًا.

لماذا اختاره عبد الناصر بديلًا؟

لكن اعتزاله الحياة السياسية لم يُخرجه من الخيال الشعبي المصري. فقد ظل الرجل حاضرًا فيه بوصفه الرجل الحديدي، صاحب القبضة القوية. وهى صفات تبدو ضرورية لطبيعة المهام التي أُوكلت للرجل، الداخلية والمخابرات، والأهم أنها كانت في فترة زمنية كانت الثورة لم تشعر أن الأمور قد استقرت لها تمامًا. فقد كان الرجل يرى أن استقرار الأمور للثورة بات مسئوليته الشخصية بصفته فردًا فيها، ومسئوليته الوظيفية باعتباره وزيرًا للداخلية ومديرًا للمخابرات الحربية ومؤسس المخابرات العامة.

عاد اسم زكريا محيي الدين للظهور في كتاب الانفجار، لمحمد حسنين هيكل. حيث يحكي فيه هيكل كواليس اختيار عبد الناصر لزكريا كبديل له عند التنحي. يقول هيكل إن عبد الناصر أراد اختيار شمس بدران. لكن هيكل رفض كتابة اسمه في الخطاب، وقد كانت صياغة الخطاب مهمة هيكل. فسأله عبد الناصر عن ترشيحه. لم يرشح هيكل أحدًا، لكنه سأل عبد الناصر عن أقدم الضباط الأحرار من بين المجموعة الباقية حول عبد الناصر، فأجابه الأخير بأنه محيي الدين. لاقى الاسم بمجرد التفكير به استحسان عبد الناصر.

ينقل هيكل عن عبد الناصر أنه قال إن محيي الدين رجل عاقل وذكي، وبه العديد من الميزات، وسيكون مقبولًا دوليًّا، وبإمكانه التحاور مع الأمريكان. وأضاف أن السوفييت لن يعجبوا بزكريا. ويخبرنا هيكل أن زكريا لم يعرف بنية عبد الناصر قبلها. وأن عبد الناصر أدرك أنه لو أخبره بذلك قبل خطاب التنحي فسوف يعتذر، لهذا ترك الأمر للمفاجأة في متن خطاب التنحي.

يقول هيكل إن زكريا محيي الدين تواصل معه بعد الخطاب مباشرة. كان الرجل في دهشة بالغة مما كُلِّف به. والأهم أنه كان يريد صياغة بيان اعتذار فوري وعاجل. كانت الجماهير قد خرجت فور خطاب عبد الناصر تهتف لعبد الناصر، وتهتف ضد زكريا محيي الدين، وتصفه بالخائن إذا قبل ما كُلِّف به. يضيف ابنه تفصيلة أخرى، أن بيتهم قد قُذف بالطوب.

الخروج الصامت من السياسة

خروج الرجل من الحياة السياسية يظل لغزًا كذلك. لكن هناك بعض اللمحات عن هذا الخروج. يقول ابن زكريا محيي الدين إن الصحفي عادل حمودة نشر خطابًا بخط يد والده موجهًا إلى عبد الناصر. الخطاب المشار إليه هو خطاب يطلب فيه زكريا محيي الدين من عبد الناصر إبعاد الأجهزة الأمنية عن اختيار القيادات. لأنه، أي زكريا، يشعر أن الأجهزة زادت قوتها بدرجة كبيرة، وضمن الخطاب اعتراف من الرجل بمسئوليته عن ذلك.

لكن يعود الابن للتأكيد أن سامي شرف، مديرمكتب عبد الناصر، أكد أنه لا يوجد خطاب استقالة واضح ومباشر من أبيه لعبد الناصر. بينما يقول هيكل إنه يظن أن الخطاب موجود لكن تم إخفاؤه؛ لأنه وفقًا لرأي هيكل ظهور خطاب الاستقالة سيكشف للرأي العام أن زكريا محيي الدين كان يؤمن بأن ثورة يوليو حدث مهول جاء في وقت مناسب، لكن كان بإمكان الثوار خلق مجتمع أفضل لو أحسنوا استغلال هذه الثورة.

ساهم في رواج تلك الرواية صمتُ الرجل وعدم حكايته لما جرى، ولا لرأيه في الثورة ومسارها. مصطفى الفقي، سفير مصر في النمسا وسكرتير الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، حكى في مقال له عن مقابلة جمعته بزكريا محيي الدين. كان زكريا يرفض أي محاولة صحفية لجرِّه للحديث عن الثورة وأحداثها، ويرد بشكل مقتضب أن مهمته الوطنية انتهت في مرحلة ما، وأنه لا يرى داعيًا لاجترار الذكريات.

لكن يروي الفقي قصة حكاها له محيي الدين يبرر بها صمته. يقول إنه أثناء انتظار زكريا لطائرته، بينما الفقي كان سفيرًا في النمسا، التقاه في فيينا. سأله الفقي مباشرة عن موقفه من الرئيس عبد الناصر. رد محيي الدين بأنه سيحكي له قصة صغيرة تفسر له كل شيء.

مكانك في خريطة عبد الناصر

قال زكريا إنه قبل الثورة بيومين اجتمع معهم ليحكي لهم عن خط سير القوات، باعتباره مسئول العمليات والتخطيط للتحرك. شرح الرجل لهم الخطوات ثم غادر المنزل. يقول الفقي نقلًا عن محيي الدين إن الأخير علم بعد مغادرة المنزل أن عبد الناصر قال إنه، أي زكريا، يتوهم أنه هو من يُحرك الأحداث، وأنه يعيش في دور قائد الثورة.

 يضيف محيي الدين أنه منذ تلك اللحظة أدرك موقعه على خريطة عبد الناصر، على حد تعبيره. يردف الفقي قائلًا إنه عندما اقترب موعد الطائرة قام محيي الدين وقال للفقي بشكل واضح الآن تعرف لماذا أغلقت فمي لسنوات طويلة.

لكن ابن زكريا محيي الدين يرد على تلك الرواية بأن صمت والده متعدد الأسباب. من بين الأسباب التزامه بالسرية وكتمان ما عرفه أثناء توليه تلك المناصب شديدة الحساسية. كذلك يقول بأن والده كان يحتقر أجواء سرد الذكريات والسير الذاتية ويراها تفاهة بلا موضوع. ويضيف الابن، محمد، أن من أسباب صمت والده شعوره بأن هناك العديد من الأخطاء الفادحة قد وقعت.

ظل الرجل يتلقى دعوات للحديث الصحفي حتى أواخر أيامه، كان يرفضها تمامًا، لكن لم يتعلل بالمرض لرفض أي منها. فقد كان رفضه واضحًا بذهن يقظ وذاكرة قوية. وظل على عقيدته في الصمت حتى رحل في 15 مايو/ آيار عام 2012 عن عمر ناهز 94 عامًا.