يسود التوتر منطقة القوقاز بسبب النزاع بين أرمينيا وأذربيجان على تنفيذ اتفاقات السلام المبرمة عقب حرب عام 2020، لكن أبعاد الخلاف تمتد لما وراء ذلك بكثير. فتركيا تعد طرفاً مهماً في هذا النزاع، وتتنافس مع روسيا والصين على النفوذ في هذه المنطقة، وتحاول النفاذ منها إلى العالم التركي الكبير مترامي الأطراف في وسط آسيا.

يشترك شعبا تركيا وأذربيجان في العرق، فكلاهما ينحدران من السلالات التركية ويتحدثان لغات تركية، ويجمعهما أيضاً الدين والتاريخ المشترك، حتى إن زعيمي البلدين كثيراً ما يستخدمان عبارة «شعب واحد في دولتين» لوصف حالة التعاون بينهما.

وقد تمكنت تركيا من السيطرة على أذربيجان لفترة وجيزة في القرن السادس عشر قبل أن يستعيدها الصفويون، وظلت تحت سيطرة إيران إلى أن انتزعت روسيا أجزاء منها بعد عدة حروب مع إيران. ومع استقلال أذربيجان عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، بدأت أذربيجان تبني روابط قوية مع تركيا، وتطلع الأذربيجانيون إلى انتزاع الأجزاء التي يقطنها الأذريون في شمال إيران وضمها ضمن دولة تجمع الآذريين ذوي الأصول التركية جميعا. فعلى الرغم من اعتناق معظم الأذربيجانيين المذهب الشيعي، فإن الدولة علمانية، والاهتمام بالعرق والقومية يفوق اهتمامهم بالمذهب الديني، لذلك يميلون إلى تركيا وليس إيران.

وتتفاوت التقديرات حول نسبة الأذريين في إيران، لكنها تدور حول نسبة خُمس أو ربع سكان البلاد البالغ 86 مليون نسمة، يتمركزون بشكل رئيسي في المحافظات الإيرانية جنوب أذربيجان، أكبر أقلّية على الإطلاق بعد الفرس، وتشعر طهران بقلق بالغ من الروح القومية الأذربيجانية التي تثير النزعات الانفصالية للأتراك الأذريين في إيران.

تتهم طهران أنقرة بالعمل على تأكيد روابطها العرقية مع الأذريين بشكل يهدد الأمن القومي الإيراني، وقد اندلعت أزمة دبلوماسية بين الطرفين في ديسمبر/كانون الأول 2020 بسبب ترديد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قصيدة تدعو لوحدة الشعب الأذري في كل من إيران وأذربيجان.

تقف إيران دائماً في صف أرمينيا ذات الأغلبية المسيحية في صراعها الحدودي مع أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية، إذ احتل الأرمن إقليم ناجورنو كاراباخ الأذربيجاني في التسعينيات، وظلت أذربيجان تسعى لاستعادته دون أن تجد داعماً لها سوى أنقرة التي بذلت جهوداً حثيثة على مدار عقود لدعم جارتها في قضيتها حتى كانت اللحظة الفاصلة في أكتوبر/تشرين الأول 2020، حين شنت أذربيجان حرباً ضروساً بدعم تركي استطاعت خلالها تحرير معظم أراضيها.

وخلال الحرب، أطلق الأذريون في إيران احتجاجات واسعة اعتراضاً على موقف طهران الداعم لأرمينيا، وطالبوا بغلق الحدود معها ووقف إمدادها بالسلاح خلال الحرب، بينما كان الموقف في تركيا على النقيض من ذلك تماماً، فهناك حالة إجماع بين الحكومة والمعارضة على دعم أذربيجان بكل قوة رغم الخلاف المستعر بين الحكومة والمعارضة في تركيا على كثير من القضايا الأخرى.

«زانجيزور» كلمة السر لربط الأمة التركية

انتهت الحرب بتحرير أذربيجان معظم أراضيها، وتم الاتفاق على ترك منطقة «ستيباناكيرت» للأرمن والسماح بربطهم بدولتهم عبر ممر «لاتشين» البري، في مقابل تنازل أرمينيا عن أراضي شريطها الحدودي مع إيران* لإنشاء ممر بري اسمه «زانجيزور» (Zangazur corridor) يربط بين شطري دولة أذربيجان الشرقي والغربي، وتم الاتفاق على إزالة العوائق التي تعترض حركة النقل لإفساح الطريق أمام بناء شبكات النقل لربط منطقة إقليم ناختشيفان بدولتها الأم، أذربيجان.

الحدود بين أذربيجان وأرمينيا

رأت أنقرة في هذا الممر الأوراسي فرصة هائلة للتغلب على عقدة الجغرافيا التي وقفت لزمن طويل حائلاً بينها وبين تحقيق حلمها القديم الارتباط بالعالم التركي الفسيح الممتد منها شرقاً إلى أعماق القارة الآسيوية وصولاً إلى الصين؛ وهي منطقة آسيا الوسطى التي كانت تسمى بلاد ما وراء النهر بعد الفتوحات الإسلامية، وتشمل الدول السوفيتية السابقة؛ ككازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان وطاجيكستان وغيرها.

وبدأت خطط أنقرة للربط الجغرافي مع هذه الدول اعتماداً على قرب افتتاح ممر زانجيزور، وبناء على ذلك اتفقت تركيا وأذربيجان على إنشاء خط سكة حديد يربط بينهما عبر إقليم ناختشيفان واتفاقاً آخر في ديسمبر/كانون الأول 2020 لتوصيل خط أنابيب غاز إلى هذا الإقليم والتخلي عن الغاز الإيراني الذي يعتمد الإقليم عليه منذ اتفاق 2004.

ونشطت أنقرة في عقد الصفقات والتفاهمات مع الدول التركية في آسيا، وفي 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، انعقد «المجلس التركي» في إسطنبول وتم إعلان تحوله من منصة رمزية إلى منظمة إقليمية تحت مسمى «منظمة الدول التركية»، وهو ما يعني مأسسة التعاون بين دوله الناطقة بالتركية: تركيا، وأذربيجان، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وأوزبكستان، وشمال قبرص، وإحياء الروح القومية التي تنادي بوحدة الشعوب التركية التي تتشارك الانتماءات العرقية واللغوية والثقافية والدينية.

وفي منتصف ديسمبر/كانون الأول الجاري أعلنت أنقرة مضي عملية انضمام تركمانستان الكامل للمنظمة بدلاً من وضعها الحالي كعضو مراقب، مما يمنح تركيا قوة كبيرة، وكذلك قرب إطلاق عملية نقل الغاز الطبيعي التركماني إلى أنقرة ومنها إلى أوروبا، وهي خطوة لها أهمية اقتصادية وسياسية كبيرة في الوقت الحالي بالنظر إلى أزمة الطاقة العالمية وبخاصة في أوروبا بعد العقوبات المفروضة على روسيا عقب غزوها لأوكرانيا، إذ تعد تركمانستان أول محطة بعد أذربيجان في الطريق إلى بقية العالم التركي.

ويحاول الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الاستفادة من ضعف نفوذ روسيا المتورطة في الحرب في أوكرانيا، ومزاحمة نفوذها في آسيا الوسطى، وفي الاجتماع الأخير للمنظمة في أوزبكستان في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعضاء «منظمة الدول التركية» إلى تعزيز التعاون في ما بينها وإنشاء صندوق استثماري تركي يسهل تعزيز التعاون الاقتصادي بين هذه الدول.

وإضافة إلى كون هذا الطريق الأسرع لوصول تركيا إلى الصين والهند، فإن تواصل أذربيجان الغنية بالغاز والنفط مع تركيا برياً، يسبب قلقاً لروسيا وإيران لأنّ تصدير غازها إلى تركيا ومنها إلى أوروبا يدعم التوجهات الغربية لإضعاف الاعتماد على روسيا وإيران في سوق الطاقة العالمي.

ولا تتنافس أنقرة هناك مع روسيا فقط في منطقة نفوذها التقليدي، بل مع العملاق الصيني الصاعد الذي أطلق مشروع الحزام والطريق ليبدأ من تلك المنطقة منطلقاً نحو العالم، بل إن منظمة الدول التركية تمثل ليس فقط منافساً له بل تحدياً خطيراً؛ فقد ظهر أردوغان مع حليفه رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، أمام وسائل الإعلام بجوار «خريطة العالم التركي» التي تضمنت إقليم تركستان الشرقية موطن قومية الإيجور التركية المسلمة التي تحتلها الصين وتسميها شينجيانج، كما أن موعد إعلان المنظمة هو 12 نوفمبر/تشرين الثاني، في ذكرى تأسيس الإيجور دولتهم عام 1933، وإعلان استقلالهم عن الصين للمرة الثانية في نفس التاريخ عام 1944، قبل أن تعيد الصين احتلالهم.

وقد أعلن عضو مجلس الأمن والسياسة الخارجية التركي، برهان الدين دوران، أن بلاده قد تنافس الصين في المنطقة وتحقق توازناً معها وتمنع تسللها إلى العالم التركي وتكرار ما فعلته في أفريقيا.

وتعتبر أنقرة أن فرصتها التاريخية قد حانت لحشد الأمة التركية وراءها والتحول إلى لاعب مُهيمِن في آسيا الوسطى، ورغم ما ينطوي عليه ذلك من تحد لموسكو وبكين لكن الأتراك يراهنون على قدرتهم على استغلال تقلبات الساحة الدولية وتغيرات موازين القوى لضمان نجاح مشروعهم، وإيجاد صيغ تفاهم وتعاون مع هاتين القوتين كتعزيز تعاونهم في مبادرة الحزام والطريق الصينية، والمشاركة في تصدير الغاز الروسي.

تطويق إيران

لم تكتف أنقرة بالاعتماد على ممر زانجيزور فقط بل لجأت إلى استغلال ضعف أرمينيا بعد هزيمتها وتوتر علاقاتها مع روسيا، وبدأ الأتراك في التواصل المباشر مع يريفان لإنهاء حالة العداء التاريخي معها، وتطبيع العلاقات معها وفتح أجوائها وحدودها البرية لهم بعد عقود من القطيعة، وهو ما سيكون إنجازاً غير مسبوق ومكسباً كبيراً للسياسة الخارجية التركية.

وشكّل صعود النفوذ التركي في منطقة القوقاز أخباراً غير سارة لطهران التي تحاول التمرد على هذا الواقع الجيوسياسي الجديد الذي يعني تقلص دورها لصالح الأتراك، فبمجرد افتتاح ممر زانجيزور سينقطع الاتصال البري بين إيران وأرمينيا الذي يعد منفذاً مهماً لها للتهرب من العقوبات الدولية، وممراً كذلك للتجارة مع أوروبا، ومتنفساً  اقتصادياً لا غنى عنه لأنه رابطها البري الوحيد مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تهيمن عليه موسكو.

وعلاوة على ذلك فإن طهران ترى ملامح محاولات تركية لتكوين محور سني لتطويقها من الشمال إلى الشرق في ظل التقارب التركي الباكستاني، والتقارب التركي مع حركة طالبان التي وصلت إلى حكم أفغانستان منذ أغسطس/آب2021، وفي الشهر التالي استضافت أذربيجان مناورات عسكرية بمشاركة جيشي باكستان وتركيا تحت شعار «الأشقاء الثلاث».

كما تتطلَّع أنقرة إلى مشروع ممر اللازورد (Lapis Lazuli corridor)، الذي يربطها بأفغانستان ماراً بتركمانستان وأذربيجان لتكون تركيا ممراً المنتجات الأفغانية بما في ذلك الرخام والزعفران وجميع المنتجات الزراعية لتباع إلى الدول الأوروبية عبر تركيا، ويوصف هذا الطريق بأنه أقصر وأرخص وآمن طريق لتجارة أفغانستان مع أوروبا.

وقد مارست طهران ضغوطاً على أرمينيا لتمتنع عن تسليم شريط زانجيزور إلى أذربيجان، وقدمت لها دعماً مؤثراً لتقوية موقفها، مما أدى لارتفاع منسوب التوتر في القوقاز، فبعد أن التقى رئيس وزراء أرمينيا، نيكول باشينيان، والرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، في يوليو/تموز الماضي، وبحثا خطوات تطبيع العلاقات وترتيبات التوصل لاتفاق سلام دائم، وأعلن الأرمن التزامهم بإخلاء المناطق المتفق عليها، عاد التوتر في الشهر التالي وتبادلت الدولتان الاتهامات بانتهاك وقف إطلاق النار، وتجددت المواجهات في الأشهر التالية حتى ديسمبر/كانون الأول الجاري على خلفية رفض أرمينيا تنفيذ الاتفاقات المبرمة.

ودخلت طهران على الخط بشكل مباشر وأجرى الحرس الثوري الإيراني في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي مناورات عسكرية واسعة على طول الحدود مع أذربيجان، تدربت فيها القوات على إنشاء الجسور العائمة على نهر «آراس» الذي يفصل بين الدولتين، في تهديد عملي بالغزو، وتبع ذلك إعلان وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، أن بلاده أطلقت المناورات لتؤكد أنها لن تسمح بقطع اتصالها مع أرمينيا، في إشارة لرفض فتح ممر زانجيزور.

وفي 21 من ذات الشهر افتتحت طهران قنصلية لها في مقاطعة سونيك الأرمينية، قرب ممر زانجيزور، لتأكيد تمسكها بعدم تغيير الجغرافيا الحالية، وتبع ذلك استقبال وزير الخارجية الأرميني في طهران، فأطلقت أذربيجان في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، مناورات عسكرية قرب حدود إيران، وأغلقت ممر لاتشين الذي يربط أرمينيا باستيباناكيرت، للضغط عليها لفتح ممر زانجيزور.

وقد أعلن الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، منتصف الشهر الجاري أن حكومته تمضي قدماً في التمهيد لممر زانجيزور، وسيتم الانتهاء من أعمال البناء الخاصة به داخل أذربيجان بحلول عام 2024، مبيناً خلال اجتماعه مع رئيسي تركيا وتركمانستان، أن 40% من العمل في مد خطوط السكك الحديدية و70% في بناء الطريق السريع قد اكتمل.

* تصحيح: لم تتنازل أرمينيا عن أراضيها وإنما تعهدت بالسماح بمرور النقل البري الآذري فيها لربط بامو بأراضيها الحبيسة. (تم التصحيح في 29 ديسمبر 2022)