يبدأ العرض بظهور مفاجئ لـ «فؤاد المهندس». يرتدي قبعة أمريكية ونظارة شمسية وعلى جانب فمه تتدلى السيجارة، يقف حاملًا رشاشًا ويبتسم ابتسامة شريرة للغاية قبل أن ينطق بالإنجليزية: «أنا رجعت!» ثم يهم بفتح النار بشكل كثيف للغاية. مستر أكس عاد من الجحيم لينتقم.

طبعًا هذا المشهد المألوف هو مقدمة فيلم «عودة أخطر رجل في العالم». وإن لم تكن شاهدته من قبل فقد فوتت على نفسك ساعتين متواصلتين من الضحك والفانتازيا، إذ يحاكي أفلام العصابات الأمريكية، ولكن في إطار كوميدي جدًّا. الشخصية الرئيسية هنا هي مستر أكس، وهو رجل عتيد الإجرام، له سجل حافل من العمليات الخارجة عن القانون، تلاحقه الشرطة الدولية في كل مكان تقريبًا حتى تتمكن أخيرًا من الإيقاع به، ليتنفس الجميع الصعداء، قبل أن يعود لهم كالشبح من جديد في غضون سنوات.

بالتأكيد «زين الدين زيدان» لا يمثل كل ذلك الشر، ولم يحمل رشاشًا خلال مؤتمر تقديمه كمدرب جديد للميرنجي يوم الاثنين الماضي، ربما فعل ذلك في اجتماعه المغلق مع «فلورنتينو بيريز»، لكنه في النهاية عاد بالسرعة نفسها وبصورة لم يتوقعها أحد، ليبدأ منذ تلك اللحظة سيل من الأخبار والتحليلات التي تناقش كيف ستكون حقبة زيزو الجديدة، وكأن الفيلم بدأ لتوه.


مستر أكس

مشهدي المفضل على الإطلاق هو حينما يجلس مستر أكس ليواجه أسئلة الصحفيين فور القبض عليه. وحتى يتقمص فؤاد المهندس شخصية المجرم الخطير يبدأ بتغيير تعبيرات وجهه، فيرفع حاجبًا ويسقط الآخر ويعلو صوته وضحكاته الشريرة. وهنا يسأله أحدهم عن سر تسمية مستر أكس؟ لماذا هذا الحرف دون كل حروف الدنيا؟

ليجيب بأن أكس هو اختصار «أكسبريس»، لأنه يقوم بكل شيء بسرعة؛ فهو يسرق بسرعة، يقتل بسرعة، كما يهرب بسرعة، حتى أن أطول مدة قضاها بين جدران السجون كانت الوقت الذي استغرقه مدير السجن في شرب زجاجة كازوزة!

طبعًا زيدان هنا لا يشبه أكس، حاشا لله، لكن المثير للتأمل أن مسيرته أيضًا اتسمت بالسرعة. لقد أصبح مدربًا بسرعة، وفاز بدوري الأبطال في لمح البصر، ثم كرر الأمر في الموسم الثاني والثالث، ليحقق بذلك رقمًا أسطوريًّا عجز عن تحقيقه أي مدرب سابق في تاريخ البطولة الأوروبية. زيزو بخلاف الطبيعي لم يحتج الخبرة والوقت، نجح بسرعة. الغريب أنه بمجرد شعوره ببوادر الإخفاق في قيادة الفريق استقال بسرعة أيضًا!

لكن ما هي الأسباب التي أدت لنجاح زيدان في تجربته الأولى بهذا الشكل؟ بصراحة هذا السؤال يزيد الأمر غرابة. أولًا دعك من نكتة الحظ، لو كان الحظ وحده قادرًا على تفسير كل شيء لغدت الحياة أسهل بكثير. في الواقع زيدان ليس غولًا تكتيكيًّا، ولا هو خريج مدرسة تدريبية محددة الملامح، ولا يحمل مجموعة راسخة من الأفكار يرفض التنازل عنها. وقد حقق بدون كل ذلك نجاحًا ساحقًا، وتحوَّل لرقم صعب عند مواجهته. فكيف فعل ذلك؟


لست قلقًا

قوة زيدان ترتكز في نقطتين تحديدًا؛ الأولى هي أنه رمز كبير، ولديه شخصية كاريزمية لا غبار عليها، وسيكون نقطة الجاذبية في أي مشروع يقوده، وهذا بطبيعة الحال يتضاعف بين جدران ناديه ريال مدريد، ومع لاعبين شاهدوه في طفولتهم يروض الكرة ويراوغ الخصوم بهدوء وثقة.

النقطة الثانية لا تقل أهمية؛ وهي أن زيزو يعرف جيدًا طبيعة ريال مدريد، وعلى دراية كافية بمن هو فلورنتينو بيريز، وهذا يمنحه أفضلية كبري كما يشرح محرر شبكة سكاي سبورت «أدم بات»، إذ يرى أن الفلسفة التي ظلت تحكم إدارة الميرنجي هي الفوز، والفوز فقط بدون نواقص أو إضافات، حتى أن النادي لا يتوحد أحيانًا إلا عند اقتراب التتويج ببطولة.

ولهذا السبب فإن الإدارة لا تولي مهام الفريق لمدرسة تدريبية بعينها، بل تعاونت مع أسماء تتبنى رؤى مختلفة تمامًا. ما الذي يجمع أصلًا بين جوزيه مورينيو، ومانويل بلجريني، ورافاييل بينيتيز؟! ثم إن فكرة الجلاكتيكوس تستهوي الإدارة أكثر من رعاية المواهب ومراكمة الخبرات مع الوقت، لماذا؟ لأن فلورنتينو بيريز يبحث عن أسرع الحلول للفوز، ويظن أنها تتحقق مع استقطاب ألمع النجوم للفريق.

نقطة القوة الأولى منحت زيدان قدرة خرافية على خلق الدوافع في نفوس لاعبيه، بدا أن كل واحد منهم مستعد لتنفيذ أوامره ويسعى لتقديم أفضل ما عنده تحت أنظار الفرنسي. شاهدنا معه النسخة الأفضل من مارسيلو، فرانشيسكو أيسكو، رافاييل فاران وحتى كريستيانو رونالدو تحوَّل مع زيزو لمهاجم أشد فتكًا أمام المرمى بالرغم من تقدمه في العمر.

أما النقطة الثانية فقد حررته من الالتزامات التكتيكية، وبدا الرجل أكثر مرونة في تعديل الخطط واختيار أسلوب اللعب الذي يلائم كل مباراة، حتى الأداء القوي لم يقترن بكل إنجازات زيزو.

لكل ذلك، وعندما ساءت أمور الفريق محليًّا في موسمه الثالث، خرج الفرنسي قائلًا إنه ليس قلقًا. هذا التصريح الذي تحوَّل لمادة للسخرية مع إخفاقات الملكي بالدوري والكأس كان تصريحًا صادقًا وحقيقيًّا. زيدان لم يكن بالفعل قلقًا على رصيده أو جماهيريته، ولن يجرؤ أحدهم على إقالته وهو يتقدم خطوة نحو تحقيق البطولة الأهم بالنسبة لريال مدريد للعام الثالث على التوالي.

هنا زيدان لا يشبه مستر أكس، بل أكس هو من يشبهه. إذ يستمد هو الآخر قدرًا كبيرًا من قوته نتيجة لحضوره الخاص، وسطوته على زملائه وخصومه، ولن ينقلب عليه أحد أبدًا لقلة كفاءته، بل لأنه يحسده ويتمنى لو كان ينال كل تلك المكانة في محيطه، هذا الدور الذي لعبه سمير صبري في شخصية «لوسيان»، بالمناسبة كان هذا أكثر أدواره كوميدية.


ينبغي أن تكون قلقًا

رحل زيدان، وعاد مرة أخرى بعد مضي 284 يومًا فقط. وبدا أن عودته هذه المرة تشبه سابقتها، إذ يمر الفريق بموسم كارثي وخسر المنافسة على الليجا سريعًا كما ودع بطولة الكأس، وما زاد الطين بلة هو الصفعة التي تلقاها رفاق راموس في بطولتهم المفضلة على يد أشبال أياكس.

لكن ببعض التدقيق سنكتشف أن كثيرًا من الأمور تختلف عن المرة الأولى؛ أولها هو زيدان نفسه. فنحن أمام نسخة مختلفة من زيزو، لم يعد مدربًا للطوارئ كما كان الحال في 2015، بل أصبح اليوم اسمًا يعتد به، وتضعه أندية بحجم مانشستر يونايتد ويوفنتوس كاختيار محتمل لقيادة فرقها. وهذا بكل تأكيد سيشكل ضغطًا عليه في ولايته الثانية، لأنه سيكون مطالبًا بتحقيق البطولات من اليوم الأول، خصوصًا بعد خسارة الريال لكل شيء هذا الموسم.

الأمر الثاني هو ريال مدريد على مستوى التشكيل. هذا الفريق فقد أهم لاعب في تاريخه وعامل الحسم الأول الصيف الماضي، ولم ينجح أي لاعب آخر في ملء الفراغ الذي تركه كريستيانو رونالدو. وهذا يعني بالضرورة أن الإدارة ستتجه لتدعيم صفوفه باسم كبير قبل بدء الموسم القادم. وهنا سيكون على زيدان، للمرة الأولى في تاريخه، مسئولية اختيار اللاعب الذي سيرجح كفة الريال في الملعب. وهذه النقطة تحيلنا للنقطة الثالثة تلقائيًّا.

أمام زيدان 11 مباراة حتى نهاية الليجا، ولا بد أنه سيسعى خلالها للوصول لأسلوب اللعب وشكل الفريق الذي يريده قبل بدء نافذة الانتقالات الصيفية؛ لأن هذا من ناحية سيحدد اسم اللاعب الكبير الذي سيتعاقد معه، سواء كان هازارد أو كيليان مبابي أو إيكاردي. ومن ناحية أخرى سيحسم المواقف العالقة لعدد من اللاعبين الذين تدور حول أسمائهم أخبار الرحيل عن القلعة الإسبانية، وفي مقدمتهم يأتي الثلاثي: مارسيلو، أيسكو، وتوني كروس، وجميعهم كانوا أفرادًا في الحرس القديم الذي اعتمد عليه زيدان في ولايته الأولى.

الأمر الآخر الجدير بالذكر هو حالة الريال بدنيًّا ومعنويًّا. ينبغي أن ندرك جيدًا أن الريال أضحى فريقًا مرهقًا للغاية بعد أربع سنوات من خوض المنافسات المحلية والأوروبية، والسفر في رحلات مرهقة للمشاركة بكأس العالم للأندية، وهذا طبعًا بالإضافة لجولات المونديال واليورو والكوبا أمريكا، وقد ارتفع معدل أعمار اللاعبين الذين استعان بهم زيزو سابقًا حتى يكاد أغلبهم يكسر عامه الثلاثين. وهذا سيقتضي منه إحلال بعض الأسماء وتبديلها بأخرى.

أما معنويًّا فالأمر لا يحتاج لتوضيح. يمكن تقسيم لاعبي ريال مدريد لمعسكرين؛ الأول فاز بكل شيء، وحقق إنجازات تاريخية على المستوى الأوروبي، والثاني لم يحقق أي شيء ويسعى لإثبات جدارته. المشكلة أن الهوة بينهما متسعة للغاية، وينبغي التعامل مع كل معسكر بشكل مختلف عن الآخر، فهل ينجح زيدان في شحن فريقه مجددًا؟

هذه مغامرة كبيرة. والتحدي الرئيسي فيها هو سقف توقعات جمهور وإدارة الفريق الملكي منذ إعلان تولي زيزو المسئولية. هناك صورة ذهنية سابقة عن زيدان الذي فاز بكل شئ في وقت بسيط جدًا، وقدم نسخة من أقوي نسخ الريال في 2017. وهذا التصور الجماهيري في الغالب يهمل كثيرًا من التفاصيل التي أشرنا إليها عن حالة الفريق، لذا ينبغي علي زيدان أن يقلق هذه المرة، لأن عليه إنجاز وحسم أمور فنية عديدة.

الخلاصة أننا أمام تجربة تبدو مثيرة حقًا، احرص علي متابعتها، لأنك لو فوّتتها فلن يمكنك إعادة مشاهدتها علي يوتويب كفيلم مستر اكس.