كان الاهتمام بامتلاك الأراضي محور المشروع الصهيوني منذ البداية، ليس منذ إعلان قيام إسرائيل، بل قبل ذلك بعشرات السنين حينما كان المشروع مجرد فكرة تختمر في عقل أصحابها، فكانت الأرض هي الهدف.

فالشتات اليهودي المنبوذ عالميًّا كان يريد أرضًا ليتخذها وطنًا له، ووقع الاختيار على فلسطين لعدة أسباب، من ضمنها أنها «أرض بلا شعب»، وفقًا للأكذوبة التي أطلقها الكاتب الصهيوني إسرائيل زانجفيل ليبرر احتلالها من قِبل «شعب بلا أرض» يريد التخلص من لعنة الشتات.

وقبيل إعلان الدولة اليهودية عام 1948 لم يكن أصحابها يملكون أكثر من عُشْر مساحة البلاد البالغة 26,990 كيلومترًا مربعًا، ومع ذلك أيدت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين بين العرب واليهود وإعطاء القدس لإدارة دولية، ولكن مع اتباع سياسات الاستيلاء والتهجير والمذابح الجماعية استولت إسرائيل على مساحات أكبر مما كانت قررته لها الأمم المتحدة، وفشلت الجيوش العربية عام 1948 في وقف هذا الأمر، إذ كانت تقاتل تحت قيادة السير جون باجوت جلوب، وهو جنرال بريطاني تعمد إفشال المهمة التي لم تكن تنقصها عوامل أخرى للفشل، كضعف التسليح والتنسيق والإرادة السياسية.

الاستيطان

وبعد إعلان دولتهم عمد الإسرائيليون إلى توسيع حدودها لكونها تفتقر إلى العمق الاستراتيجي، فشنوا حرب 1967 التي استولوا فيها على الضفة الغربية والقدس اللتين كانتا تحت السيادة الأردنية، وقطاع غزة الذي كان تحت السيادة المصرية وسيناء.

وعملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على بناء المستوطنات في المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة، كما هو الحال في جبال الخليل وغور الأردن، بالإضافة إلى القدس، لكن مع انتقال السلطة لأول مرة إلى حزب الليكود عام 1977، انتشر الاستيطان اليهودي في جميع أرجاء الضفة الغربية، وحتى مع انطلاق عملية السلام في التسعينيات لم يتوقف الاستيطان بل ازداد، ولم تكن عهود حكومات حزب العمل استثناءً، بل توسعت مساحة المستوطنات في عهد إسحاق رابين وشيمون بيريز.

وتزامنت مع مباحثات عملية السلام ظاهرة الاستيطان الوهمي، التي تعني إنشاء بؤر استيطانية وهمية تضم عددًا قليلًا من الأسر أو لا تحتوي على سكان من الأساس، وخلال مباحثات السلام يتم الحصول على تنازلات من الفلسطينيين مقابل تفكيك بعض تلك المستوطنات الصورية من خلال اللعب بالتقسيمات والمصطلحات، كالتمييز بين المستوطنات المرخصة وغير المرخصة، رغم أن تلك التصنيفات يقررها قادة الاحتلال حسبما يحلو لهم.

لعبة مناطق «أ» و«ب» و«ج»

بعد توقيع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات اتفاقية أوسلو مع إسرائيل عام 1993، أُنشئت السلطة الفلسطينية لتعمل في نطاق 6,220 كم² من أرض فلسطين التاريخية مقسمة بين الضفة الغربية التي تبلغ 5,860 كم² وقطاع غزة الذي يضم 360 كم²، وتم تقسيم الضفة إلى 3 مناطق هي «أ» و«ب» و«ج»، تقع الأولى تحت سيطرة السلطة الفلسطينية أمنيًّا وإداريًّا، وتبلغ مساحتها 18 في المائة من الضفة، وتتبع الثانية للسلطة إداريًّا، ولإسرائيل أمنيًّا بمساحة تصل إلى 21 في المائة، وتتبع الأراضي المتبقية لإسرائيل تمامًا أمنيًّا وإداريًّا.

وتبلغ مساحة المنطقة «ج» نحو ثلثي الضفة، وهي غنية بالثروات الطبيعية ومصادر المياه والأراضي الزراعية الخصبة، وهي مجال الاتصال الجغرافي بين أراضي «أ» و«ب»، إذ لا يمكن التنقل بين المنطقتين من دون المرور عبر الثالثة.

ووفقاً للتفاهمات بين الإسرائيليين والفلسطينيين فإن تلك المنطقة كان مقررًا أن تئول إلى السلطة قبل عام 1999، وهو ما لم يحدث، بل استغل اليهود الزمن، ونهشت فيها المستوطنات حتى تقلصت مساحتها بشكل كبير.

وبعد عشرين عامًا، أي في 2019، انتفضت السلطة الفلسطينية وقررت – من طرف واحد – إلغاء تلك التقسيمات وضم الضفة كلها إليها ردًّا على هدم الاحتلال منازل الفلسطينيين في المنطقتين «أ» و«ب» التابعتين لها، مما يعني انتهاء قيمة معاهدة أوسلو، حسب قول وزير الزراعة الفلسطيني الأسبق وليد عساف، لكن فعليًّا لم يكن لهذا لقرار الحكومة الفلسطينية صدًى على الأرض، بل زادت أعمال الاستيطان.

وواصلت السلطة الفلسطينية التعاون مع الاحتلال فيما يعرف بالتنسيق الأمني بموجب اتفاق أوسلو، ويعني تكليف السلطة بأداء خدمات مثل الصحة والتعليم وجمع القمامة والخدمات الشرطية والتعاون الاستخباري مع إسرائيل ضد حركات المقاومة، ويمكن لمجند أو ضابط صغير في الجيش الإسرائيلي اعتقال كبار القادة في الأجهزة الأمنية الفلسطينية.

وبسبب إعلان بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الاحتلال عن خطة لضم نصف المنطقة ج إلى إسرائيل قررت السلطة الفلسطينية وقف التنسيق الأمني في مايو/ أيار 2020 لكنها عادت وتراجعت عن قرارها في نوفمبر /تشرين الثاني من العام نفسه، وسط اتهامات بأن قرارها لم يتم تنفيذه فعليًّا، وأن التعاون لم ينقطع طوال تلك الفترة.

الأرض لا تتسع لمحتليها

لكن المخطط اليهودي يصطدم بحواجز الجغرافيا؛ فالأرض التي اختارها اليهود لإنشاء دولتهم لا تتسع لأطماعهم، فقد تكون إسرائيل موطنًا لـ 36 مليون شخص بحلول عام 2050، وفقًا لبعض التوقعات، وفي ذلك يقول الأكاديمي الإسرائيلي أرنون سوفير: لقد وصلنا إلى اللحظة الحرجة التي أصبحنا فيها البلد الأكثر ازدحامًا في العالم الغربي .. نلد مثل دول العالم الثالث، ونستهلك مثل دول العالم الأول.

ولذلك فإن مساحة الكيان الإسرائيلي البالغة 20,770 كم² نصفها تابع للجيش قد لا تكون مناسبة لاستقبال يهود الشتات البالغ عددهم اليوم حوالي ثمانية ملايين تعمل تل أبيب على إقناع قطاع كبير منهم بالهجرة إليها، وهذا يناقض فكرة كون فلسطين أرضًا صالحة لتجميع يهود العالم.

صفقة القرن

وتسعى تل أبيب إلى إقرار صيغة مؤقتة للحل على حد زعمها تقوم على قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية في عملية توسع تدريجي لا تتوقف بمساعدة القوى الغربية، فقد تضمنت خطة صفقة القرن التي أعلنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في يناير/ كانون الثاني 2020، خريطة للضفة الغربية ممزقة رسْمها أصعب من رسم نقوش جلد الزرافة أو النمر المرقط، تحصر الفلسطينيين في مساحات متناثرة لا يوجد بينها اتصال جغرافي، وضم كل المستوطنات في الضفة إلى إسرائيل، وكذلك غور الأردن، وتصير القدس كاملة عاصمة لإسرائيل، مقابل إعطاء قرية للفلسطينيين ليطلقوا عليها اسم القدس ويتخذوها عاصمة لهم، وأن تتوقف إسرائيل عن بناء مستوطنات جديدة لمدة أربع سنوات، لتعود بعدها وتطالب بالمزيد.

ومع أن معركة الأراضي تشمل جغرافية فلسطين بكاملها من البحر إلى النهر، فإن القدس والمنطقة «ج» هما أشد مناطق هذا النزاع اليوم.