«حان الوقت لمراجعة رؤية الحركة الفكرية للإسلام وفهمها له بعد أن تعرضت للكثير من النقد».

راشد الغنوشي

اتجهت حركة النهضة التونسية في أعقاب ابتعادها عن رئاسة الحكومة التونسية في أواخر 2013 نظرًا لتأثرها بعدد من الأزمات السياسية والاقتصادية إلى تبني سياسة محايدة ومتوازنة ليس على مستوى الخطاب السياسي والفكري للحركة ولكن أيضًا على مستوى الممارسة السياسية، فهي قد ابتعدت عن الاختبارات السياسية التي تضعها في وجه الانتقاد السياسي، وكذلك تسعى الحركة مؤخرًا إلى إتمام مراجعة فكرية لأيديولوجيتها وعقيدتها. ويأتي موقف الحركة من الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تمر بها تونس ثابتًا ومحايدًا. ولكن إلى أين ستصل النهضة بمراجعتها الفكرية؟، وهل ينجح خطابها التوافقي البراجماتي في تمكينها من قيادة تونس مرة أخرى؟.


مراجعة فكرية أم مراجعة سياسية

أدركت النهضة التونسية أهمية التوافق والمشاركة والحوار السياسي كأهم قواعد للعبة السياسية الهادفة إلى إنجاز نظام سياسي ديمقراطي، حيث يستطيع الفاعلون السياسيون فيه تناوب وتداول السلطة سلميًّا، وبذلك تكون النهضة قد أقرّت بأن القاعدة التي يجب أن تسير عليها الحركة كقوة فاعلة على الساحة السياسية هي المشاركة لا المغالبة، وأن الديمقراطية لا تتحقق من خلال ثنائية الحكم والمعارضة ولكن تتم عن طريق توافق القوى السياسية، وتقديم المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية.

يأتي هذا الإدراك بُعيْد الصدمة السياسية التي عاشتها الحركة بعد فشلها في إدارة حكومة الترويكا، وفقدانها للأغلبية في انتخابات مجلس النواب، وخسارة رهانها على فوز المرزوقي في انتخابات الرئاسة، مما يعني تراجع شعبية الحركة بشكل كبير. كذلك كانت لخسارة الإخوان المسلمين في مصر في أعقاب 30 يونيو الأثر الأكبر في تبني حركة النهضة إعادة النظر في منهجها الفكري والسياسي والعقائدي، وهو ما دعا إليه الغنوشي من ضرورة انفتاح الحركة على المجتمع التونسي.

تعاني الحركة كذلك من عدد من الأزمات الداخلية التي تجعل من عملية المراجعة الفكرية ضرورة لبقاء الحركة وشعبيتها، فهي تعاني من ضعف هيكلها التنظيمي؛ لكبر سن أعضائها وعدم التفاعل بين الشباب والقيادات، كما أن الحركة قائمة على كاريزميّة مؤسسها ومفكرها الأساسي، راشد الغنوشي، الذي لطالما اتسم بقدرته على المحافظة على الكيان وإحيائه.

ويحمل المؤتمر العاشر للحركة والذي ينعقد في مارس القادم الكثير من أوراق التغيير والمراجعات الفكرية للحركة، فيشير موقع الشيخ راشد الغنوشي الإلكتروني إلى أن المؤتمر سيتدارس قضية التقييم واستخلاص الدروس من تاريخ الحركة، وأنه سيتناول مسائل أخرى ذات طابع أيديولوجي، مثل العلاقة بين المجتمعي، والثقافي، والدعوي، والسياسي.

و بالرغم من الجهود المبذولة والآمال المرجوّة من المراجعات الفكرية للنهضة إلى تحولها من الأصولية إلى المدنية، يذهب نور الدين العلوي في مقاله «حزب النهضة أمام استحقاقات المؤتمر العاشر» إلى وجود بعض التحديات التي تنطلق من التفكير الانفعالي المسيطر على المراجعات الفكرية للحركة، وغياب الثقة حول جدّية هذه المراجعات وعدم كونها نفاقًا لحظيًّا يمكن التراجع والانقلاب عليه كما حدث في خطاب الإسلاميين عن الحداثة، كذلك يبين أنه لا يوجد تحديد وجهة معينة لتغيير المرجعية، وكيفية الخروج من الدعويّ إلى السياسيّ المدنيّ.


الأزمات الثلاث

في الوقت الذي تسعى فيه الحركة إلى إحداث تغيير أيديولوجي وفكري تتسارع الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها البلاد، وهو ما يتطلب تفاعلاً منسجمًا من الحركة مع رغبتها في التغيير ووضعها السياسي كطرف من الائتلاف الحاكم، تتجه الحركة في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعيق التحول الديمقراطي التونسي إلى تعظيم منافعها السياسية من خلال تبني خطابٍ محايد، فهي تعمل على كسب التأييد الشعبي والجماهيري من جهة، وتدعم الائتلاف الحاكم من جهة أخرى، وتسعى إلى بناء علاقات سياسية متوازنة مع القوى السياسية المختلفة، وهو ما يمكن رصده من خلال خطاب الحركة حول بعض الأزمات، كالآتي:

أزمة نداء تونس:

اختارت النهضة أن تأخذ موقفًا محايدًا للأزمة السياسية التي مرّ بها خصمها السياسي حزب «نداء تونس» في أعقاب حالات الانشقاقات المتتالية لأعضائه ومن كتلته البرلمانية، بسبب مساعي التوريث لنجل الرئيس السبسي بالحزب، ووصل عدد المنشقين من الكتلة البرلمانية للحزب إلى 22 نائبًا ليفقد بذلك نداء تونس الأغلبية لصالح النهضة التي تمثل بذلك الأغلبية بعدد 69 نائبًا، في مقابل 64 للنداء.

وبالرغم من أن هذه الأزمة صبت في صالح النهضة إلا أن الحركة لا تهدف إلى استغلال الأزمة، حيث يمكنها إعادة تشكيل الحكومة ولكنها تعمل على الحفاظ على الائتلاف الحاكم، بل وتسعى الحركة إلى التحالف والتعاون بشكل أكبر مع النداء وهو ما ظهر من تأييد للتغييرات الوزارية التي أجراها الصيد في مطلع هذا العام بالرغم من أن التعديل الجزئي نتج عنه تقلص عدد الوزراء النهضويين في الحكومة، حيث لم يتبقّ سوى الأسعد الوزاري المكلف بقيادة حقيبة التكوين والتشغيل، كذلك حضور راشد الغنوشي للمؤتمر الأول للنداء والذي أقيم في 9 يناير 2016 في ولاية سوسة مؤكدًا أن تونس تحتاج إلى كل أبنائها وأن منهج التوافق سيخدم كل الأطراف وأن من مصلحة النهضة التوافق كما أن مصلحة نداء تونس تكمن في التوافق.

يذكر أن نداء تونس تشكل كتكتلٍ سياسي أعلن -صراحةً- معارضته للإسلام السياسي ولحركة النهضة وحكومة الترويكا، وأنه يسعى إلى إعادة إحياء سياسات بورقيبه العلمانية، ومن ثمّ عمل على إزاحة النهضة وحكومة الترويكا وهو ما تحقق في نهايات 2013، ولكن اتجهت العلاقة بين الحزبين تأخذ منحى تعاوني توافقي في أعقاب انتخاب الرئيس وتشكيل حكومة الصيد في مطلع 2015.

أزمة الإرهاب المتصاعد:

اتُهمت حكومة الترويكا بضلوعها في الانفلات الأمني الذي أصاب البلاد أثناء فترة حكمها، وكان صعود السلفية الجهادية والتيار السلفي الحركي في 2012 عاملاً أساسيًّا في تصاعد الأعمال الإرهابية ضد قوات الجيش والشرطة، ولكن مثل اغتيال شكري بلعيد (فبراير 2013) ومحمد براهمي (يوليو 2013) المعارضيْن للنهضة، نقطة تحول كبيرة في تحميل النهضة مسئولية اغتيالهما، الأمر الذي نفته الحركة عن نفسها وندّدت بالعنف ضد الخصوم السياسيين.

وفي الوقت الذي تزايدت حدة الأعمال العنيفة التي شهدتها تونس خاصة في 2015 على الهجمات السياحية (متحف باردو و سوسة) وتبني تنظيم الدولة لهما، اتجهت النهضة نحو رفض العنف وإدانته بشكل كامل، وعملت على تدعيم الإجراءات المكبلة لحقوق وحريات الأفراد التي اتخذتها الحكومة عقب ذلك الهجوم، ولكنها تحفّظت على إغلاق بعض المساجد ووقف بعض الأئمة واعتبرته تقييدًا للحريات الدينية في البلاد.

الحركة المطلبية الاقتصادية:

على الرغم من تجاوز تونس للمرحلة الانتقالية بصياغة دستور توافقي للبلاد ووضع أُسس النظام السياسيّ الجديد وانتخاب رئيس للدولة، إلا أنها تعاني من العديد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تُنذر بانتكاسة للثورة التونسية، ولعلّ أبرزها حالة الركود الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة التي كانت سببًا في اندلاع شرارة الاحتجاجات مرة ثانية في تونس بعد مقتل الشاب رضا اليحياوي يوم 16 يناير الجاري.

تتعدد وجوه الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تونس فقد ارتفع معدل التضخم والبطالة والمديونية وارتفع معدل الفقر في البلاد وفقًا لآخر إحصائيات عام 2015. وتشير النشرة الصادرة عن البنك المركزي خلال الثلاثيّة الأولى من سنة 2015، بأن نسبة البطالة في تونس بلغت 15.2% مقارنة بنحو 12% في 2010، لكن في عدة محافظات مثل القصرين و سيدي بوزيد تتجاوز نسبة البطالة المعدل الوطني لتصل في بعضها قرابة الـ 50 %. كما شهدت تونس في أعقاب الحركة المطلبية الاقتصادية عودة الإضرابات العمالية، فقد أضرب عمال شركة الكهرباء والغاز الحكومية، وكذلك عناصر من الشرطة وذلك للمطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية وزيادة الرواتب.

ويرى مراقبون بأن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التونسية لمواجهة الاحتجاجات غير كافية، ويرجح البعض عودة الاحتجاجات ولكن بشكل أعنف مما سيؤثر على الأوضاع السياسية في الداخل. في ظل هذه الأزمة اتخذت النهضة خطابًا عقلانيًّا حيث اعترفت فيه بالمطالب الشرعية للمحتجين، فيما دعت إلى سلمية الاحتجاج، ونبهت من خطورة توظيف تلك المطالب لخدمة أجندات حزبية، داعية بذلك لتهدئة الوضع.

في ظل تلك الأزمات المتلاحقة والمتزايدة ستشهد الساحة التونسية على المدى المتوسط تغييرًا وزاريًّا إذا ما ازدادت حدة تلك الأزمات والاحتجاجات، وهنا ربما تجد النهضة نفسها مسئولة عن تشكيل الحكومة. ولكن في ظل توجهها إلى إحداث المراجعات الفكرية لها ستميل النهضة إلى تشكيل حكومة ائتلافية حتى لا تكرر الأخطاء السابقة.