وكنتيجةٍ للانتخابات التركية منذ أسبوع، دخل “حزب الشعوب الديمقراطي” ذي القيادة الكردية إلى البرلمان، ليغير المشهد السياسي التركي بلا رجعة. بالفعل. يمثل حصول أول حزب ذي توجه كردي على مقاعد في البرلمان إنجازا هاما للحقوق المدنية في تركيا. لكن في سياق الأحداث الجارية على جانبي الحدود، يتمثل المنتصر الحقيقي في حزب العمال الكردستاني التركي المحظور، وهو الحزب والجماعة المسلحة الذي بدأ تأسيس حزب الشعوب الديمقراطي، والذي يعتبر التابع السوري له، حزب الاتحاد الديمقراطي، مسؤولا عن الانتصارات الأخيرة أمام داعش.

يمثل دخول حزب الشعوب الديمقراطي إلى البرلمان التركي، وسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي على أراضي سورية فصلا جديدا في محاولات حزب العمال الكردستاني التي استمرت عقودا لتأسيس اتحاد كونفدرالي يقوم على القومية الكردية، والذي سيجمع الثلاثين مليون كردي الذين يعيشون في الشرق الأوسط.

حددت قيادة حزب العمال الكردستاني بالفعل مسارا للحكم الذاتي الكردي يتجنب الحاجة إلى الاستقلال. أحرز حزب الشعوب الديمقراطي، والذي يتشارك الدعم الشعبي مع حزب العمال الكردستاني، مكاسب هامة في أنقرة ليشرع في تحقيق رؤية حزب العمال الكردستاني لاتحادٍ كونفدراليٍ للأكراد.

في مارس 2005، أصدر قائد حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، إعلان الكونفدرالية الديمقراطية، والذي وضع خارطة طريق لتأسيس كونفدرالية من أربع مناطق كردية متمتعة بالحكم الذاتي، تتصل كل منها ببلدها الأصلية – العراق، إيران، سوريا، وتركيا – من خلال علاقاتٍ فيدرالية. تساهم التقدمات السياسية، مثل انتصار حزب الشعوب الديمقراطي، والانتصارات العسكرية، مثل تقدمات حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا، في تحويل خطة أوجلان إلى حقيقة. بعبارةٍ أخرى، لم يبد مستقبل حزب العمال الكردستاني أبدا أكثر إشراقا.

شراكاتٍ جديدة

في عام 2012، أسس حزب الاتحاد الديمقراطي المرتبط بحزب العمال الكردستاني ثلاث كردونات ذاتية الحكم في كردستان السورية، وهي طفرة كبيرة لأوجلان، الذي بدأت خطته بتأسيس أحزابٍ سياسية تابعة بداخل الأراضي التي يعيش فيها الأكراد في إيران والعراق وسوريا والتي سوف تمهد الطريق لاحقا لاتحادٍ كونفدرالي عابر للحدود مع كردستان التركية.

أصبحت كانتونات حزب الاتحاد الديمقراطي تعرف لاحقا بروج آفايي كردستان (كردستان الغربية)، أو الاسم الأكثر شيوعا روج آفا (الغرب)، في تلميحٍ الى أن حكومة إقليم كردستان هي فقط النظير الجنوبي. في النهاية، يسعى أوجلان إلى امتصاص حكومة إقليم كردستان العراقي ذاتية الحكم، التي يقودها الحزب الديمقراطي الكردستاني المنافس، في كونفدرالية يهيمن عليها حزب العمال الكردستاني.

إلا أن الحزب الديمقراطي الكردستاني لم يرض أن يترك ذلك يحدث بدون رد. حفر الحزب خندقا بطول 10 أميال ونصف (17 كيلومترا) بين روج آفا والمناطق الكردية العراقية في أبريل 2014، ظاهريا للحماية من مقاتلي داعش. أسس الخندق حاجزا أرضيا رقيقا بين دائرة نفوذ حزب العمال الكردستاني المتنامية ومناطق الحزب الديمقراطي الكردستاني. بعد شهور، غادر بشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني المنطقة في وجه تقدم داعش إلى شمال العراق.

مسيرة تضامنية مع كوباني في ديار بكير في تركيا 26 يونيو 2015
مسيرة تضامنية مع كوباني في ديار بكير في تركيا 26 يونيو 2015

عندما حاصر مسلحو داعش جبل سنجار في شمال غرب العراق، قام مقاتلون من وحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي بعمل ممر من روج آفا لإنقاذ 10 آلاف كردي يزيدي محاصر. أكسبت الصور التي انتشرت لمقاتلي حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب وهم يقومون بإنقاذ اليزيديين من مسلحي داعش حزب العمال الكردستاني تقديرا واسعا وعزز مهمته نحو كردستان واحدة.

وعلى نحو مشابه فإن هجوم داعش على بلدة كوباني السورية ربما يكون قد وطد شراكة بين الغرب والقوات الكردية الموالية لحزب العمال الكردستاني، حيث رأوا التحالف كوسيلةٍ ضد تقدمات داعش داخل سوريا. اعتمد التحالف ضد داعش، ذو القيادة الغربية، سياسة دعم روج آفا من خلال الضربات الجوية. كان هذا تغيرا ملحوظا في نهج الغرب تجاه المنظمات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، والذي كان معاديا سابقا. اعتمدت الولايات المتحدة على القوات الكردية لمحاربة داعش على الأرض، ووفرت لها ضرباتٍ جوية خلال هجوم سنجار وألقت أسلحة وذخائر لقوات حزب الاتحاد الديمقراطي خلال حصار كوباني.

ربما يكون الغرب قد تودد إلى مجموعات حزب الاتحاد الديمقراطي المقاتلة، لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حافظ على مسافةٍ باردة من روج آفا. بعد ثمانية أشهر من تأسيس حزب الاتحاد الديمقراطي لكانتوناتٍ كردية داخل سوريا، أعلن أوجلان وقف إطلاق نار تاريخي أحادي الجانب مع الدولة التركية، موقفا 30 عاما من التمرد الذي أسفر عن مقتل 40 ألف شخص.

تمتعت محادثات السلام الناتجة بين حكومة أردوغان، رئيس الوزراء حينذاك، وأوجلان بدعمٍ شعبي واسع ومثلت فرصة هائلة لأردوغان للقيام بصفقة كبيرة. لو كانت أنقرة قد استطاعت الوصول إلى تفاهمٍ مع أوجلان ومنح كردستان التركية نوعا من الحكم الذاتي، كانت كونفدرالية كردية حليفة لأنقرة يقودها حزب العمال الكردتساني وحزب الاتحاد الديمقراطي استوعبت الحزب الديمقراطي الكردستاني لتمنع الاستقلال الكردي بينما تحول الحزب الديمقراطي الكردستاني وروج آفا إلى كياناتٍ تابعة. كانت حدود تركيا الجنوبية لتكون آمنة بواسطة منطقة كردية عازلة ووضع أنقرة المتضائل كقوةٍ إقليمة كان ليتم استعادته. لكن أردوغان اعترض.

حتى 18 اكتوبر 2014 على الأقل، بعد شهرٍ من حصار داعش لكوباني، استمر أردوغان في دفع فكرة أن حزب الاتحاد الديمقراطي، المرتبط بحزب العمال الكردستاني، هو منظمة إرهابية وبالتالي لا يختلف عن داعش. دُهِش أكراد تركيا أكثر من بهجة أردوغان الواضحة عندما أوشك المعقل الكردي على الانهيار أمام داعش حيث أعلن الرئيس التركي في جذل أن “كوباني على وشك السقوط”. سمحت أنقرة بعد ذلك لـ 200 من عناصر بشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني أن يمروا عبر تركيا للانضمام إلى الدفاع عن كوباني، لكنها استمرت في رفض طلبات حزب الاتحاد الديمقراطي بفتح ممرٍ بري لجهود الإمداد.

بالنسبة لهؤلاء الأكراد الذين كان لديهم أقارب يعانون ويموتون على أيدي داعش خلال حصار كوباني، كان قرار أردوغان بالتخلي عن تعاونٍ أوسع لحظةً سياسية فارقة. لدى الأكراد الآن الزخم، الشرعية، ودعمٍ دوليٍ مزدهر. سيكون صندوق الاقتراع هو ساحة معركتهم القادمة للحصول على الشرعية السياسية.

النصر الانتخابي

كان لدى كلا من الأكراد وغير الأكراد الذي يعارضون حزب العدالة والتنمية الحاكم الكثير ليجنوه بالتصويت لصالح حزب الشعوب الديمقراطي اليساري. كنتيجةٍ لذلك؛ حصل الحزب ذو الاتجاه الكردي على دعمٍ كاف من يسار تركيا غير الكردي ليتلقى 13.1 بالمئة من الأصوات – متجاوزا بسهولة العتبة الانتخابية للبلاد والمحددة بنسبة 10 بالمئة ليحصل على 80 مقعدا في البرلمان. أنهى انتصار حزب الشعوب الأغلبية البرلمانية لحزب الحرية والعدالة ومنع أردوغان من تغيير دستور البلاد للتخلي عن نظامها البرلماني لصالح نظام رئاسي، وهي خطوة كانت لتمنحه سلطةً تنفيذيةً مطلقة.

يؤرخ نجاح حزب الشعوب الديمقراطي لحقبةٍ جديدة من التمثيل السياسي الكردي. ظل حزب السلام والديمقراطية، السابق لحزب الشعوب الديمقراطي، محايدا خلال احتجاجات جيزي بارك التي عمت البلاد في 2013، والتي حدثت بعد شهرين فقط من إعلان أوجلان وقف إطلاق نار أحادي الجانب وبداية المفاوضات مع حكومة حزب العدالة والتنمية. اعتقد العديدون في اليسار التركي أن غياب حزب السلام والديمقراطية كان مقايضةً بين أوجلان وأردوغان. للتغلب على حركة متنامية لفصل الحقوق الكردية عن الجهود الليبرالية الأوسع، دعا أوجلان حزب السلام والديمقراطية إلى التحول إلى حزبٍ جديدٍ يشمل الجميع من أجل “الجمع بين الحركة الكردية واليسار التركي”.

قبيل انتخابات 7 يونيو، قام حزب الشعوب الديمقراطي بحملةٍ منضبطة تستهدف بناء دعم يتجاوز قاعدته الكردية، للوصول إلى الشباب التركي الذي يميل إلى اليسار، النساء، ومصوتي الأقليات. بعد نجاحات الحزب الانتخابية، دعا نائب رئيس الحزب صلاح الدين دميرتاش النتائج انتصارا “لجميع المقهورين”.

رغم المكاسب التي حققها حزب الشعوب بين يسار تركيا غير الكردي، فإن أغلب أصواته أتت من الأكراد المحافظين. حسب التحليل الإحصائي الذي أجراه إريك مايرسون الأستاذ بمدرسة ستوكهولم للاقتصاد، فإن حوالي 1.5 مليون كردي محافظ حولوا دعمهم من حزب العدالة والتنمية إلى حزب الشعوب الديمقراطي. تقدر شركة أبحاث واستطلاعات رأي تركية أن حوالي ثلت أصوات حزب الشعوب الديمقراطي أتت من مصوتين لحزب العدالة والتنمية انتقلوا لدعم حزب الشعوب.

ما القادم؟

مقاتل من وحدات حماية الشعب الكردية يمر بجوار مواطنين فروا من بلدة تل أبيض بمحافظة الرقة، سوريا، 23 يونيو 2015
مقاتل من وحدات حماية الشعب الكردية يمر بجوار مواطنين فروا من بلدة تل أبيض بمحافظة الرقة، سوريا، 23 يونيو 2015

الآن بعد أن دخل حزب الشعوب إلى البرلمان، سوف يكون عليه أن يفي بوعوده إلى كلٍّ من الأكراد ويسار تركيا الحضري. فعل ذلك سوف يعتمد على برنامجه لتوسيع الحقوق والاستحقاقات لجميع الطبقات الدنيا والأقليات التركية. لكن في معاقل تركيا الكردية، سوف يعتمد دعم الحزب على مدى نجاح الحزب في تعزيز قضية الحكم الذاتي الكردي. ونظرا لأن مناطق البلاد الكردية تسجل أعلى معدلات مواليد في البلاد، حيث تبلغ معدلات الخصوبة إما 4 الى 5 أطفال أو 3 الى 4، حسب المحافظة، فيجب أن يتلاءم اليسار التركي مع أجندة الحكم الذاتي الكردية إذا كان يريد أن يبقى قوةً سياسية في البرلمان.

لكن قبل حتى أن يكون لديه الوقت ليبدأ العمل على تلك الأجندة، استولت قوات وحدات حماية الشعب على تل أبيض، البلدة السورية ذات الموقع الإستراتيجي على المعبر الحدودي إلى بلدة اكاكال التركية.

بالسيطرة على تل أبيض، قطعت وحدات حماية الشعب خط إمداد حيوي شمالي-جنوبي من عاصمة داعش في الرقة. عزز هذا النصر الإستراتيجي جهود حزب الاتحاد الديمقراطي لوصل كوباني بكانتون الجزيرة الكردي في المثلث السوري الشمالي الشرقي، مكونا أراضٍ متصلة في اتجاه الشرق من كوباني إلى الحدود العراقية. يجب أن يقضي حزب الاتحاد الديمقراطي الآن على داعش في المناطق ما بين كوباني وكانتون عفرين الكردي ذاتي الحكم.

بدأت وحدات حماية الشعب بالفعل حملةً للاستيلاء على بلدة جرابلس الكردية-العربية المختلطة من أجل تحقيق تلك المهمة. كصوت تركيا الأول دعما لقوات حزب الاتحاد الديمقراطي التي تحارب داعش، سوف يكون حزب الشعوب الآن قادرا على حشد الدعم المحلي والدولي من قاعات البرلمان التركي.

مع استمرار الدعم الغربي، يمكن أن يؤسس حزب الاتحاد الديمقراطي قريبا إقليما كرديا متصلا في سوريا يمتد على معظم المنطقة التي تقع على طول الحدود الجنوبية لتركيا، رغم التعهد الجديد المتشدد للرئيس أردوغان الأسبوع الماضي بـ”عدم السماح بتكوين دولة في شمال سوريا”. في تركيا، سوف يكون حزب الشعوب الديمقراطي المتعاطف مع حزب العمال الكردستاني نصيرا تتنامى قوته لمنح الأكراد نوعا من الحكم الذاتي داخل البلاد.

بينما يستمر وقف إطلاق النار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة، يصبح من الممكن أكثر فأكثر أن يستطيع الأكراد تحقيق حلمهم بالحكم الذاتي عبر السُبُل الديمقراطية. سواء كانت طموحات حزب العمال الكردستاني بتأسيس مناطق حكم ذاتي كردية على جانبي الحدود التركية السورية ستتحقق في أي وقت أم لا، فإن التقدم الذي يحققه تجاه ذلك الهدف قد غير بالفعل الخرائط الجيوسياسية لتركيا والشرق الأوسط.

المصدر

*ترجمة فريق موقع راقب