(الجزء الأول: هنا)

كنا قد توقفنا في مقالنا السابق عند رفض حاكم سرقسطة الحُسين بن يحيى الأنصاري فتح أبوابه أمام الملك الفرنجي شارلمان وحليفه الخائن أمير برشلونة سليمان الكلبي، وما تسبّب فيه هذا التعنّت مع ثورة السكسون في شمال المملكة الفرنجية من تصعيب المهمة على شارلمان، فضلا عن وعورة المنطقة الشمالية في الأندلس، حيث سهولة قطع الإمدادات على هذا الجيش الجرّار من البشكنس الذين احتلّ شارلمان عاصمتهم في طريقه كما ذكرنا في مقالنا السابق، كل هذا مع الخطر الأكبر حيث إمكانية مباغتة الأمويين بقيادة عبد الرحمن الداخل لهذه الجموع والفتك بها.

مع هذه الصعوبات المتلاحمة أُجبر شارلمان على الرحيل والعودة سريعًا إلى مُستقر مُلكه في فرنسا، لكنه حنق على سليمان الكلبي، فأخذه أسيرًا مع عدد من بنيه.

وكعادة تلك الجيوش فإنها لم تكن تتجمع في مكان واحد في طريق الذهاب والإياب، فضلاً عن تقسيمها العسكري حيث المقدمة والقلب والجناحين ومؤخرة الجيش، وفي مؤخرة الجيش كان رولان بطل الملحمة الفرنسية هو قائدها، وفي منطقة جبال البرانس “البرانييه” وبالتحديد “رونسفالة” أو “رونسيفو” تدخلت قوات البشكنس النصرانية وفقًا لبعض الروايات اللاتينية، وتبعًا للروايات العربية فإن القوات العربية التي أرادت أن تفك الأسرى العرب وعلى رأسهم حاكم برشلونة الخائن هي التي هجمت على مؤخرة الجيش الفرنجي ومزقته عن بقية الجيش، وأجهزت عليه وعلى قائده رولان، لكن طبقا للمؤرخ الإسباني “رامون بيدال” فإن البشكنس الذين سحق شارلمان عاصمتهم، قد تحالفوا مع القوات العربية الأندلسية وغيرها وكمنوا في بعض مضائق البرانس، وهاجموا مؤخرة الجيش الفرنجي[1].

والحق أن أنشودة رولان ذاتها تؤكد بجلاء على مهاجمة الجيوش العربية لمؤخرة الجيش الفرنجي المُنسحب، وقتلها لبطل الملحمة رولان الذي – طبقا للملحمة – ضحّى بنفسه في شجاعة كانت سببًا في بعث المظلومية الصليبية في أثناء فترة الحروب الصليبية فيما بعد، وحتى إذا تأخّر تدوين هذه الملحمة لبضعة قرون، إلا أن الرواية الشفهية من قبل، وتواترها كانت أدلة جازمة على أن المهاجمين لمؤخرة الجيش الفرنجي كان أغلبهم من العرب.

رواية الملحمة

تقول أبيات الملحمة إن الإمبراطور شارلمان مكث في إسبانيا سبع سنين، دانت له فيها كل المدن إلا سرقسطة التي ظلّ يُحاصرُها، وعندما ضعف صمود حاكمها الملك مارسيل، أرسل وفدًا إلى الإمبراطور إن هو فك الحصار عن مدينته وعاد إلى فرنسا أن يدين له بالولاء ويُرسل له من خراج مدينته ما يشاء، وعندما سمع شارلمان هذه الشروط كان ممن عارضها بشدة الفارس رولاند داعيًا إلى إكمال الحرب ومعلنا أن النصر على الأعداء قريب، وكان ممن أيدها “جانلون” أحد شيوخ الأمراء، وانتهى الأمر إلى الموافقة على قبولها وإرسال مندوب من قبل الإمبراطور إلى ملك سرقُسطة، وهنا اقترح رولاند أن يكون جانلون هو حامل رسالة الإمبراطور، لكن جانلون، الذي كان يخاف أن يقتله المسلمون رفض، ولم يقبل الإمبراطور رفضه، وأصرّ على إرساله، فذهب مُضمرًا في نفسه حقدًا على رولاند الذي اقترح اسمه وعازمًا على الانتقام، وخلال رحلته اتفق مع ملك المسلمين على أن يدبّروا كمينًا للتخلّص من رولاند الفارس الذي عانى منه المسلمون كثيرًا، وتم الاتفاق على أن يحاول جانلون من ناحيته أن يجعل رولاند قائدًا على مؤخرة جيش الانسحاب، وأن يجمع جيش مارسيل كل قوّاته ليوجّه ضربة قاضية لهذه المؤخرة وقائدها، وذلك ما تمّ تنفيذه في موقعة “رونسيفو”، وعاد الجيش الفرنسي حين علم بأنباء هذه الموقعة، فوجد رولاند وجنوده قتلى، فانتقم من الجنود المسلمين أولاً ثم من جانلون الخائن ثانيا[2].

لماذا تأخّر التدوين الملحمي لثلاثة قرون؟!

لقد ظلت الرواية الشفهية تعمل عملها لمدة ثلاثة قرون متصلة، رغم أن الرواية الرسمية التاريخية ظلّت تؤكد على أن الباسك أو البشكنس هم الذين أجهزوا على مؤخرة الجيش الفرنجي، وربما كان التدوين الرسمي الذي أقرّ هذه الحقيقة المغلوطة نوعا ما، والتي خالفتها الروايات العربية بل والإسبانية فيما بعد؛ كان الغرض منها تقليل وقع الهزيمة على المستوى النفسي للفرنجة النصارى، فأن يُهزم الفرنجي على يد نصراني باسكي خير له من هزيمة على يد مسلم “كافر”!

لكن، مهما يكن من أمر، فإن التدوين الملحمي لم يبدأ في الظهور إلا بعد تلك الوقائع بثلاثمة عام كاملة، وفي القرن الحادي عشر الميلادي/ الخامس الهجري.

لقد كان القرن الحادي عشر هو القرن الذي اتّسع فيه نفوذ الكنيسة والبابوية في أوربا اتساعًا هائلاً، وعرفت بدايات ذلك القرن باباوات مثل يوحنا الثاني عشر وجريجوار السابع الذين كانا يجبران ملوك أوربا على الخضوع أمامهما، وكانت رغبة البابوية المعلنة أن يتحوّل بأس المسيحيين إلى أعدائهم، بدلاً من الحروب والصراعات الداخلية التي كانت تشهدها أوربا، وكانت الأندلس الإسلامية المجاورة هي أقرب مجال يمكن أن تتحقق فيه هذه السياسة، وخاصة أن مسيحيي شمال إسبانيا كانوا قد بدأوا يكونون رأس حربة ضد الوجود الإسلامي في الأندلس، ونظّمت الحملات الصليبية إلى إسبانيا، وجمعت لها النذور، وأصدر البابا ألكسندر الثاني صكوكًا بالغفران لكل من اشترك في الحرب ضد المسلمين في الأندلس، ثم اتسع نطاق الحرب المقدسة هذه إلى بلدان المشرق الإسلامي، وجزر البحر المتوسط الإسلامية، فانطلقت الحملات الصليبية الممهمة كحملة العامة ثم الحملة الصليبية الأولى وهكذا[3].

لقد جاءت أنشودة رولان لتُحوّل موقعة “رونسيفو” في القرن الثامن الميلادي إلى حملة صليبية، قبل أن تُعرف الحملات الصليبية بوقت طويل، وجعلت من شارلمان أباً للمسيحية بتصدّيه للمسلمين الإسبان، وببنائه من قبل لكنيسة “سان ماري لاتيني” في بيت المقدس، ولكي تحقق هذا الهدف حوّلت شارلمان إلى شيخ كبير عمره مائتي عام في حين كان عمره وقت الموقعة 36 عامًا، وحوّلت رولان إلى فارس مسيحي مخلص لمسيحيته، حارب الكفار الذين يعبدون “محمدًا” – صلى الله عليه وسلم – ولا يحبّون الله، كما حوّرت الملحمة أسماء الشخصيات التاريخية، فمارسيل أمير سرقسطة ربما يكون تحويرًا لسليمان بن يقظان، وكثير من أسماء الملحمة الأخرى تنتهي بحرف النون، وربما يكون بسبب تأثير انتشار العربية والمغاربية التي كانت تنتهي بحرف النون وقتها مثل عبدون وزيدون وخلدون وغيرها[4].

إن أنشودة أو أغنية رولان كانت إحدى الأغاني الحماسية التي أُعيد إحياؤها آنذاك لتأثيرها العظيم في الدعاية للحروب الصليبية، ولقد تنوعت وسائل هذه الدعاية من أول الاعتماد على النصرانية والقساوسة كمحفّز ومقدّس ينير للصليبيين الطريق، ويمنحهم الغفران، ويعدهم بالنعيم، مرورًا بالخطب، وإحياء دروس التاريخ وغير ذلك، حتى الأغاني والأناشيد الدينية والحماسية!

لقد كتب “ميخائيل روتليدج” بحثًا مهمًا عن “الأغاني” ودورها في الدعاية للحملات الصليبية، وفي تجسيد الصورة النمطية للمسلمين، وبيّن الأثر الذي تركته في الوجدان المسيحي، وأنها كانت تدور حول الحملات الصليبية في المشرق والأندلس، وقد كثرت هذه الأغاني في اللغات الأوربية المختلفة، وبخاصة الفرنسية والألمانية، ووقف وراء هذه الكثرة أن عدّة شعراء كانوا يقودون الحملات الصليبية. وتدور مضامين الأغاني حول تمجيد أفعال الصليبيين، وتحريضهم على الحجّ إلى الأماكن المقدّسة، والمشاركة في الحروب الصليبية، وتمجيد الأبطال الصليبيين، وإرجاع هذه الحروب إلى إرادة الربّ المسيح، على حدّ تعبيرها، ثم إنّها تُحرّض على المسلمين، وتصورهم وثنيين ومعتدين وهمجيين، ومن هذه الأغاني أنشودة أنطاكية، وهي قصة حصار أنطاكية سنة 1098م/491هـ، وتحكي أنشودة الحملة الصليبية، ومنها الملاحم الفرنسية المعروفة بالمآثر، وهي المآثر التي أنجزها بطل أو مجموعة أو عشيرة وعلى رأسها أنشودة رولان القديمة[5].

لذا هيّجت هذه الأغاني الحماسة في جموع العامة ممن لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، فراحوا يندرجون في الحملات الصليبية بكل قوّتهم، هم وأبناؤهم وأزواجهم، عسى أن يُطفئوا جمرة الغضب، وينالوا الثأر من هؤلاء المسلمين “البرابرة” الذين قتلوا بطلهم الشعبي رولان!

نصوص من الملحمة

إننا يمكنُ أن نتلمّس هذه المعاني المُهيّجة في بعض من نصوص هذه الملحمة، وهو ما نختم به مقالينا هذين عسى أن نكون قد عرفنا ما للأدب والملاحم من دور في إحياء التعصب، وشحذ الهمم للقتال!

66- الجبالُ عالية والصخور تصعد نحو السماء، والأودية سوداء، والفرنسيون يعبرونها بمشقة بالغة، والأحجار تنزلق من تحت أقدامهم، ويسمعون صوت الجيش المتحرّك من بُعد شديد. وعندما دخل رجال شارلمان إلى فرنسا، ورأوا “جاسكوني” تذكّروا ديارهم وأولادهم وزوجاتهم، لكن “شارل” كان حزينًا، فلقد ترك في الأودية السوداء لبلاد الأسبان ابن أخيه “رولان” الذي يحبّه كثيرا.

67- لقد ترك كذلك في أسبانيا، نقباءه الاثني عشر، أشهر الشجعان في جيشه، وعشرين ألف فرنسي لا يخافون من الموت، ولكنه واصل المسير نحو فرنسا، ولم تغلبه مخاوفه، ولم يُظهر أفكاره للآخرين …

68- كان شارلمان حزينًا، وكان كل الفرنسيين يعرفون السبب، وكلّهم يخاف على رولاند، وأخذوا ينظرون إلى سيف جانلون ومعطفه وخيوله المُحمّلة!

85- أوليفيير: يا صديقي رولاند، صدّقني .. من الأفضل أن تنفُخ في البوق.

رولاند: وحق إلهي، لم يُلجئني امرؤ أبدا إلى طلب النجدة، ولن يستطيع أحد أن يقول يومًا، إن رولاند كان خائفًا، وفي المعركة سوف أضرب ألفًا وسبعمائة ضربة، وسترون الدم يخضب سيفي، وكل الفرنسيين شجعان مثلي، وسيفعلون كما أفعل، وسيموت أهل أسبانيا[6]!


* باحث في التاريخ والتراث

[1] انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/ 178، 179.

[2] أحمد درويش: نظرية الأدب المقارن وتجليّاتها في الأدب العربي ص123، 124. دار غريب – القاهرة، 2002م.

[3] درويش: نظرية الأدب المقارن وتجلياتها في الأدب العربي ص128.

[4] انظر: درويش: السابق ص130 – 132.

[5] رائد مصطفى عبد الرحيم: وسائل الدعاية الصليبية؛ صورة المسلمين في أدب الرحلات الأوربية 13/ 172، 173. مجلة جامعة الأزهر بغزّة، سلسلة العلوم الإنسانية، العدد 1 (A).

[6] ترجم الدكتور أحمد درويش نص الملحمة كاملاً ومرقّمًا في كتابه المهم “نظرية الأدب المقارن وتجلياتها في الأدب العربي”، فمن أراد التوسّع والاطلاع الكامل فعليه بالكتاب ص135 وما بعدها.


اقرأ المزيد:

من يكتب التاريخ؟ (1)

من يكتب التاريخ؟ (2)