من المفارقات أن يأتي القتال بين أهم فصيلين إسلاميين في ليبيا كدليل على تراجع قوة عدوهما المشترك الذي يطرح رؤى علمانية للأوضاع في البلاد.

فقد جاءت العملية العسكرية حول مدينة سرت من قبل “فجر ليبيا” لمواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية” في وقت أحرزت فيه قوات تابعة لرئاسة الأركان تقدما غربي طرابلس بسيطرتها على معسكر “أم شويشة” جنوب غرب مدينة العجيلات, واقترابها من قاعدة “الوطية” الجوية التي تسيطر عليها قوات موالية للواء خليفة حفتر الذي يقود مواجهات عسكرية ضد الإسلاميين سماها “الكرامة” بدعم مصري وخليجي وغربي.

إذ تعاني ليبيا من أزمة سياسية أخذت شكل الصراع العسكري بين تيار محسوب على الليبراليين، وآخر محسوب على الإسلاميين، ما أفرز جناحين للسلطة في البلاد، لكل منهما مؤسساته.

أما القتال الدائر في محيط مدينة سرت الساحلية منذ يوم السبت 14-3-2015 بين قوات “فجر ليبيا” وتنظيم “الدولة الإسلامية”، بوصفهما أهم فصيلين إسلاميين مسلحين فليس حدثا عاديا على تطورات الأوضاع في البلاد ، خاصة في ظل ما يحيط به من خلفيات.

بين فجر ليبيا وداعش

وقوات “فجر ليبيا” تحالف يضم مجموعة كتائب إسلامية ، ويطغى على أغلب تلك الكتائب توجه إسلامي غالبا ما يوصف بالاعتدال.

وهي موالية للمؤتمر الوطني العام ورئاسة أركان الجيش الداعمة للحكومة التي تتخذ من طرابلس مقرا لها. ومن ثم فهي قريبة بشكل أو بآخر من جماعة الإخوان المسلمين، وبعضهم يصفها بأنها ذراع الجماعة العسكري في ليبيا، كما تحظى بتأييد قطاعات واسعة من أنصار الثورة والأحزاب الإسلامية.

أما تنظيم الدولة الإسلامية العابر للحدود فكان أول إعلان لوجوده داخل الأراضي الليبية في 31 أكتوبر الماضي خلال ندوة أقامها مسلحون تابعون له بمدينة درنة شرقي البلاد سميت “مدوا الأيادي لبيعة البغدادي” في إشارة لزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي.

كما أعلن التنظيم بعد ذلك عن وجوده بتبنيه العديد من العمليات التي جرت في طرابلس واستهدفت مقرات لبعثات دبلوماسية وأماكن حساسة أسفرت عن مقتل أجانب.

وأول ظهور “داعش” في مدينة سرت وسط الساحل الليبي كان خلال شهر فبراير الماضي، من خلال استعراض عسكري لنحو 35 سيارة رباعية الدفع بالمدينة، كما سيطر على بلدة النوفلية الواقعة في الجنوب الشرقي لسرت، وهدد بالزحف على مصراتة.

معركة الاعتدال والتشدد

استخدم المكتب الإعلامي لعملية فجر ليبيا في إفادته حول القتال ضد الدولة الإسلامية توصيفات نعت بها ما قام به داعش مثل: “عمل إرهابي أو أعمال خارجة عن سلطة الدولة .. ممن ينتسبون للإسلام زورا”. وهو ما واجهته قواته بـ “القوة الشرعية المستمدة من رئاسة الأركان”، على حد قوله.

إذ تحرص “فجر ليبيا” على تقديم نفسها في صورة معتدلة سواء للمجتمع الدولي أو للقوى الإقليمية المحيطة ، ففي بيان رسمي لها قالت قيادة عمليات “فجر ليبيا”، في وقت سابق، أنها ليست تنظيما ولا حزبا وليس لها أية أجندة سياسية أو دينية أو جهوية، معتبرة أن عملياتها العسكرية والأمنية تستهدف رفع يد الإكراه عن الإرادة السياسية للدولة الليبية.

وأكدت نبذها لكافة أشكال التطرف والإرهاب وتحت أي شعار أو لافتة أو دعوى، موضحة أنها ليست بصدد فرض وصاية على الشعب الليبي أو تغيير طبيعة اختياراته أو خطواته تجاه بناء دولة القانون والمؤسسات. لكنها أوضحت أن المرجعية الوحيدة لليبيا هي الشريعة الإسلامية وسيتم استبعاد كل تشريع وقانون يخالف شرع الله.

الموقف من القوى الدولية والإقليمية والقرب من السواحل الإيطالية والأوروبية

وفيما يبدو أن فجر ليبيا حققت نجاحات بالفعل في بث صورتها المعتدلة سواء للداخل أو للخارج على الصعيدين الإقليمي والدولي ، فبينما أعلن مجلس النواب الموالي لقوات خليفة حفتر فى بيان له فى الـ25 من أغسطس الماضى أن “فجر ليبيا” جماعة إرهابية خارجة عن القانون ، رد مبعوث الجامعة العربية إلى ليبيا ناصر القدوة بأن تصنيف “فجر ليبيا” بالجماعة الإرهابية لم يكن دقيقاً وسيجلب إشكالات كبرى، ذلك أن التصنيف لا بد أن يستند إلى معايير قانونية واضحة. في حين أكد سلامة هذا التصنيف في ما يتعلق بتنظيم “أنصار الشريعة” الذي يرفض مبدأ الدولة المدنية.

ولم تكن القوى الدولية بعيدة عن خط الاعتدال الذي أرادت “فجر ليبيا” أن تنتهجه حتى باتت متهمة من قبل الفصائل الإسلامية الأخرى بالسعي لخطب ود الأمريكان والأوروبيين ، بل وتصرح بذلك علنا عبر مؤتمراتها الصحفية.

فقد أصدر تنظيم “أنصار الشريعة” الجهادى المحسوب على القاعدة بيانا هاجم “فجر ليبيا” مستنكرا دعوتها لإقامة دولة دستورية ديمقراطية.

وقال التنظيم في بيانه: “ما خرجنا ضد الطاغوت القذافي والطاغوت حفتر إلا لنقيم الدين ونرفع راية الشريعة، فلم نخرج لنسقط طاغوتا ونضع غيره، فنعود للتبعية والهيمنة الغربية على بلادنا”. وأضاف: “نصحنا قواتكم ألا ينجروا وراء الخدع الغربية”، وتابع قائلا: “لقد بينّا أن خطة الغرب القادمة هي استعمالهم في ضرب المجاهدين بحجة الإرهاب”.

كما دخل الإعلام الغربي على خط التحريض بين فجر ليبيا والدولة الإسلامية، فمن جهتها رأت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية أن تنظيم “الدولة الإسلامية” يستغل الانشقاقات بين أعضاء “فجر ليبيا” في محاولة لجذب المتشددين وضمهم إليه، مشيرة إلى أن الهدف الأساسي من الهجمات التي شنها التنظيم ضد مواقع تابعة لفجر ليبيا هي زيادة الخلافات بين أعضائه المتشددين والأطراف «الأكثر واقعية».

وعن أفضل طريق للقضاء على التنظيم، تعتقد الصحيفة الأمريكية أن «ائتلاف فجر ليبيا» قد يكون أفضل وسيلة لتوجيه ضربة عسكرية قاضية للتنظيم. وأكدت أن الهجمات المتصاعدة لداعش والدعاية الإعلامية التي يستخدمها دليل على أن ليبيا هي الجبهة الجديدة له، لكن وجوده المستقبلي يعتمد على نجاحه في استغلال الخلافات داخل فجر ليبيا لزيادة قوته العسكرية.

أما صحيفة “وول ستريت جورنال” فتناولت العلاقة بين تنظيم داعش وما وصفتهم بالمجموعات الإسلامية الأقل تشددًا في ليبيا. ورأت في تقرير لها: “إنّ الهجوم على فندق كورنثيا في قلب العاصمة طرابلس صباح يوم الثلاثاء 27 يناير، يؤكد التهديد الذي يمثله داعش على الجماعات الإسلامية الأكثر رسوخًا مثل جماعة “فجر ليبيا”.

ونقل التقرير عن مسئولين غربيين في مجال مكافحة الإرهاب قولهم: إن داعش في ليبيا “استفاد من إخفاقات الجماعات الإسلامية الأكثر رسوخًا واعتدالاً”. إذ يخشى المحللون الاستخباراتيون من أن خسارة الجماعات الإسلامية الأخرى معاركها على الأرض ستصب في مصلحة داعش بالرغم من عدم سيطرته على قطاع واسع من ليبيا.

ونقلت الصحيفة عن أحد المسئولين الغربيين قوله إن عدم وجود مقاتلي التنظيم في الصفوف الأمامية للقتال الدائر بين الفصائل الليبية، ساعده في الحفاظ على الأموال والجنود والسلاح والموارد الأخرى، وإن داعش ينتظر أن يصبح بالقوة الكافية ليصبح القوة الإسلامية المسيطرة في ليبيا.

ووفقًا للمسئولين الغربيين الذين نقلت عنهم الصحيفة الأمريكية، استفاد داعش من الصراع الذي يقسم الإسلاميين والعلمانيين في ليبيا.

أما صحيفة “تليجراف” البريطانية فأجرت تحقيقا حول وجود تنظيم الدولة الإسلامية في مدينة سرت ، والتقطت عدداً من الصور من داخل المدينة أظهرت انتشار أعلام التنظيم فوق عدة مبان.

وأظهر التحقيق كيف تحولت مجموعة صغيرة من مقاتلي “داعش” القادمين من الخارج إلى قوة تسيطر على أراض تبعد مئات الأميال عن سواحل إيطاليا. وأشارت الصحيفة إلى أن الدبلوماسيين الغربيين مازالوا يرون في “فجر ليبيا” الأمل في طرد تنظيم الدولة الإسلامية من هناك، حيث ينتمي معظم مسلحي القوة إلى مدينة مصراتة التجارية المعروفة بتفسيرها غير العنيف للدين الإسلامي، على حد قول الصحيفة.

الصراع على النفط ومناطق النفوذ

تقع مدينة سرت ومحيطها ضمن ما يعرف بمنطقة “الهلال النفطي” والتي تعد أغنى المناطق الليبية بالنفط ، حيث تضم مجموعة من المدن بين بنغازى وسرت تحوي المخزون الأكبر من النفط ، إضافة إلى مرافئ السدرة ورأس لانوف والبريقة وهي الأهم في ليبيا.

وبعد سيطرته على سرت وكامل المناطق شرقيها (النوفلية والعامرة وأم الخنافس وهراوة) دخل تنظيم الدولة الإسلامية في قتال مستمر باتجاه الشرق لتأمين المكتسبات على ما يبدو فضلا عن التوسع على الأرض.

أما من جهتها فقد شكلت “فجر ليبيا” و”المؤتمر الوطني العام” قوة عسكرية باسم “الشروق” منذ مطلع ديسمبر- كانون الأول الماضي، بهدف السيطرة على “الهلال النفطي”. ومنذ أشهر تتمركز تلك القوات بمنطقة بن جواد الملاصقة لمنطقة السدرة النفطية إلي الشرق والمحاذية للنوفلية إلي الغرب وخاضت في السابق معارك عنيفة مع حرس المنشآت النفطية وكتائب أخرى تابعة للبرلمان الموالي لقوات خليفة حفتر.

وبعد يومين فقط من الاشتباكات بين داعش وفجر ليبيا في سرت أعلن المتحدث باسم عملية الشروق، إسماعيل الشكري، تحرير مواقع النفط شرقي البلاد، وقال أن قواته “تمكنت من إنهاء توتر في مناطق بشرق سرت، وبسطت سيطرتها على الطريق الرابط بين سرت ومناطق الهلال النفطي”.

وقال الشكري إن “مجموعات متشددة، أقامت بوابات للتفتيش على الطريق الساحلي بمنطقة هراوة، اعترضت أفراداً من قوات عملية الشروق”، وتابع أن “المعركة انتهت بإعادة السيطرة على منطقة هراوة، وطرد المجموعات المتشددة من المنطقة”.

استحقاقات إعلان دولة الخلافة ومطالب البيعة لأبو بكر البغدادي

كانت مجموعة جهادية في مدينة درنة قد أعلنت ولاءها لزعيم تنظيم الدولة الإسلامية، أبو بكر البغدادي، في فيديو نشر العام الماضي.

ومن جهته أصدر البغدادي، بيانا طالب فيه أنصاره بالتوجه إلى ليبيا. ووجه البغدادي دعوته للجهاديين في “إفريقيا القريبين من ليبيا.. خاصة أهل تونس والمغرب”، وطالبهم بـ”الهجرة إلى الدولة الإسلامية في ليبيا”.

كما دعا زعيم داعش، الذي يسيطر على مناطق واسعة من العراق وسوريا، أنصاره إلى “بناء مدارس لتدريب المجاهدين لتنتج لكم جيشا يزداد كثرة، ويستقبل أهل المغرب وتونس ومصر”.

وفي أواخر فبراير 2015 طالب تنظيم الدولة مقاتلي “فجر ليبيا” بمبايعة أبو بكر البغدادي، وتوعد أبو محمد الفرجاني أحد قادة التنظيم بمدينة “سرت” والذي ظهر في تسجيل مصور من وصفهم بـ”جيش الصحوات”.

وعرض الفيديو صورا خلال كلمة الفرجاني لقادة عمليات فجر ليبيا، ومنهم “نوري أبوسهمين، وصلاح بادي، وعمر الحاسي، والمفتي الشيخ الصادق الغرياني”، وغيرهم بعد أن ذكر الفرجاني أن هؤلاء سيكونون هدفا لمقاتلي تنظيم الدولة، لأنهم “باعوا أنفسهم للشيطان وارتموا في حضن الصليبيين من أجل الكراسي والمال”.

وختم كلمته بتوعد كل من يقف في طريق انتشار دولتهم بالقتل والذبح .

وهذه عقبة كبرى في طريق أي روابط يمكن أن تنشأ بين أي فصيل إسلامي وتنظيم الدولة الإسلامية الذي كان قد أعلن من قبل نفسه قيام دولة الخلافة الإسلامية ما يستوجب ـ حسب رؤيته ـ على كل الفصائل العاملة على الأرض أن تنضوي تحت رايته أو يقوم هو بمقاتلتها.

وفي ظل هذا الوقع يستحيل على “الدولة الإسلامية” أن تعترف بأي قوة إسلامية لا بل ولا حتى باستحقاقات القوة على الأرض وتوازناتها. فضلا عن الخلافات الفقهية وتساهله في إصدار الأحكام الشرعية على مخالفيه.