بعيدا عن حماقات الإعلام المصري الذي صار إعلاما منفلتا بالكامل ويُستخدم في تزييف الحقائق وتغييب العقول وهدم البلاد، فإن مواجهة الحركات المتطرفة والعنيفة لا تتم بأعمال عسكرية متسرعة وغير مدروسة.

بالطبع كانت عملية القتل البربرية التي وقعت في ليبيا صادمة للجميع، ولكل الدول الحق في الدفاع عن نفسها ضد أي اعتداءات على أراضيها ومواطنيها، لكن مواجهة تنظيم داعش يحتاج إلى معالجة الأسباب التي أدت إلى ظهوره قبل أن تتفاقم المشكلة وتغرق المنطقة كلها في بحور من الدماء.

من الناحية العسكرية، ليس من الصواب تحالف مصر مع أحد طرفي الصراع في ليبيا وانفرادها بالرد العسكري. وحسنا فعل مجلس الأمن عندما رفض الطلب المصري بتسليح الطرف الموالي لمصر وتفويض مصر بالرد عسكريا. إن المخاطر متعددة، فبجانب حياة المصريين في ليبيا واحتمال تعرضهم لعمليات انتقام أو خطف، فإن حدودنا الممتدة مع ليبيا لا يمكن السيطرة عليها، وستكون ليبيا مصيدة للجيش المصري كما كانت الكويت مصيدة للجيش العراقي، وإذا قادت مصر حربا حقيقية في ليبيا ووقع ضحايا أبرياء فإن من المتوقع أن ينقل التنظيم، أو غيره، المعركة للداخل المصري في شكل عمليات إرهابية وانتقامية. وهذا سيكون (لا قدر الله) مدمرا وغير مسبوق في تاريخ مصر الحديث. فالبلاد في حالة صراع سياسي داخلي ولا أعتقد أن الدولة والجيش والمجتمع يتحملون اختراقا بهذا الشكل.


حركات التمرد السياسية

لم تنتصر الحكومات على حركات التمرد إلا عندما عدلت هذه الحكومات من سياساتها على مستوي الرؤية وعلى مستوى الممارسات والسياسات

تنظيم داعش في حقيقته حركة تمرد سياسية ظهرت نتيجة أوضاع معينة. وبرغم وجود جدل كبير في الأوساط الأكاديمية بشأن تعريف حركات التمرد ودوافعها وعلاقتها بحركات التحرر والإرهاب والمقاومة، إلا أن أحد التعريفات الشائعة أنها حركات ذات دوافع سياسية، وغير معترف بها دوليا، وتمارس العنف لأجل الوصول إلى أهدافها التي قد تشمل إسقاط أنظمة أو حكومات أو تحقيق الاستقلال الوطني.

ولهذا فحركات التمرد لا تظهر في فراغ وإنما في سياقات معينة ونتيجة لأوضاع وظروف محددة. وترتكب معظم هذه الحركات أعمال قتل وتخريب توصف بالإرهاب، ولهذا تم تجريمها وملاحقتها عسكريا وإعلاميا واقتصاديا. وغالبا ما تنتج عن صراعات هذه الحركات مع الحكومات نتائج مختلفة كالحرب الأهلية والفوضى، أو التقسيم، أو التحرر الوطني، أو التفاوض السياسي.

هكذا سارت الأمور في حالات كثيرة. فالجيش الحر الأيرلندي ظهر في سياق صراع مذهبي، وبدأت حرب العصابات في 1919 نتيجة أساسية لقوانين وسياسات إنجليزية ومعاهدات غير منصفة لسكان أيرلندا. وهكذا أيضا ظهرت حركة مقاومة الفصل العنصري بجنوب أفريقيا وغيرها العشرات من حركات التمرد في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

وفي معظم هذه الحالات أيضا لم تنتصر الحكومات على حركات التمرد إلا عندما عدلت هذه الحكومات من سياساتها على مستوي الرؤية وعلى مستوى الممارسات والسياسات.


لماذا ظهر تنظيم داعش؟

بالطبع الأعمال العنيفة التي نسبت لتنظيم داعش فاقت ما فعلته الحركات الأخري. لكن التنظيم في النهاية حركة تمرد سياسية ظهرت وتمددت نتيجة أوضاع مأساوية مر ولا يزال بها عالمنا العربي والإسلامي، وأهمها أربعة أسباب:

التنظيم هو أحد تجليات سيطرة الدول الغربية على العالم الإسلامي والعربي إنْ بشكل استعماري مباشر أو عبر سياسات التبعية والهيمنة غير المباشرة

أولا- وبشكل عام يمثل التنظيم أحد ردود الفعل الكثيرة على تراجع المسلمين والعرب أمام الهجمة الغربية الاستعمارية، العسكرية منها والثقافية. لقد شهدت المنطقة ردود فعل كثيرة على هذه الأوضاع، بعضها فكري ونخبوي وبعضها الآخر شعبي. ففي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ظهرت حركات إحيائية على يد علماء ومثقفين دعت إلى مسار توافقي سلمي عبر التمسك بثوابت وأسس التصور الإسلامي للنهوض مع الانفتاح الواعي على الحضارات الأخرى.

لكن هذه الجهود أفشلت وحوربت من النظم الحاكمة. ولهذا يعتقد التنظيم أن كافة الطرق الأخرى السلمية لم تنجح وأنه لا أمل في الخلاص إلا برفع السلاح، فالدول تقوم – لديهم – بحد السيف وعالم السياسة المعاصر لا يحترم إلا الأقوياء والحقوق تنتزع انتزاعا عندهم.

ثانيا – التنظيم هو أحد تجليات سيطرة الدول الغربية على العالم الإسلامي والعربي إنْ بشكل استعماري مباشر أو عبر سياسات التبعية والهيمنة غير المباشرة. فمنذ الاستقلال تم تقسيم العالم العربي وزرع حدود وهمية بين شعب واحد تجمعه كل عوامل الوحدة.

ومنذ الاستقلال تم دعم نخب محلية حاكمة وتابعة للمستعمر القديم، وقامت هذه النخب بالحفاظ علي هذه الحدود وعلى مصالح القوي الكبري.

ومنذ الاستقلال أوجدت هذه النخب نظما سياسية لا تعيش إلا على الفساد والإفساد والقمع والإقصاء، ولا تعرف أبجديات الكرامة والحقوق والحريات، وتغلق كل صور المشاركة السياسية والتعبير السلمي الحر، وتفتح المعتقلات وأماكن التعذيب أمام المعارضين والمنتقدين.

ومنذ الاستقلال أوجدت هذه النخب نظما اقتصادية مختلة لا تستفيد منها إلا فئات محددة على حساب معاناة الملايين الذين إما يعيشون في أحياء القبور والصفيح والعشوائيات أو يغرقون في الفقر والذل والقمع. ووجدت فئات وسطى لكن المناخ العام كله قائم علي تطبيع الامتيازات والمحسوبية والفساد واختراق القانون والقيم.

ومنذ الاستقلال أوجدت هذه النخب نظما اجتماعية وتعليمية وإعلامية هدامة وفاسدة، وزرعت الفكر الإقصائي والتعصب والجهل، وأنتجت أجيالا مشوهة وطبقة من المثقفين الذين يسهمون بلا وعي في هدم المجتمع. ومنذ الاستقلال، تحارب الأنظمة الحاكمة – كغيرها من الأنظمة الشمولية – كل المنادين بالإصلاح وكافة التيارات الوطنية – الإسلامية وغير الإسلامية- وتعتبر أن الصراع معهم صراعا صفريا. وعندما قامت الثورات العربية تحالفت المؤسسات العميقة لهذه النظم وكافة النخب المنتفعة منها وحلفاؤها الإقليميون والدوليون ضد الشعوب واستمروا في قتال الشعوب وممارسة كل أنواع الإقصاء والقتل والقمع تجاههم.

ثالثا – وفي العراق تحديدا ظهر التنظيم لسبب أساسي هو فشل الدولة – بعد الاحتلال الأمريكي – وقيام نظام نوري المالكي باتباع سياسة إقصائية لسنة العراق على امتداد سنوات طويلة. لقد قتل الملايين من العراقيين السنة في العراق في السنوات الماضية ولم يغضب أحد أو يتحرك لمساندتهم ولم يعتبر أحدا أن ما قام به المالكي إرهاب دولة. ثم وصلت سياسات المالكي إلى قمع انتفاضة السنة بالقوة في 2013 ما دفع الكثيرين إلي التحالف مع التنظيمات المتشددة في العراق.

وكان من الطبيعي أن يتمدد تنظيم داعش بسهولة في المناطق التي تشهد صراعات وعمليات إقصاء كما حدث في سوريا ثم ليبيا وسيناء. النظام المصري الحالي لا يفهم المسألة إلا من منظور أمني، لأنه هو ذاته اعتمد أسلوب الإقصاء والقمع في التعامل مع معارضيه بالداخل، وأوجد أوضاعا لا مثيل لها في تاريخ مصر المعاصر وكانت من أسباب انتشار داعش في سيناء ومحاربته لمصر في سيناء وليبيا. واليوم يعد للجيش – وهو الجيش الوحيد بالمنطقة – مصيدة في ليبيا وإعلامنا الأحمق يدفعنا دفعا إلي الهاوية ويستمر في تغييب العقول.

ورابعا- لا يمكن فصل ما يظهر من تطرف عندنا بفلسطين، حيث تستمر المأساة منذ نحو قرن دون أن نسمع أن ما يحدث تجاه الشعب الفلسطيني هو إرهاب دولة من الطراز الأول تدعمه كل الأطراف التي تقف عاجزة عن نصرة هذا الشعب من نخب ونظم محلية أو قوى دولية كبرى.


ما الحل؟

النظام المصري الحالي لا يفهم المسألة إلا من منظور أمني، لأنه هو ذاته اعتمد أسلوب الإقصاء والقمع في التعامل مع معارضيه بالداخل

استنادا إلي كل ما تقدم، فلا يتصور حل مشكلة داعش جذريا إلا عندما تتم معالجة جذور المشكلة في كل قطر عربي. وهذه المعالجة تتطلب رص صفوف كافة القوى الوطنية وإجراء مصالحات وطنية شاملة في كل دول الربيع العربي ومعالجة كل أسباب التوتر الطائفي والمذهبي، وصولا، في مستقبل قريب، إلى اتحاد جامع يعيد الأمور إلى طبيعتها في هذه المنطقة.

سياسة الإقصاء ودعم الغرب وأمريكا للشيعة على حساب السنة أدى في النهاية إلى داعش

وفي ليبيا تحديدا لا يجب أن تدعم مصر طرفا على حساب طرف فهذا يعمق الصراع وسيكون له تداعيات خطيرة على مصر سياسيا وعسكريا واقتصاديا. ولا يمكن تصور أن أحد الأطراف في ليبيا سيكسب الصراع هناك. لم يحدث هذا في كل الحروب الأهلية تقريبا.

والدرس العراقي لابد أن يكون حاضرا لدينا: سياسة الإقصاء ودعم الغرب وأمريكا للشيعة على حساب السنة أدى في النهاية إلى داعش. وبالتالي الحل الوحيد في ليبيا هو دعم جهود المصالحة الشاملة وقيام حكومة وحدة وطنية تقود مرحلة انتقالية يتم خلالها جمع السلاح وتوحيد الجيش وبناء المؤسسات والدولة.

إن قراءة واقعنا العربي الراهن تثبت أن ما نحن فيه مقدمات لاستمرار العنف والتطرف. ولن يتغير واقعنا إلا عندما تفهم النخب الحاكمة والفئات المتحالفة معها وكافة القوى الإقليمية والدولية المساندة لها (أو تدفع دفعا مع استمرار نضال الشعوب السلمي إلي فهم) أنه لا مفر في النهاية من:

– احترام خيارات الشعوب في الكرامة والحرية والعدالة، فهذه الخيارات لا يمكن الالتفاف عليها متى ذاقت الشعوب طعم الحرية وفي ظل السماوات المفتوحة وأدوات التواصل الاجتماعي.

– إقامة حكومات وطنية قوية ومنتخبة من الشعوب ويمكن محاسبتها واستبدالها بالطرق الشرعية وليس بالانقلابات والمؤامرات الإقليمية والدولية وعمليات غسيل المخ الإعلامية.

– إعادة بناء الجيوش على أسس جديدة في الدول التي انهارت فيها الجيوش كالعراق وليبيا وسوريا، وإعادة الجيوش إلى ثكناتها لتتفرغ لمهامها في الدول الأخري مثل مصر.

– البدء في مسارات حقيقية لبناء دولة القانون والمؤسسات وفتح مساحات العمل السياسي السلمي أمام جيل الشباب وتمكينه من ممارسة السلطة على أسس جديدة تماما تضمن حكم القانون والمشاركة والعمل المؤسسي والمحاسبة.

– استخدام ثروات المنطقة في وضع برامج شاملة تضمن العدالة الاجتماعية لكافة الفئات ولا سيما المهمشين والفقراء والأقليات.

– استقلال مؤسسات وٍقوى المجتمع تماما عن السلطة وضمان حيادها ونزاهتها وفعاليتها وأقصد هنا المؤسسات غير السياسية أي القضاء وأجهزة الشرطة وهيئات الرقابة والمحاسبة، وكذا الجامعات والإعلام والمجتمع المدني والمنظمات الحقوقية والنقابات والاتحادات وغيرها.

– فتح مجالات التجديد الفكري والديني الحقيقي للحد من التطرف واستخدام طاقة الشباب في البناء ومواجهة التحديات الحقيقية.

ثلاثية التطرف والعنف والفوضي نتيجة طبيعية لثلاثية الاستبداد والفساد والتبعية، وهما متلازمتان في الواقع ويغذي كل طرف منهما الآخر. ولهذا فمحاربة هذه الآفات جميعها معركة واحدة.