بالرغم من بشاعة تصوير لحظات حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة ثانية بثانية ،إلا أن هذه المادة الفيلمية بكل صدمتها تخضع للدراسة والتحليل من عدة علوم تحت بند “الحرب النفسية” أو “البربوجاندا” عموما، وعلى الرغم من أن تحليل فيلم يصور مقتل إنسان بهذه الفظاعة كأنه مادة علمية (كما نحلل معادلات رياضية مثلا) يتم فصل المشاعر الإنسانية فيها عسير للغاية، إلا أننا يجب أن نقوم بهذه المهمة التى تساعدنا على فهم داعش بشكل أفضل وسايكولوجيتها وأهدافها فى ظل عالم معقد منذ أن بدأت الثورة المعرفية (مع منتصف القرن الماضى) وكل شىء فيه (حتى الشر) أصبح ينفذ ويُخطط له أو يُحلل ويتم فهمه وفقا لقواعد علمية يخضع لها.

فمن نقتل؟ وكيف نقتله؟ وكم الدمار الذي سنسببه؟ وكم الانتهاكات والجرائم التي سنرتكبها بالحروب؟ وما الذى نريده من وراءها؟ كل هذا أصبح نوعا من المعرفة التي يتم حسابها بأدوات العلوم الرياضية والمنطقية وهي ما يطلق عليه “علم وفلسفة الحرب”، فهما يتم تحييد المشاعر الإنسانية والنزعات الأخلاقية لفهم كل هذه الطواهر فى سياق مرتكبيها.

من يخاطبون ؟

إن هذه المادة الفيلمية بكل صدمتها تخضع للدراسة والتحليل من عدة علوم تحت بند الحرب النفسية أو البربوجاندا

كان من اللافت والطريف أن يبدأ الفيلم الذى بثته داعش أمس بمشهد منقول عن إحدى العاب “البلاي ستايشن ” الحربية الشهيرة، تحديدا في المقطع الذي يتحدث فيه المُعلق عن الحملة الصليبية على الدولة الإسلامية، ولعل هذا هو ما لاحظة أيضا الكاتب محمد حمامة في مقاله ” vs call of duty داعش ” حينما أورد شهادة أحد الغربيين الذين هاجروا إلى داعش حين قال ” أشعر اننا في لعبة call of duty واقعية “، وتلك تحديدا هي الفئة التي تخاطبها البروباجندا الداعشية وهي فئة الشباب الذي يبحث عن معركة ما أيا كانت مواصفتها، فالرسالة هنا : معنا أنت ستكون “Assassin creed” وستلعب call of duty و Medal of honor و red alert واقعيا وبشكل حي.

نحن حماة الديار

المشاهد التي أوردها الفيلم من آثار قصف طائرات التحالف قبل مشهد حرق الكساسبة لم تكن لجلب الاستعطاف أو التمهيد لقبول صدمة مشهد الحرق، وسائل الإعلام التى أعادت بث المادة الفيليمة محاولة التغاضى عن هذه المقاطع وعوضا عنها تركز على أن الكساسبة بطل قومي أو على حد قول الإعلامي عمرو أديب ” نحن نشهد معجزة بزماننا من بطل عربي ظل صامد بوجه النيران ولم ينحني ولم يركع وظل حي بعد ان التهمته النيران!”، فهنا السيد عمرو أديب تلقى الرسالة الخطأ، وحاول أن يقصف عقل مشاهديه بقصف يزيل آثار نظيره الداعشي، ظن أن داعش تريد إظهار الكساسبة على أنه مجرم يستحق العقوبة، فأظهره هلى أنه بطل يستحق التقديس

لكن البروباجندا الداعشية لا تعبأ إطلاقا باستجلاب التعاطف أو معركة كسب عقول الناس وقلوبهم بل إن نقطة المفارقة الأساسية بين تصورات جبهة النصرة (أكبر فصيل جهادى مخالفة لداعش فى منهجها القتالى والفكرى) وتصورات داعش هو إصرار جبهة النصرة (أو الجيل الرابع منالقاعدة عموما) على أولوية فكرة “الحاضنة الشعبية” للمقاتلين وأنه لا تحرك لإقامة سلطة إلا برضا عام وقبول شعبي لتلك السلطة، بينما تصور داعش أن وجود تلك الحاضنة الشعبية غير ممكن، وأن عليك أن تجعل الناس يهابونك أكثر من حرصك على أن يحبوك، وبهذا ينعقد الولاء.

الفئة التي تخاطبها البروباجندا الداعشية هي فئة الشباب الذي يبحث عن معركة ما أيا كانت مواصفتها

وتلك المفارقة الأساسية انعكست على العديد من التصورات الأيدلوجية الحاكمة لداعش كاعتقادهم أن الأصل في الناس الكفر ما لم يكن بأعناقهم بيعة لدولة الإسلام.

فإذا ما هي الرسالة ؟

الرسالة ببساطة : نحن قادرون على حماية حدود وعمق دولتنا والتصدي لأي عدوان عليها المثل بالمثل، ولو كان بأعالي السماء، حتى ونحن – عسكريا – لا نملك مضادات أرضية متطورة، وقاعدة المعاملة بالمثل تنطبق حتى على المستوى الفردي فعليك أن تفكر مرتين قبل أن تقرر مجددا بالعبث معنا .

اتضحت هذه الرسالة أكثر فى المشهد الأخير بلحظة الإعدام بمنظر التراب والرماد فوق الجسد المتفحم ثم انتقال الكاميرا لاستعادة مشهد الجثة التي انتشلوها من تحت الأنقاض والتراب بعد قصف قوات التحالف، فبهذا تحقق الخلاص والانتقام ! ولعل هذا هو الباعث من الأصل على اختيار اسم الفيلم “شفاء للصدور”.

وبما أننا نتحدث فىالنهاية عن فيلم سينمائي، حتى لو كان واقعيا، فهذا المشهد هو المعادل لمشهد بفيلم Taken عندما يقول البطل لخاطف ابنته بالهاتف : “أنا لا اعرف من أنت .. ولا أين أنت .. ولكني أعدك إذا لم تطلق صراح ابنتي أني سأجدك ثم سأقتلك”، فرد الخاطف مستخفا بالكلام : حسنا حظا موفقا !

ثم تتوالى أحداث الفيلم حتى يجد البطل الخاطف فعلا ويقتله!

وقد كان مشهد الذروة بالفيلم عندما أشعل الفتيل من وُصِف بأنه قائد إحدى القواطع التي كان يقصفها الكساسبة ! فإذن منطق داعش هنا نحن قادرون على رد الضربة حتى على مستوى اقتصاص كل فرد فينا من الأفراد الآخرون بالطرف الذي نحاربه.

البروباجندا الداعشية لا تعبأ إطلاقا باستجلاب التعاطف أو معركة كسب عقول الناس وقلوبهم، فداعش ترى أن عليك جعل الناس يهابونك أكثر من حرصك على أن يحبوك

أنت بين يدي داعش كالميت بين يدي مغسله!

على الرغم من أن الكساسبة فى النهاية مقاتل بطائرة رصد وليست طائرة مقاتلة أو قاذفة وأقصى المعلومات التى يمكن أن يمتلكها متعلقة بسربه فقطوالشكل العام للحملة إلا أن احتواء الفيلم على اعترافاته، والتتر الذى احتل آخر الفيلم بأسماء الطيارين المطلوبين لدى داعش كان يحاول التأكيد على إيصال تلك الرسالة : نحن قادرون على انتزاع جميع المعلومات التي بعقل من يقع بقبضتنا، وهو لا يملك حيال هذا أي شىء، ولا يستطيع أن يقاوم أو يمتلك حتى القدرة على المقاومة.

وتجلى هذا أيضا بآخر مقاطع كلامه عندما قال : أعترف بأن الحكومة الأردنية حكومة عميلة ولو كانت حقا كما تقول تنصر الاسلام لحاربت النظام النصيري المجرم ( الأردن بالفعل من أكثر الدول النشطة بتقديم أنواع الدعم المختلفة لفصائل عديدة تحارب النظام السوري، لذا فالمراد أو المطلوب هنا هو إلحاق صفة العمالة على جميع الفصائل التي تأخذ دعما أردنيا وأنها ليست صادقة بالحرب ضد بشار) فهنا المطلوب إيصاله أن الكساسبة بعد أن وقع بيدنا صار فعلا كدمية نستنطقه بما نريده أن يقول ولا يملك أن يخرج عن النص.

بقية الفقرة أيضا يقول فيها ” أوجه رسالة لآباء وأهالي الظباط : أمسكوهم قبل أن تفجعوا فيهم كما فُجع أهلي في”، فالذى صاغ تلك الرسالة صاغها بفعل ماضي “فجع” أي أن الفجيعة التي ستلحقها داعش بأهل الكساسبة وتشريدهم بمن خلفه قد صار قدرا نافذا، لا يملك أحد أن يغيره!

وقد كان الأمر مقصودا بشكل أوضح عندما ظهر الكساسبة وهو يمشي الهوينا إلى الزنازنة التي سيحرق بها دون أدنى تدخل أو إجبار من صف المقاتلين بجانبه، فهو قد بلغ من الاستسلام لهم وفقدان الإرادة أنه لا يقدر حتى على المقاومة أو التمنع عن حكم الإعدام، يستدعي مُجبرا إلى القفص الحديدي، ثم يقف منكس الرأس منتظرا مصيره البشع، لا يتحرك يمنة أو يسرة، لا يتزحزح عن علامة (X) المرسومة بالبارود تحت قدميه.

هذا التأثير لم تسبق إليه داعش، بل لعل أول من استخدمه هم المغول؛ فالمغول حسب الدراسات الحديثة لم يملكوا هذا العدد الضخم والمهول من الجند والجيوش الجرارة كالجراد بالصورة التي انطبعت عنهم فى التاريخ، ولكنهم كانوا يملكون مهارة عسكرية تجعلهم يبدون بالنسبة لعدوهم أضخم وأكبر مع تحقيق انتصارات سريعة، وعقابات حاسمة لأي مقاومة.

حمل الفيلم رسائل للجمهور وللحكومات، للأعداء وللأصدقاء، تجاوزت الدقائق المعدودة التى تم تصوير هذا العمل البشع فيها لتصل إلى أبعد مدى

كل هذا بالنهاية أدى للمشهد الذي وصفه ابن كثير في البداية والنهاية عندما سقطت بغداد بيد المغول .. كان المغولي اذا أراد قتل رجل من المسلمين أمره بالانتظار حتى يحضر سيفه ويقتله، وبالفعل ينتظره الرجل، لأن السمعة التي اكتسبها المغول تجعل خصمهم يعتقد أنه لا يستطيع أبدا الفرار من موت قادم على سيوفهم.

وهنا يمكننا بسهولة تبين الشبه بين مشهد الكساسبة وهو يمشي إلى موتته الشنيعة بدون أدنى مقاومة والمشهد الذي رواه ابن كثير!

ولعل ما يقبت ذلك أن تقديرات أعداد داعش لا تتراوح ما بين الـ 10 آلاف إلى الـ 20 ألف مقاتل فقط، يسيطرون على تلك المساحة الهائلة من الأرض ويخوضون كل تلك المعارك فبالتالي لتعويض الفارق العددي يحتاجون دائما أن يستخدموا أساليب الرعب لشل قدرة الخصم على قتالهم وتلك كانت الرسالة الرئيسية من الفيلم.

صدق كذبتك حتى يصدقها غيرك

وهنا تأت طريقة داعش المتفردة في اكتساب مؤيديين جدد، فبالتأكيد لا تراهن داعش على مشاهدة اللقطة الأخيرة التي تنشر بها أسماء طياريين مطلوبين للقتل – على حد تعبيرهم – ثم يبادر أحد المشاهدين لقتلهم إذا ما تعرف عليهم تنفيذا لتعليمات “أمير المؤمنين وطمعا بجائزته” !

لكن الرسالة هنا : رسالة خداع للنظام الأردني بأن طياريهم مستهدفين بخلايا نائمة لداعش بالداخل الأردني، في حين أن هذا – فى أغلب الظن – تمويه لهدف آخر لداعش في الأردن ستعمل على تنفيذه في الأيام القادمة ، وأيضا محاولة إقناع الرأى العام العربي المتابع لهم أنهم بالفعل لديهم مؤيدون فور مشاهدتهم هذا الإصدار سارعوا ملهوفين إلى تنفيذ أوامر الخليفة، فهنا بحسب الاتصال الجماهيري إذا وجدت أي معلومة بين الجماهير – كحقيقة – سرعان ما ستجد نفسك تحاول الالتحاق بالتيار الرئيسي المتبنى لتلك المعلومة.

رسائل للجمهور وللحكومات، للأعداء وللأصدقاء، تجاوزت الدقائق المعدودة التى تم تصوير هذا العمل البشع فيها لتصل إلى أبعد مدى، ولنرى آثراها خلال الأيام القادمة على كل المنطقة.