مؤخرًا عقد معهدُ البحوثِ العربية بالقاهرة، وهو مؤسَّسة تابعة لجامعة الدول العربية، مُحاضرة للدكتور. رضوان السيِّد، وكانت بُعنوان: النصُّ التراثي السياسي. وكانت المُحاضرة في جوهرها استمرارًا للمسار الذي أبان عنه الدكتور رضوان السيِّد أكثر من مرة خلال مُحاضراتِه الأخيرة، وهو المسار الذي تهدُفُ هذه المقالة إلى فكِّ التباساتِه، والكشف عن تناقضاتِه.

بشكلٍ عام يُمارِسُ الدكتور رضوان السيِّد لُعبةً نظريِّة تكرَّرت في أكثرِ مُحَاضَرَاتِه التي شَاهدتُهَا مؤخرًا، بالذات تلك التي يُلقيها في ندوات ومؤتمرات مركز “مؤمنون بلا حدود”.

تنقسِمُ اللعبة إلى عدة أقسام سأحاول الإبانة عنها في نقطتين مُحدَّدَتين:

يخلُصُ الدكتور رضوان السيِّد إلى نتيجة مفادُها أنَّ التقليد السني انتهى إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة

أولاً: يبدأ الدكتور رضوان السيِّد، مُستغِلاً خبرته الطويلة والحقيقيَّة بالتراث الإسلامي، في بناء سردية تاريخية عن العلاقة بين “الدين” و”الدولة” في التاريخ الإسلامي ابتداءً من عهد النبوَّة، فالخلافة الراشدة إلى أخرِ عهدِ الخلافة بسقوطِ أخر مُمَثِّليها؛ الخلافة العثمانية في مارس 1924.

وخلال عملية بناءه لتلك السردية يؤكِّدُ على امتلاكِ الإسلام، بشكلٍ عام، منظومة معرفيَّة وأخلاقيَّة مُستقلِّة أنتجت تاريخيًا ما يُسميِّهِ التقليد السني الذي، لأسبابٍ كثيرة، فشِل في الإستمرار مع دخول العصر الحديث وأَفَلْ. وداخل عملية بناءِ هذه السردية يُعرِّجُ على مواقف بعض دارسي التراث من المُفكرين العلمانيين العرب كمُحمَّد عابِد الجابري ومحمد أركون، فيحمِلُ حملاً شديدًا على مواقفهم من التقليد السُنِّي الذي يتفق معهم في مبدأ أفولِه، لكنه يُخالِفُهم في مسألة إلقاء تبعة أفولِه على الدين نفسه الذي يملِكُ منظومة معرفية وأخلاقية مستقلة تُتيح إنتاج تقليد سُني جديد يُناسِبُ العصر ويُسهِمُ في انتاجِ “دولة دستورية ديمقراطية حديثة” على حدِّ تعبيره. ويُخالفُهُم أيضًا في بعض جزئياتِ الموقف من الحركات الإسلاميَّة المُعاصِرة التي يُسمِّيها الإحيائِيات أو الصحويَّات أو الأصوليات الجديدة وسنُفَصِّلُ ذلك في حينه.

يخلُصُ الدكتور رضوان السيِّد في نهاية بناءه هذه السردية إلى نتيجة مفادُها أنَّ التقليد السني انتهى إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة لأنَّ الأصل في الدينِ أن يكون في المجتمع وبين الناس للدعوة والعبادة وتنظيم المُعاملاتِ المدنية.. إلخ بقدرٍ أكبر من وجوده في سلطة الدولة، ذلك أنَّ بناء سلطة الدولة على أساسٍ ديني سيجعل منها “ديكتاتورية مقدسة”. كما أنَّ استقرار التقليد السُني على هذه النتيجة جاءت لأنَّه أقرَّ ، خلافًا للتقليدِ الشيعي، أنَّ الإمامةَ ليست رُكنًا من أركانِ الدين.

لا يُفرِّقُ الدكتور رضوان بين إخوانِ البنَّا أو إخوان سيِّد قطب الذي حمَّله إرثًا كاملاً من أخطاءِ تأويلاتِ من ارتدوا عباءته

ثانيًا: في الموقفِ من الصحويات الإسلاميَّة/ الحركة الإسلاميَّة، أوالأصوليات المُعاصِرة كما يُسمِّيها؛ يرى الدكتور رضوان السيِّد أنَّ هذه الحركات في جُملَتِها تتحرَّكُ في إطارِ قطيعةٍ تاريخيةٍ مع التقليد السُنِّي الذي أشار إليه سابقًا، وأنَّ استِنادها إليه هو استنادٌ تبريري لا أكثر لشرعنة خياراتها النظرية والحركية في الواقع المُعاصِر، وأنَّها حمَّلت الإسلام ما يفوق طاقته من السعي وراء الحُكمِ والدولة، وظنَّت أنَّ الوصول إليها وتطبيق الشريعة عن طريقها جوهر الدين. وهذا أمرٌ يُخالِفُ الإسلام بشكلٍ عام وتقليده السُني بشكلٍ خاص حيث لم يكتسبِ السعي للوصول إلى السلطة هذا القدرَ من الأهميِّةِ طوال تاريخ الإسلام السُني قبل العصر الحديث. ويخلُصُ الدكتور رضوان في نهايةِ تحرير موقفِهِ من الحركة الإسلاميَّة المُعاصِرة، بجميعِ أطيافِها، أنها “فجَّرت الدين من داخله”، وهذا نصُّ تعبيره. ويرى الدكتور رضوان أنَّ هذه “الصحويات” لمَّا وضعت “سؤال الدولة” مرة أخرى كسؤال محوري في بناءها النظري ورؤيتها الحركية، فقد أعادت انتاج إشكالية الخوارج التي كان التقليد السني قد لفظها من البداية حين ردَّ عليٌّ كرَّم الله وجهه على مقولة مُناظِرِيهِ الخوارج في الكوفة: “إنِ الحكم إلا لله” بقوله: كلمةٌ حق يُرادُ بها باطل. وبالتالي أعادت “سؤال الدولة” إلى “بطن الدين” مرة أخرى بعد أن كان الإسلامُ، مُمثَّلاً في تقليدِه السني، قد لفظه.

ولا يُفرِّقُ الدكتور رضوان في هذا بين إخوانِ البنَّا أو إخوان سيِّد قطب الذي حمَّله إرثًا كاملاً من أخطاءِ تأويلاتِ من ارتدوا عباءته. والسلفية الإحيائية على طريقة الشيخين رشيد رضا ومُحبِّ الدين الخطيب، ثم السلفية النجدية التي أسَّسَت الدولة السعودية الثالثة مع الملك عبد العزيز آل سعود، والسلفية المُعاصرة المؤسَّسَة على يدِ الشيخ الألباني رحمه الله، وقطعًا السلفية الجهادية، بكل فروعِها، وصولاً إلى تنظيم الدولة الإسلاميَّة (داعش).

أما عن خلافه مع المُفكرين العلمانيين العرب، في مسألة الموقف من الحركةِ الإسلاميَّة المُعاصِرة، فهو منحصِرٌ في جزئية إلقاءِ تبِعَةِ “الخرابِ” الذي جرَّته هذه “الصحويات المُعاصِرة” على الإسلامِ والتقليد السُني التاريخي نفسه، حيث يؤسِّسُ خلافه معهم على قاعدة أنَّ كل هذه التيَّارات حديثة/حداثية جدًا في جوهرِها، وتتحرَّكُ في إطارِ قطيعةٍ تاريخيةٍ واضحةٍ مع التقليد السُني التاريخي.

هنا نكون قد انتهينا من تحرير موقف الدكتور رضوان السيِّد، وقد حاولنا قدر الإمكان الاستعانة بعباراته التي سمعناها منه وأرجو ألا نكون قد أغفلنا شيئًا يُحوِّر معنىً أساسيًا في كلامه.

الآن سنُحاول إظهار ما نظنُّهُ تناقضات واضحة في وجهاتِ نظر الدكتور رضوان السيِّدِ بخصوصِ تلك القضايا الإشكالية التي أثارها.

أولاً: بخصوص “الدين” و”الدولة”:

من المشاكل التي يقعُ فيها الكثير؛ أنَّهم يتعاملون مع المصطلحات والمفاهيم ككيانات نظرية مُجرَّدَةٍ في العقل

من المشاكل التي يقعُ فيها كثير من المثقفين الإسلاميين التقليديين، وكثيرٌ من نُظراؤهم الحركيين أيضًا، وكثيرٌ من نُقَّادهم كذلك؛ أنَّهم يتعاملون مع المصطلحات والمفاهيم ككيانات نظرية مُجرَّدَةٍ في العقل، لا كتجارب تاريخية كاملة ومعاجم حضارية أنتجت هذه المصطلحات والمفاهيم حتى وصلتنا بشكلِهَا الحالي. وبالتالي فإنَّ دراسة هذه السياقات التاريخية واجبٌ أساسي لتفكيكِها وفهمها، قبل أنْ نُقرِّر هل تتوافق/ لا تتوافق، يمكن استخدامُها/ لا يمكن استخدامُها. يمكن تحوير دلالتها أو جزء منها / لا يمكن تحوير دلالاتها أو جزء منها. يمكن إيجاد بدائل لها/لا يمكن إيجادُ بدائل لها. وقد نَتَجَ هذا أيضًا –بدرجةٍ كبيرة- عن غياب المُمارسة العملية التي تحدُثُ في التاريخ وتُغلِّبُ خياراتٍ على خيارات، وتصل النظرية بالواقع فتُنضِجُها، والواقع بالنظرية فتفسِّرُه وتضفي المعنى على الحركة فيه . فالبطالة العملية وغياب الممارسة يُسهِمان في انتاج هذا الوضع بشكلٍ واضح. ونحن نذهبُ إلى أنَّ هذا بالضبط هو ما وقع فيه الدكتور رضوان السيِّد. وبيان ذلك ما يلي.

يرى الدكتور رضوان السيِّد، كما أسلفنا، أنَّ التقليد السُني التاريخي انتهى إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة حفظًا للدين والدولة، أو كما قال. وأنَّ “الصحويَّاتِ الإسلاميَّة” المُعاصِرة قد قطعت مع هذا التقليد حين أعادت سؤال الدولة إلى الواجهة مرة أخرى. ونحن لن نُناقِش النتيجة التي خلُصَ إليها الدكتور رضوان في خاتمة مُحاضرته، ولكن سنلقي ببعض ظلال الشكِّ على المُقدِّمات التي بنى عليها الدكتور رضوان السيِّد نتائجه ونرصد مدى اتصال أو انفصال العلاقة بين هذه المُقدِّماتِ وتلك النتائج.

بخصوص “الدين” و”الدولة”، لا يمكن انكار اتفاقِنا مع الدكتور رضوان السيِّد أنَّ مسألة السلطة والوصول إليها كسبيلٍ أوحد لنشرِ الدعوة لم تكن مسألة مركزية طيلة تاريخ أهل السنة والجماعة، على عكسِ الشيعة. ذلك أنَّ سُبُلَ نشر الدعوة والتعليم والقيام بأمرِ المسلمين لم يكُن مُتعلِّقًا بـ”الدولة” بشكلٍ رئيسي[1]، ولم تكُن الدولة في ذلك الوقت تملِكُ من أدواتِ التدُّخِلِ في شئون رعيِّتها ما يسمح لها بمُرَاقَبَةِ كل تلك الأنشطة. تفتحُ لنا هذه البداية الباب لمُناقَشَةِ طبيعة الدولة المركزية الحديثة من جانبين. أولاً: مدى توافُقِهَا أو تعارُضِها مع المنظومة المعرفية والأخلاقية الإسلاميَّة الخاصة التي يقول الدكتور رضوان السيِّد بوجودِها ونوافقه على ذلك قطعًا. وثانيًا: مدى اقترابها أو ابتعادِها عن نموذج الدولة الإسلاميَّة التقليدية الذي أنتَجَه التقليد السُني التاريخي في العصور الوسطى. وهنا تحديدًا نرصُدُ نقطة التناقض الأولى خطاب الدكتور رضوان السيِّد، وهي -باختصارٍ غير مُخِّل- كالتالي:

لم تكُن دولة الخلافة أو الدويلاتُ الإسلاميَّة في عصور الضعف والقوة، على السواء، تمتلِكُ من أدواتِ السلطة ما يسمح لها بالتدَّخُلِ في شئون رعيَّتِهَا كما هو الحال في الدولة الحديثة.

هل لو طُرِح سؤالٌ في عصر المماليكِ مثلاً، وهو عصر انحدار، عن «السياسة الحيوية – Biopolitics» كان سيُصبِحُ للسؤال معنى أو نجدُ له إجابة؟ [2]

لم تكُن دولة الخلافة أو الدويلاتُ الإسلاميَّة، تمتلِكُ من أدواتِ السلطة ما يسمح لها بالتدَّخُلِ في شئون رعيَّتِهَا كما هو الحال في الدولة الحديثة

السؤال الذي نطرحُهُ هنا بوضوح: أين تقعُ قدراتُ دولة الخلافة أو دويلاتُ الإسلام في عصور عزِّهَا، أو انهيارِهَا من هذا المعنى للدولة ووظيفتها؟

الإجابة التي تطرحُ نفسها بوضوح كذلك أنَّها بعيدة جدًا عن كل هذا، وبالتالي فإنَّ الأمر لم يعُد مُتعلِّقًا بالفصل بين الدين والدولة ولا عن العلاقة بين الديمقراطية والإسلام ولا كل هذه المسائل النظرية المُجرَّدة، بل صار مُتعلِّقًا بتغيُّرِ معنى وطبيعة ووظيفة الدولة نفسها. لذا يبدو أنَّ السؤال الصحيح هنا بخصوص العلاقة بين “الدين” و “الدولة” يجب أن يكون: هل أعادت “الصحويات الإسلاميَّة” سؤال الدولة إلى مركز العمل الديني قبل أنْ تؤمِّمَ الدولة الدينِ كله وتستولي عليه ضمن ما استولت عليه من كل عناصر حياة المُجتمع الإسلامي التقليدي، أم بعده؟!

ما نخلُصُ إليه بوضوحٍ هنا أنَّ محاولة بناء سردية للعلاقة بين الحركات الإسلاميَّة المُعاصِرة والدين بشكلٍ مُنفصلٍ عن علاقة الدولة المركزية الوطنية في التاريخِ العربي الإسلامي الحديثِ والمُعاصِر بالدين نفسه ستنتج -بالضروة- مُغالَطَاتٍ كبيرة . وكذلك مُحاولات بناءٍ سردية لعلاقة العداء بين الحركة الإسلاميَّة، عمومًا، والدولة مع تحميلِ مسئوليةِ هذا العداء -بشكلٍ شبه كامل- للحركات الإسلاميَّة يحوي من المغالطاتِ الشيئ الكثير أيضًا. ذلك أنَّ الحركة الإسلاميَّة، بجميع أطيافِها، هامشٌ كُتِبَ على متنِ الدولة الوطنية في العالم العربي والإسلامي. ونحن في غنى عن ذكر مدى سواد مِداد العنف والقوة والغصب الذي كُتِبَ به هذا المتن. ولم يتعلَّم أبنائها –أبناءُ الحركة الإسلاميَّة- إلا في مدارسِ الدولة، ومن خلال نُظُمها التعليمية التي وضعها الاستشراق/الاستعمار -غالبًا- وطبَّقتها النُخبُ الحاكمة أو سارت على نهجِها. ولم يعرِف أبناء الحركة الإسلاميَّة عن “الدولة” ومعناها وطبيعتِها ووظيفتها إلا من مدارسِ الدولة الوطنية نفسِها، وخرجوا إلى العالم، أوائل القرن العشرين، وقد قطعت الدولة الوطنية كل وشيجةٍ مع التقليد السني التاريخي في السياسة والاقتصادِ والاجتماع والعمران. فمن أعادَ سؤال الدولة إلى المركزِ مرة أخرى لم يكن سوى ردِّ فعلٍ لمن وضع الدولة كلها في المركز، واستولى بها على الدين والأمة بعد أنْ أعادَ جهاز المعرفة الاستشراقية وذيوله تعريفهُما. فهذا ما يجب أن يُقال بأشدِّ ما يكون الوضوح. ليس الإسلاميون المُعاصِرون هم من قطعوا مع التقليد السني التاريخي، بل الدولة الوطنية نفسُها.

ثانيًا: ماذا عن المُسلِمِ نفسه؟!

تنبغي الإشارة هنا إلى مسألة نحسبُ أنَّها مهمة جدًا وعادةً ما تضيع في غمرة النقاشاتِ النظرية، وهو الإنسانُ نفسه. أعني بذلك ما “الدين” وما “الدولة” في نفسِ المسلم الذي يجد نفسه في موقع السلطة، فيُحتِّمُ عليه ضميره أولاً أنْ يُخضِعَ الثانية للأول في تقرير أسُسِهِ وحمايتها. ما “الدين” وما “الدولة” في نفس عمر بن الخطَّابِ رضي الله عنه وهل عانى من هذه المشكلة أصلاً؟ وما الدين وما الدولة في نفسِ سلطانٍ من سلاطين المماليك، أو “خليفةٍ” عثماني يقتل اخوته “حفظًا لنظام السلطنة والعالم”. وهل غُيِّبَ “الدينُ” عن “الدولة”، وافتقرت “الدولة” “للدين” إلا بقدرِ ما افتقرت إليه نفوسِ الحُكَّامِ والرعيَّة؟. هذه المسألة شديدةُ الأهمية في تقريرِ مسألة العلاقة بين “الدين” و”الدولة”، إذ أنَّ إنكار التمايُزِ الواقعي بينهُما عبث، لكن القول بوجوبِ انفصالِهما يعني القول بوجود قلبين أو ضميرين للإنسان وهذا ما أنكره الشرع والواقع بوضوح.

ثالثًا: عن سيِّد قطب

إنكار التمايُزِ الواقعي بين الدين والدولة عبث، لكن القول بوجوبِ انفصالِهما يعني القول بوجود قلبين أو ضميرين للإنسان وهذا ما أنكره الشرع والواقع بوضوح

أما المسألةُ الأخيرةُ في رصدِ وبيان مجموع تناقضات الدكتور رضوان السيِّد في محاضراتِهِ المذكورة، فهي حملته على سيِّد قطب ومحاولة تحميله كل الكوارث التي تسبَّبَ فيها مرتدو عباءته ووضعهِ، دون دليلٍ واضح، في صورة من يسعون وراء السلطة لتطبيق الشريعة، رُغمَ أنَّ في كتاباته أدلة ظاهرة على عكس ما ذهب إليه مؤوِّلوه ومرتدو عباءتِه ونُقَّادهم. وهو في هذه المسألة تحديدًا، وبشكلٍ شديد الوضوح، أقربُ إلى التقليد السني التاريخي كما وصَّفَهُ الدكتور رضوان السيد في البداية.

في أحايين كثيرة أتمنى عمل جردٍ سريع لكتابات سيد قطب الأخيرة التي مات عليها ولم يتراجع عنها أو يُعدِّل فيها باعتبارِ أنَّ هذه هي رؤيته الأخيرة قبل الرحيل والتي يمكن تقييمه على أساسها، ومن ثمَّ البحث فيها عن مصطلح “الدولة الإسلاميَّة” والنظرِ في نسبة وروده فيها. ولا أُجاوِزُ الحقيقة حين أؤكِّدُ على انعدامِ محورية قضية الدولة في كتاباتِ سيِّد الأخيرة. فضلاً عن أن نجد كلامًا على تفصيلاتِ نُظُمِهَا السياسية والتشريعية والاقتصادية.. إلخ، كما فعل غيره من المُفكِّرين الإسلاميين المُعاصِرين. وهو بذلك –للمُفارقة- أقرب إلى التقليد السني من وجهة نظر الدكتور رضوان السيِّد رغم وجوده في القرن العشرين.

على العكس من ذلك تمامًا، نجدُ تجنُّبًا ونهيًا واضحًا عن الخوض في هذه المسائل لأنه من الناحية العملية كان واضحًا جدًا غيابُ الرافعة الاجتماعية لهذه الأفكار، فضلاً عن أنَّ هذه الأفكار، بالنسبة لسيِّد كانت بنصِّ كلامِه: استنباتُ بذورٍ في الهواء. والإسلام كما فهمه سيد، وهو كذلك في اعتقادي، ليس مجموعة من النظريات لحل مشكلات الواقع، بل تصوُّرٌ كاملٌ للوجود يؤسِّسُ واقعه الخاص في نفس المؤمن أولاً ثم في سعيه داخل التاريخ ثانيًا. وهنا كذلك يبدو سيِّد أقربُ للتقليد السني الإسلامي في أصوله الأولى، كما نظن، وكما صوَّرَهُ الدكتور رضوان السيِّد، ويُجيب سيد بهذه الطريقة –أيضًا- عن سؤالِ بناءِ الإنسان الذي يُغيَّبُ دومًا في النقاشات النظرية.

لا أُجاوِزُ الحقيقة حين أؤكِّدُ على انعدامِ محورية قضية الدولة في كتاباتِ سيِّد قطب الأخيرة، بل نجدُ تجنُّبًا ونهيًا واضحًا عن الخوض في هذه المسائل

من ناحيةٍ أخرى يُعرِّضُ باحث العلوم السياسية أو باحث التاريخ السياسي الإسلامي نفسه لمشكلةٍ نظرية وعملية ضخمة حين يدرس سيد قطب مُتصوِّرًا وجود خط فكري ممتدٍ، بلا انقطاعاتٍ، بينه وبين أبي الأعلى المودودي؛ أحد أكبر ممثلي الصحوة الإسلاميَّة في شبه الجزيرة الهندية. وأهم من نظَّروا لفكرة “الدولة الإسلاميَّة” في النصفِ الأولِ من القرنِ العشرين. وهذا مُخالِفٌ للحقيقة. صحيحٌ أنَّ في أدبيات سيِّد الأخيرة ما يتقاطع مع جزئية أساسية في علم السياسة وهي نظرية السيادة؛ أي السؤالُ عن مصدر السيادة في عالم المسلمين الذي تُكوِّنُ الدولة جزءًا منه وليس كله، بل هي مجرد آداة من أدواته، (هل يتقاطع سيِّد هنا أيضًا مع التقليدِ السُني كما يصوِّرُه الدكتور رضوان السيِّد؟). يُحاجِجُ سيِّد بأنَّها من الله/الوحي، وهو تعالى وحده مصدر التشريع الأوحد، ويملك وحده تعالى حق التشريع بجانبيه، أي التشريع وتحديد استثناءاتِه. بعد ذلك مساحةٌ تفصيلية ضخمة جدًا لم يتعرَّض لها سيد فيما أعلم في كتاباته الأخيرة قطَ بغية تثبيت هذا المعنى الجليل في أذهان المسلمين الذين رأى سيِّد، عن حق، أنَّ هذا المعنى قد غاب عنهم. (هل غاب عنهم هذا المعنى نتيجة قطع الدولة الوطنية مع التقليدِ السُني؟) بعد ذلك فإنَّ سيد يرى أنَّ حركتهم في التاريخ مادامت منضبطة بهذا الضابط في أنفسهم وأنظمتهم فهي أنظمة مسلمة مهما كانت تفصيلاتها العملية. وأحسبُ أنَّ هذا كان من عبقرية تصوره الحركي؛ التخفُّفُ بدرجةٍ كبيرة من عبء النظرية (في زمنٍ لم يكن فيه مثقفٌ يجرؤ على ارتشاف كوبٍ من الشاي دون تنظيرٍ ثقيل) وتثبيت تصوُّرٍ واضح للوجودِ كله ودور الإنسان فيه والحركة على أسَاسِه في إطارِ معرفةٍ حقيقية بالشرعِ والواقعِ والتاريخ.

إذن فالدكتور رضوان السيِّد يبدأ محاضرته بتقرير أصول التقليد السُني في السياسة ومعنى الدولة، ويقول بانفصالِهما، ثم يعودُ فيقيس موقف الحركة الإسلاميَّة المُعاصِرة من الدين والدولة فيُلقي باللائمة عليها لاستعادتها سؤال الدولة إلى المركز دون التعرُّضِ لمعنى الدولة الذي تغيَّرَ تغيُّرًا شاملاً.

يُحمِّلُ رضوان السيَد الحركة الإسلاميَّة أخطاء الدولة نفسها، في حين أنَّها لم تُتح لها أبدًا فرصة تطبيق أفكارها، على عكس الدولة التي عاشَت مائة أو مائتي عام

والدكتور رضوان السيِّد، كذلك، يقول أنَّ الحركة الإسلاميَّة هي التي “فجَّرت الدين من داخله”، وينظر إليها كشيءٍ مُختلِفٍ عن التقليد السُني التاريخي (نتفق معه في هذا) لكنه يتجاهل أنها أتت كردِّ فعلٍ على احتكارِ الدولة الوطنية للدين. وهو أمرٌ شديد الجِدَّة كذلك على التقليد السياسي السني كله.

والدكتور رضوان السيِّد يفصِل نظريًا بين الدين والدولة ككيانين نظريين مُجرَّدين، ثم هو يلوم الحركة الإسلاميَّة على دمجِهما نظريًا، بينما الطرفان يتقابلانِ في مساحة تغييبِ سؤالِ الإنسانِ المسلم تمامًا.

والدكتور رضوان السيَد يُحمِّلُ الحركة الإسلاميَّة أخطاء الدولة نفسها، في حين أنَّ الحركة الإسلاميَّة لم تُتح لها أبدًا فرصة تطبيق أفكارها، على عكس الدولة التي عاشَت مائة أو مائتي عام، وغنيٌ عن البيانِ ذكر أوجُهِ فشلِهَا العامِّ والتام.

في نهاية المُحاضرة يُلقي الدكتور رضوان السيِّد قنبلته الأخيرة، فيعتَرِفُ أنَّه يُؤيِّدُ “علمانية أمريكية” لا تقطعُ مع الدين ولكنَّها تُرسِّمُ حدوده، وحتى يتفلَّتَ من سؤالٍ حول سبب هذه الدورة الطويلة المتناقضة، فلو ذهب من البداية إلى الجابري أو أركون وأخبرهم أنَّه مُؤيِّدٌ لـ”علمانية أمريكية” لما احتدم الخلاف بينهما إلى هذه الدرجة، ولانحصر الخلافُ في مساحةِ تحرير بعضِ تفاصيل المسائل لا نتائجها النهائية؛ حتى يتفلَّت الدكتور رضوان من هذا السؤال يدعو في النهاية إلى ضرورة تطوير مؤسَّساتِ الدين الرسمي التي احتوتها الدولة الوطنية تمامًا، كالأزهر، لتقوم بدورِها في استعادةِ التقليد السنُي التي هي أقرب إليه علميًا وسياسيًا. أي أنْ يقوم الأزهر، في أفضل أحواله، بدورِ الكنيسة الإنجيلية في انجلترا.

فهل هذه هي صورةُ التقليد السُني الجديد التي يدعو إليها الدكتور رضوان السيِّد؟!

_________________________________________________________________

[1] مع ملاحظة أنَّ بعضَ وظائِفِ الدين لا يمكن القيام بها دون وجودِ “دولة”، أو سلطةٍ مُسلمة.

[2] «السياسة الحيوية – Biopolitics»، مصطلحٌ رئيسٌ في الأعمالِ المتأخِّرةِ للفيلسوفِ الفرنسي ميشيل فوكو (1926 – 1984) ويعني بهِ علاقة السياسةِ الحديثة بالحياة الإنسانية، حيثُ يُحاجِجُ فوكو بأنَّ الفعل السياسي للسلطة الحديثة لم يَعُدْ مُتعلِّقًا بمجرَّدِ سلب الحياة من الرعايا أو الدفاع عنها كما هو الحال في الإمبراطوريات القديمة، بل ظهر مصطلحٌ جديد للتعبير عن المحكومين بدلاً من “الرعية”، وهو مصطلحُ “السُكَّان”. ويُمثِّلُ ظهور هذا المصطلح –حسبَ فوكو- دليلاً على تحوُّلٍ واضحٍ في دور الدولة من كونِها مُجرِّدِ سلطةٍ على الهامش بالنسبة لحياةِ رعيَّتِهَا اليومية، لسلطةٍ مُتدخَلة في أخصِّ شئون رعاياها وشروط حياتهم من خلال أدواتٍ كالإحصاء السُكَّاني والاهتمام بالصحة العامة وغيرها. هكذا تعتني السياسة الحيوية بصحةِ السُكَّانِ ووقايتهم من الأمراض الخطيرة والمُعدِيَةِ وتحرص على تلقيحهم وتغذِيَتِهِم وتصون أجسادهم وتُنظِّمُ رغباتِهِم، وتُعقلِنُ طُرُقَ تصرَّفِهِم في أجسادهم، بحيثُ أصبحت مراقبة كل شروط الحياة الإنسانية مُهِمَّة سياسية صِرفة.