كنا نقاوم التطرف الإسلامي ونجحنا في ذلك، لكن التطرف ليس خاصية قاصرة على الإسلاميين فقط؛ فهناك أيضًا يسار متطرف وهو أشرس من نظيره الإسلامي ونحن كذلك نقاومه.

ما بين طموح اليسار تولي مقاليد حكم تونس، ومحاولة النظام الحاكم الحفاظ على بقائه في السلطة، يتراشق الطرفان الاتهامات المتبادلة بالتطرف أو بالفشل. فقد ذهب السبسي بتصريحه السابق اتهام اليسار التونسي بالتطرف والدعوة إلى العنف ودعم الاحتجاجات التي شهدتها مدينة القصرين في أعقاب الذكرى الخامسة لثورة الياسمين.من جهة أخرى ذهبت القوى اليسارية وعلى رأسها الجبهة الشعبية إلى الاحتجاج على تصريحات السبسي واعتبارها باطلة ولا سند لها و تهدف إلى شق التونسيين واستهداف الجبهة الشعبية وقياداتها، فيما ترى بعض قيادات اليسار بأن تصريحات الرئيس هدفها التهرب من مسئولية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي عجزت حكومة الائتلاف الرباعي في حلها. في الوقت نفسه يتهم اليسار الحكومة التونسية بالتقصير في المضي قدمًا في الكشف عن المتورطين في اغتيال شكري بلعيد والذي يتهم فيه اليسار حركة النهضة بالضلوع في اغتياله.الاتهامات المتبادلة بين الطرفين توضح عددًا من نقاط الخلاف ترتسم من خلالها طبيعة العلاقة بينهما وهو ما يؤثر على الحياة السياسية في تونس. فما هي أهم قضايا الخلاف بينهما؟، وكيف تؤثر على الحياة السياسية التونسية؟.


خلاف في الرؤية الاقتصادية

الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي خلفها نظام ابن علي ما زالت توضح أهم ملامح السياسة الاقتصادية لحكومات تونس بعد الثورة، فقد فشلت حكومة الترويكا وحكومة الصيد في التخلص من تلك السياسة الرأسمالية، بل عملت الحكومات المتعاقبة بعد الثورة على ترسيخها كحل لمواجهة الأزمة الاقتصادية، فهي قد زادت من سياسات النيوليبرالية واقتصاد السوق والاقتراض الخارجي، فيما ظلت مشكلة التشغيل تتفاقم حتى وصلت إلى 15% مما أدى إلى مزيد من الاحتقان الجماهيري ضد الحكومة، وزادت الاحتجاجات والإضرابات في تونس. وغالبًا ما يجد اليسار دوره القيادي في فترات اندلاع الاحتجاجات والإضرابات العمالية والاقتصادية، وذلك من خلال حشد وتعبئة النقابات العمالية وهو ما يسيطر عليها يسار تونس خاصة الاتحاد العام للشغل التونسي والذي لعب دورًا حيويًّا في استقلال تونس، ومعارضة نظام ابن علي، ومن ثم كان له الدور الأعظم في ثورة الياسمين.يرجع موقف اليسار المعارض للسياسات الاقتصادية والاجتماعية مع نظام السبسي، نتيجة الاختلاف الأيديولوجي بينهما، فالنظام يميل إلى العلمانية الرأسمالية المتوحشة، فيما يميل اليسار إلى تعاظم دور الدولة في الحياة الاقتصادية، وهو ما دفع اليسار إلى رفض قانون المصالحة الوطنية والذي هدف إلى التصالح مع رجال الأعمال في عهد ابن علي، وكذلك دعم الحركة المطلبية الاقتصادية التي شهدتها البلاد في أعقاب الذكرى الخامسة للثورة.لم يقف اليسار فقط عند دعم الاحتجاجات أو الإضرابات الداعمة للحقوق الاقتصادية ومواجهة الفساد المالي، بل عمل على تقديم مشروع ميزانية لسنة 2015 موضحًا مصادر تمويل تلك الميزانية، كما أعلن عن برنامج اقتصادي وسياسي لواجهة أزمات التنمية والتشغيل بالبلاد.


خلاف حول مشاركة النهضة في الحكم

بالرغم من أن تصريحات القائد السبسي الأخيرة حملت نقدًا لكل من الإسلام السياسي واليسار في تونس، بدعم التطرف والإرهاب والوقوف خلف دعم الاحتجاجات الأخيرة في القصرين قاصدين بذلك إضعاف الدولة التونسية، إلا أن هناك الكثيرين ممّن يرون أن السبسي يدافع عن النهضة الإسلامية حليف نداء تونس في حكومة الصيد.نجح النظام السياسي التونسي في خلق شراكة سياسية مع تيار الإسلام المعتدل في تونس وهو حركة النهضة التونسية وذراعها السياسي حزب النهضة، والذي يشكل حاليًا الأغلبية في مجلس النواب التونسي بعد الأزمة السياسية التي أدت إلى انشقاق حزب الأغلبية نداء تونس بعد أن استقال اليساريون من النداء لاعتراضهما على سياسة توريث نجل قائد السبسي لقيادة الحزب ولشراكة النداء مع النهضة.يحمل خطاب القوى اليسارية التونسية لهجة حادة معارضة للنهضة حركة وحزبًا، فهي تتهم النهضة وقياداتها راشد الغنوشي وعلي العريض بالوقوف خلف اغتيال القيادي اليساري التونسي شكري بلعبيد، كما أن الاختلاف الأيديولوجي والعقائدي هو سبب الصراع بين اليسار وقوى الإسلام اليساري، كما أن موقف النهضة الداعم للسياسات الاقتصادية الرأسمالية التي تتخذها حكومة الصيد هو أحد أسباب رفض اليسار للنهضة.


اغتيال شكري بلعيد

مثّل اغتيال بلعيد في 6 فبراير 2013 أهم المتغيرات التي غيرت من شكل الحياة السياسية التونسية وسارعت من وتيرة إنهاء المرحلة الانتقالية.مثّل بلعيد القيادة الكاريزمية في قيادة القوى اليسارية المشتتة فقد عمل في أعقاب ثورة الياسمين على توحيد قوى اليسار، من خلال تحقيق المصالحة بين حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد بقيادته وحزب العمال الشيوعي التونسي والذي يقوده حمة الهمامي. كما عمل على التحالف مع القوميين من البعثيين والناصريين وهو ما نجح في تأسيسه من خلال الجبهة الشعبية في 7 أكتوبر 2012 وضمّت 13 حزبًا يساريًّا وقوميًّا . ولكن قل عدد الأحزاب المشتركة ضمن الجبهة بعد اغتياله ونتيجة لسياسات الهمامي المتفردة داخل الجبهة.اتسم موقف بلعيد حكومة الترويكا عامة وحركة النهضة خاصة بالموقف العقلاني، فبالرغم من معارضة سياسات الترويكا حمل خطابه استعداده للعمل المشترك بينهما إذا ما اقتضت المصلحة الوطنية ذلك. ولكن في أعقاب اغتياله اتهم اليسار الغنوشي والعريض بالوقوف خلف مقتل بلعيد بالرغم من أن السلطات الأمنية استطاعت بعد أسابيع من اغتياله تحديد هوية الجناة وكانوا ينتمون لتيار السلفية الجهادية.وفي الذكرى الثالثة لاغتياله اتهم اليساريون الحكومة التونسية بالتقصير في كشف المتورطين قرارًا وتخطيطًا وتمويلًا وتسترًا في عملية الاغتيال، رافعين شعارًا هو « شكون قتل بلعيد»، فيما حملت الذكرى في فعاليتها الدعوة إلى تحقيق حلم بلعيد بتوحد اليسار والقوميين من خلال الحزب اليساري الكبير، فقد أكد خلف بلعيد في حزب الديمقراطيين الموحد زياد لخضر « نحن نريد أن نتقدم خطوة إلى الأمام في اتجاه تلمس طريق الوحدة، وأنا أعتقد أن مسار توحيد اليسار هو صيرورة تُبنى على نقاش فكري وسياسي يؤدي إلى خلق هذا الكيان الذي سيكون دعامة للجبهة الشعبية وصمام الأمان لتونس واستقرارها».فيما عبر حمة الهمامي المتحدث باسم الجبهة الشعبية عن مخاوفه من مواجهة مصير نداء تونس في حالة الوحدة، حيث يقول «داخل الجبهة الشعبية هناك مساعٍ لتوحيد العائلة اليسارية والقومية ونحن لا نعارض التوحيد ولكن لا يجب أن تكون هذه الوحدة مجرد قضية عاطفية، وقد رأينا أن أحزابًا تكونت على أساس أنها جامعة لتيارات عديدة ومن ثم تنفجر وآخرها حركة نداء تونس، ونعرف جميعًا تجربة الحزب الديمقراطي التقدمي حين حاول بناء الحزب الجمهوري، فالمهم يجب أن تُبنى الوحدة على أسس مبدئية».


طموح اليسار في حكم تونس

الجبهة الشعبية قبل كل شيء لها حضور في البرلمان ونحن القوة السياسية الثالثة في البلاد، ونوابنا انتخبهم الشعب للدفاع عنه وعن مطالبه.

هكذا ذهب حمة الحمامي إلى بيان الدور السياسي لليسار التونسي خلال لقاء صحفي مع جريدة المصري اليوم المصرية، مؤكدًا على أن دور الجبهة في الوقت الحالي هو الضغط على حكومة الصيد والتي يعتبرها فاشلة في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة، وأكد أنه من السابق لأوانه الحديث عن انتخابات مبكرة.ومن منطلق تصريح الهمامي فإن الجبهة الشعبية تطرح نفسها بديلًا للحكم في تونس بعد أن فشل الإسلاميون والائتلاف الحكومي الرباعي في مواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بالبلاد، وهو ما يؤكد تصريح عمار عمروسية عضو مجلس النواب عن الجبهة الشعبية في قوله: «هذا الدور الجديد لا تطرحه رغبات ذاتية للجبهة، ولكن الفشل الذريع الذي منيت به الترويكا أولًا ثم فشل الائتلاف الرباعي ولا سيّما حركة النهضة التي فشلت في مرحلتين، فضلًا عن واقع الظروف الاقتصادية والاجتماعية وغيرها في تونس اليوم كلها تفيد بأنه قد حان الوقت ليكون اليسار وجبهته على رأس الحكم».ويمكن فهم رغبة اليسار في توحيد صفوفه مرة أخرى ضمن سياق هذا الصعود، لتجاوز الأزمات التي مر بها وتجاوز أزمة تشتته وضعف قاعدته الشعبية وغياب برنامج سياسي وأيديولوجي موحد، وهو الأمر الذي تسبب في تراجع دور اليسار السياسي خلال الخمسة أعوام الماضية، حيث أنه خسر مناصرة أحد قياداته حمة الهمامي في سباق رئاسة الجمهورية أمام السبسي والمرزوقي، كما أنه حل ثالثًا في انتخابات مجلس النواب بـ 15 مقعدًا فقط.ويمكننا فهم اتهامات السبسي لليسار في ضوء صعود دوره السياسي في أعقاب الأزمة السياسية التي مر بها النداء والتي ستعصف بالدور السياسي المستقبلي للحزب، مما يدفع باليسار نحو إمكانيته لعب دور أكثر حيوية في قيادية تونس في المرحلة المقبلة.ويبقى أن اليسار الطامح للحكم في تونس تواجهه أزمات كثيرة منها الهيكلية الحزبية و افتقاده القاعدة الجماهيرية العريضة التي يمكن أن تمثل لها الأساس في حكم تونس، بالإضافة إلى تشتت الأحزاب والقوى اليسارية والتي يفقدها كثيرًا من المصداقية لدى القاعدة الجماهيرية، ناهيك عن غياب برنامج سياسي حقيقي قادر على إقناع الجماهير بانتخابه في المرة المقبلة.وفي نهاية المطاف فإن صعود اليسار التونسي يأتي ضمن تحركات القوى السياسية صعودًا وانخفاضًا في سلم الحياة السياسية التونسية، وهو ما يضيف للعملية الديمقراطية.