هي مرحلة جديدة إذن من تاريخ المنطقة، بطلها القيصر الروسي الجديد، فلاديمير بوتين؛ الرجل الذي عزز من نفوذه تدريجيًا في الشرق الأوسط مستفيدًا من التراجع الأمريكي، إبان حكم الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما.

أمس الخميس، التاسع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول،خرج الرئيس بوتين بصحبة وزيريه للدفاع، سيرغي شويغو وللخارجية، سيرغي لافروف، معلنًا التوصل مع فصائل المعارضة السورية لاتفاق بوقف القتال على كامل الأراضي السورية.

حمل الاتفاق -المعلن عنه- رسائل عدّة، أهمها أن الولايات المتحدة وحلفائها الأوربيين باتوا خارج المستقبل السوري، وذلك بعد أن انخرطت تركيا في التفاهم مع النظام الروسي بعد محاولة انقلاب يوليو/تموز الفاشلة.

نستطلع في سياق التقرير أبرز الرسائل التي حملها الاتفاق، والأسباب التي تجعله أفضل اتفاق يمكن التعويل عليه منذ اندلاع الأزمة، وكذلك نسلط الضوء على أبرز التحديات في طريقه!


سكة السلامة يا «أمريكا»

http://gty.im/503264094

يرمي الاتفاق المعلن عنه أول أمس الخميس إلى حقيقة أن الولايات المتحدة باتت خارج الحل السوري. بتتبع المواقف الأمريكية مؤخرًا حيال المنطقة، سنجد أن ليلة الـ16 من يوليو/تموز شكلت نقطة تحول كبيرة، إزاء المشهد الإقليمي، من جراء دعم الولايات المتحدة لمحاولة الانقلاب الفاشلة على السلطة الشرعية في تركيا، وهو الأمر الذي جعل الحليف التركي يحلّق بعيدًا في انخراطه مع الحليف الروسي، إلى حد اتهام الرئيس التركي مؤخرًا للجانب الأمريكي بدعم الإرهاب.

ظهر فلاديمير بوتين في هذا المشهد، بمظهر الصديق الذي لا يخذل صديقه، رغم ما كان بينهما إبان حادث إسقاط الطائرة الروسية، أعلن بوتين صراحةً دعمه للحكومة التركية، وتبع ذلك اعتذار من أردوغان عن حادثة إسقاط الطائرة، وبدأت العلاقة تأخذ منحنى أكثر دفئًا من ذي قبل.

واحدة من المشكلات التي كانت حاضرة بين الطرفين، هي سوريا، وكان لزامًا على كليهما لإثبات حسن النية، أن يتعاونا معًا، لكن كيف لتركيا أن تكون طرفًا فاعلًا في المعادلة؟

الحل إذن أن تدخل تركيا إلى الفضاء السوري، وهو ما كانت تركيا تطمح إليه، من خلال مجموعة من الفصائل المعارضة التي لطالما كانت تدعمها، وبذلك تكون حاضرةً على الأرض من جهة، ومن جهة أخرى تقدّم للعالم نموذجًا من المعارضة يمكن التعويل عليه في المستقبل، من خلال المفاوضات.

استجاب عدد من الفصائل لدعوة تركيا، وتشكلت نواة للمعارضة المعتدلة تحت الراية التركية، بدأت زحفها في الـ24 من أغسطس/آب الماضي، بدأت رحلتها من «جرابلس» ثم الشريط المحاذي لها، انتهاء بمدينة الباب التي لا تزال المعارك على أعتابها مشتعلة.

اقرأ أيضًا:درع الفرات: قراءة شاملة من جرابلس إلى الباب

الولايات المتحدة، حاولت امتصاص التحرك التركي، المتجه لقتال داعش وقوات سوريا الديموقراطية (التي تدعمها أمريكا)، وعززت الغطاء الجوي للقوات التركية والفصائل الرديفة، في المرحلتين الأولى والثانية من درع الفرات، و أعلن جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي – الذي كان في زيارة لأنقرة لحظة البدء في عملية درع الفرات – عن دعم بلاده للتحركات، وتشديده على ضرورة تراجع الأكراد شرقي الفرات، لكن لاحقًا أوقفت الولايات المتحدة الدعم العسكري لقوات درع الفرات في المراحلة الثالثة والأصعب، في معركة الباب. حيث أعلن جون دوريان، المتحدث العسكري الأمريكي في العراق وسوريا، أن التحالف الدولي لا يدعم العملية الحالية التي تقودها القوات التركية، مع فصائل سورية معارضة، على التنظيم في مدينة الباب شمالي سوريا.

سعت روسيا لتوطين تركيا نسبيًا في سوريا، لتكون حاضرة في المفاوضات، أملًا في خطب ودها، وهو ما يشكل تهديدًا للقارة العجوز، إذ لم تعد تركيا رجل أوروبا المريض. وبالفعل جرت مفاوضات ثلاثية في موسكو هذا الشهر، بين كل من روسيا وتركيا وإيران، توّجت باتفاق أمس، في انتظار مرحلة جديدة من المفاوضات، منتظر أن تُعقد الشهر المقبل في أستانة (عاصمة كازاخستان) لحل الأزمة السورية.


الآمال المعقودة على الاتفاق

يعوّل كثيرٌ من المتابعين على اتفاق وقف إطلاق النار الشامل، الذي أُعلن عنه أول أمس الخميس، أملًا في إنقاذ من نجا من السوريين من المحارق المتتابعة، والتي كان آخرها محرقة حلب.

يقودهم لهذا التفاؤل عدة نقاط، أولها أن الضامن لنظام الأسد هو الرئيس بوتين، والذي تعهد بضبط حلفائه، وهو ما أكده أسامة أبوزيد، المستشار القانوني للجيش الحر، وعضو وفد التفاوض. النقطة الثانية، تكمن في إعلان النظام قبوله للهدنة وذهابه للمفاوضات في كازاخستان، على لسان وزير خارجيته، وليد المعلم، في مداخلة مع التليفيزيون الرسمي، نقلتها وكالة الأنباء السورية (سانا).

كما أعلن الجيش السوري النظامي في بيان له، وقف إطلاق النار منتصف ليل الجمعة، ملتزمًا بالاتفاق، ومشددًا على أن الاتفاق لم يشمل تنظيم الدولة أو جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا).

جاء الاتفاق كذلك مكتمل الأركان، على خلاف اتفاقات سابقة، إذ شمل وثيقةً وقعها النظام وفصائل المعارضة تقضي بوقف القتال، ووثيقةً ثانية تتضمن إجراءات لمراقبة الهدنة، وثالثة تُعد للمفاوضات المرتقبة، لإحلال عملية السلام. ويمكن للقارئ الإطلاع على بنود الاتفاق من خلال الرابط، حسبما أعلنت قناة TRT التركية.


فتح الشام وإيران: أبرز التحديات في طريق الاتفاق

(أسامة أبوزيد، أحد أفراد وفد المعارضة-العربية)

وأكد أبوزيد، «طالبنا روسيا بخروج الميليشيات الإيرانية واللبنانية والعراقية من سوريا». وتأتي تصريحات أبوزيد لتلقي الضوء على الخلاف ما بين روسيا وإيران في طريقة إدارة الأزمة، وأولويات كلا الطرفين. وترجمته فيما بعد خروقات حزب الله أمس الجمعة، بشنّه هجومًا بريًا على وادي بردي بريف دمشق.

و قال الجيش السوري الحر، الجمعة، إن استمرار الخروقات في وادي بردى والغوطة يضع الهدنة في خطر، لافتًا إلى أن الخروقات تتم في المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات الإيرانية، وأن إيران ليست راضية عن الهدنة ومن مصلحتها إفشالها.

العقبة الثانية تكمن في حركة فتح الشام (جبهة النصر سابقًا) إذ لا يزال الخلاف بشأن تضمينها في إطار الهدنة أمرًا بالغ الحساسية، وعلى غير المتوقع – وبينما أكدت روسيا استثناء جبهة فتح الشام من اتفاق وقف اطلاق النار – قال محمد الشامي، القيادي في الجيش السوري الحر، إن خلافًا لا يزال يدور في الكواليس حول إدماج الجماعة من عدمه. و كشف الشامي، لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ)، أن النظام السوري طلب إدماج فتح الشام في اتفاق وقف إطلاق النار، حتى يضمن حيادها ويتفرغ لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، خصوصًا في مدينة تدمر. وكان المندوب الروسي لدى مجلس الأمن أكّد للصحفيين أمس الجمعة أن الاتفاقية لا تشمل جبهة فتح الشام.

ومن ناحيتها، أكدت تركيا أن الاتفاق لا يشمل الفصائل المصنفة: إرهابية، أما أبوزيد فصرح في مؤتمر صحفي، عقده من أنقرة، أن الاتفاق يشمل كل الفصائل على الأرض دون استثناء، وبين هذا وذاك يظل مصير الجبهة -المتركزة في إدلب- مرهونًا بالمداولات، التي ما زالت مستمرة بين تركيا وحلفائها من المعاضة من جهة وروسيا وحليفها بشار من الجهة الثانية.

عقبة ثالثة تطفو على السطح، وهي أزمة أحرار الشام، التي أعلن المتحدث باسمها في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، أن لدى الحركة تحفظات على الاتفاق، وأنها لم توقع عليه.

لكن، كما أكد بوتين خلال إعلانه عن الاتفاق، أن الاتفاق يبقى هشًّا ما لم تتم رعايته من قِبل الفاعلين الأقوى، وهو ما أكدت عليه أنقرة والفصائل السورية لاحقًا.


ردود الفعل الدولية

رحّب مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا، دي ميستورا، بالاتفاق وقال: «إنه يأمل أن يسهم الاتفاق في إنقاذ أرواح المدنيين وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية ويمهد لمحادثات بناءة في أستانة». رحّبت واشنطن كذلك، واعتبرته إنجازًا في مسيرة الحل. و أعرب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية عن أمل بلاده في أن تلتزم كافة الأطراف بالهدنة.

كما رحبت كل من إيران، ومصر والأردن بالاتفاق. وأكد وزير الخارجية المصري، سامح شكري، على الأهمية البالغة لتطوير رؤية مشتركة للقوى الوطنية السورية للخروج من الازمة السياسية الراهنة في البلاد.

جاءت هذه التصريحات لدى استقبال شكري، الخميس، أحمد الجربا، رئيس تيار الغد السوري والقيادي بمجموعة مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية، حسب ما أعلنه أحمد أبوزيد، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية.


ختام متفائل

مفاوضو روسيا تفاوضوا معنا كضامن للنظام السوري، ولم نجتمع مطلقًا بأي ممثل عن النظام أو إيران

الهدنة هذه المرة تمتاز بضمانة تركية روسية، وكلاهما حريص في ظل الدفء الثنائي أن يكون جديرًا بثقة الثاني، وكلاهما كذلك له وسائل ضغط على الوكلاء على الأرض. خروج الولايات المتحدة من المعادلة، وحليفها على الأرض، الأكراد، من المؤكد أنه سيُعقد الأمور، وثمة قلائل ستُثار في وجه الاتفاق، لكنه كذلك الضمانة الوحيدة لنجاح الاتفاقية، إذ لن تلتزم تركيا طالما كان الأكراد ضمن الاتفاق، لاسيما وأنها تعتبرهم إرهابيين، يهددون أمنها القومي.

أزمة أحرار الشام، ليست في كلها شر، إذ أبدت الحركة تحفظها فقط، ولم تنسل من الاتفاق برمته، وفيه إشارة لإمكانية عودتها للطاولة بقرب موعد مفاوضات أستانة. جدير بالذكر أيضًا أن الاتفاق أبرز معادلة سورية جديدة، طرف المعارضة فيها فصائل معتدلة، لها ثقل على الأرض، يمكنها فعلًا وقف إطلاق النار على أغلب الأراضي السورية، ولم تكن ممثلة في مفاوضات جنيف وفيينا، وبحسب المندوب الروسي لدى مجلس الأمن فإن الفصائل الموقعة على الاتفاقية لها على الأرض 60 ألف مقاتل.

وينتظر في الأيام المقبلة، قبل مفاوضات أستانة أن تتفرغ القوات الروسية لانتزاع مدينة تدمر الأثرية من قبضة تنظيم الدولة، بينما تتفرغ تركيا والفصائل لتحرير مدينة «الباب» شمال شرقي حلب.

ذهبت روسيا بالاتفاقية الروسية-التركية لمجلس الأمن على أمل التصويت عليها في جلسة تُعقد اليوم السبت، 31 ديسمبر/كانون الأول، وكانت ثلاثة ملاحظات من الدول الغربية على الاتفاق، هي؛ «إضافة فقرة تنص على إدخال المساعدات إلى المناطق المحاصرة، وأن تجري مفاوضات السلام السورية في أستانة تحت رعاية الأمم المتحدة، وإزالة كلمة (دعم) مجلس الأمن للاتفاقيات الموقعة بين روسيا وتركيا، ووضع مصطلحات تدل على الاطلاع والترحيب بدلًا منها». وافقت روسيا على التعديلين الأول والثاني فيما لم تستجب للثالث وأصرت على دعم مجلس الأمن للاتفاقية الثنائية، في انتظار جلسة التصويت!