عشرون عامًا مرت على بداية الألفية، اختلف النقاد ومحبو السينما على مكانة هذه الأعوام وما قدمتها من أفلام، لكن الأمر بالنسبة لي ولمن هم في عمري ربما يكتسب مكانة خاصة، لأن هذه الأعوام هي التي بدأنا فيها مشاهدة الأفلام والتعلق بعالمها السحري، ولأني أحب القوائم وأجد فيها متنفسًا للنقاش، وبعيدًا عن إشكالية الأعظم، هذه قائمة بعشر أفلام غيَّرت حياتي في العشرين عامًا الماضية. 

10. The Irishman: في وداعية أفلام العصابات

لطالما برع سكورسيزي في تصوير أفلام الجريمة والعالم السفلي، كان آخرها Casino رفقة دينيرو في منتصف التسعينيات، وبعده بعشرة أعوام تقريبًا كان The Departed وحاز به الأوسكار الوحيدة في مسيرته.

في (الأيرلندي) يجتمع سكورسيزي مع ثلاثة من الحرس القديم في العصر الذهبي، دي نيرو وآل باتشينو وجوي بيشي، الأربعة تجاوزوا السبعين عامًا، سكورسيزي في مدة الفيلم يتتبع الأحداث الأكبر من خلال الوقائع التي من الممكن ألا يهتم لها أحد، ومع مرور الوقت وتتابع المشاهدات يبدو الفيلم مع مشاعر أكثر هدوءًا كأنه فرصة للتفكير في الماضي، والتأمل في مرور الزمن وقيمة الصمت حين يشعر المرء بالندم على ما فعله في السابق، وكأن سكورسيزي المعروف بهواجسه الدينية يصنع فيلمًا تأبينيًّا للصنف الذي طالما برع في اختراقه، يدخر أعوامه السينمائية الأربعين ويقدمها هنا، ويحاسب نفسه عن طريق أبطاله ويتساءل، لماذا كان كل هذا؟! 

9. Pan’s Labyrinth: بين الحياة والموت

طفلة صغيرة تدعى (أوفيليا) تعيش في زمن النظام الفاشي الإسباني في منتصف أربعينيات القرن الماضي، تضطر أوفيليا إلى السفر مع أمها والذهاب إلى قرية مع (فيدال) زوج الأم الضابط في النظام الإسباني، والذي يقضي وقته في مطاردة الثوار الذين يهاجمون من الغابات، إلا أن الطفلة وفي وقت وجودها في القرية تجد طريقها للوصول إلى عالم فانتازي يبقيها بعيدة تمامًا عن واقعها المر والقاسي لطفلة في مثل عمرها. تدخل (أوفيليا) إلى متاهة بالقرب من معسكر الفاشيين، وتتواصل مع وحوش أسطورية تخبرها أنها ابنة إله القمر ووالدها في انتظارها، وعليها تنفيذ ثلاث مهمات، تنفذ منها اثنتين ويمتنع الوحش عن إخبارها بالمهمة الثالثة.

بنى (دل تورو) عالمين في الفيلم الذي كتب قصته وأخرجه، عالمًا فوق الأرض وعالمًا تحتها، عالمًا تحت الأرض مظلمًا مليئًا بالوحوش، لكن مع تقدم الأحداث يتبين أن الوحش الحقيقي هو الإنسان في استبداده وقمعه وعنفه، وعلى الرغم من البعد السياسي الواضح في الفيلم، إلا أنه بكل شاعرية ممكنة يبحث في الخطوط الهلامية التي تفصل بين الحياة والموت وكيف يمكن أن يحقق المرء الخلود.

8. V for Vendetta: الثورة حين تصبح شعرًا

(V) شخص غامض مقنع، يسعى إلى تغيير الواقع السياسي في بلده، وفي الوقت نفسه يسعى للثأر، يرتدي طوال الفيلم قناع الثائر البريطاني جاي فوكس الذي حاول إسقاط نظام الملك جيمس الأول، يحركه ثأر شخصي جراء تحويله الى مسخ نتيجة لتجارب مُحرمة، وفي الوقت نفسه يسعى لإسقاط النظام السياسي في الدولة من خلال إثارة الشعب لاتخاذ موقف ثوري من النظام وفساده، يعرض الفيلم قصة انتقامه من الحكومة في زمن ضاع فيه الوعي والتفكير. الفيلم مأخوذ من مجموعة قصصية مصورة صدرت فى أواخر الثمانينيات بنفس العنوان للكاتب آلان مور.

فيلم (جيمس ماكتيج) هو رسالة واضحة ضد القمع والاستبداد وديكتاتورية الحكام، (V) هو الشخص الوحيد الذي تحرر من مخاوفه وكسر القيود التي تمنع شعبه من اكتساب الحرية، وعلى الرغم من وضوح هذه الرسالة إلا أن (ماكتيج) يجعل فيلمه نابضًا وشاعريًّا وممتعًا طوال مدة عرضه، كلما مرَّت السنوات وشاهدت مثل هذه النوعية من الأفلام، كنت أتظاهر أحيانًا بالجمود العاطفي وأشاهد أعمالًا منذ بدايات السينما وأحاول إقناع نفسي بالنضج، وعندما أصل لفيلم (ماكتيج) هذا، أفضل ألا أنضج.

7. Boyhood: الحياة على شاشة السينما

منذ اللحظات الأولى لها، كانت السينما تبحث عن المعايشة، أن يصبح المُشاهد جزءًا من التجربة، يحزن لحزن أبطال الفيلم ويشعر بالخوف مثلهم ويسعد في لحظات انتصارهم، تمنح السينما المشاهد حكاية، تضع العقبات ثم الحلول، وكل هذا يتم بالشكل المكثف الذي يسمح بأن يظهر على الشاشة، في فيلم لينكليتر الذي أثار جدلًا واسعًا وحقق نجاحًا نقديًّا نادر التكرار، لا يوجد كل هذا، لينكليتر لا يقبض على جوهر السينما ويقدمه إلى الشاشة، لكنه يقدم الحياة نفسها ويضعها على الشاشة، يخلق حالة من التماهي بين شخصياته السينمائية وممثليه، ويلغي الفواصل بين الفيلم والحياة.

الفيلم الذي تم تصويره على مدى 12 عامًا لا يستمد قيمته من تصويره على مدى كل هذه السنوات، وإنما يجعل الزمن في دور البطولة، ال 12 عامًا ضرورة حتمية في بناء الفيلم الذي يبحث خلف تفاصيل الحياة واللحظات التي تشعر بأنك وحدك من مر بها، لكن الحقيقة أن الجميع مر بها لكن في إطارها الكبير. أحببت هذا الفيلم لأني أحب السينما.

6. La La Land: دوامة الاختيارات

ظهر العرض الدعائي لفيلم (داميان تشازيل) هذا في عام 2016، كان الجميع مترقبًا، لم أكن متحمسًا لهذه الدرجة، وحصيلة غياب حماسي كانت ثلاث مشاهدات للفيلم في صالة السينما في شهر واحد!

في حكاية الفيلم يضعنا (تشازيل) رفقة شخصيتيه الرئيسيتين، (سباستيان) عازف البيانو الذي يحلم بفرصة لافتتاح نادٍ للجاز، والممثلة (ميا) التي تبحث عن فرصة لتصبح في واجهة هوليوود، تقودهما الأحداث ليقعا في علاقة حب ليحقق كل منهما حلمه. 

بعيدًا عن التحية التي يقدمها الفيلم لكلاسيكيات السينما الموسيقية، أكثر ما أقدره فيه هو الإطار الذي يضع فيه شخصياته، ليس من الصعب أن يلمس المشاهد مدى طموح شخصيتيه، وهذا الطموح يطغى على العلاقة الرومانسية التي جمعتهما، تلك العلاقة التي قدمها (تشازيل) بصورة نموذجية، ميا وسيب جمعتهما المشاركة قبل أن يجمعهما الحب، كل منهما سند للآخر، يستمع إليه ويشاركه جنونه ويسير معه في طريقه ونتيجة لذلك يقعان في الحب، الحب في هذا الفيلم نتيجة وليس سببًا، الأمر الذي جعل لحظة الفراق في النهاية أقل قسوة ومرارة، في نهاية الرحلة السحرية يصل كل منهما إلى مبتغاه لكن رفقة شركاء آخرين، كلاهما يتقبل خسارته للآخر في مقابل تحقيق الحلم والشغف، لتجعل هذه الخاتمة من الفيلم شيئًا للذكرى، وتجعلني أشاهده ثلاث مرات في السينما في شهر واحد. 

5. A Separation: الحقيقة لا تهم

(نادر) و(سيمين) زوجان من الطبقة المتوسطة في طهران، (سيمين) تريد مغادرة البلاد إلى دولة أخرى بحثًا عن حياة كريمة، حصلت على عقد عمل وبدأت في انتظار الحلم، لكن زوجها (نادر) يرفض السفر ويرغب في البقاء في بلده لرعاية والده الكهل وتربية ابنته تربية سليمة، وهذا ما يجعل (سيمين) تلجأ إلى المحكمة.

هذا واحد من أعظم النصوص الأصلية في الألفية، (فرهادي) يؤسس لشخصياته الرئيسية الأربعة (باستثناء ابنة نادر) عن طريق رابط واحد يجمعهم من الخارج، لكن داخليًّا هذا الرابط أو المحور هو سبب الخلاف والعقدة الحقيقية، شخصيات الفيلم جميعها تتشابه في أنها ليست سعيدة فعلًا، لكنها تجاهد في محاولة إخفاء هذا الأمر وإظهار خلاف ذلك كنوع من الاعتداد بالنفس والكبرياء.

كل المفاصل المهمة في النص تتحوَّل بسبب هذا الأمر، الكبرياء يوحدهم من الخارج لكنه في الداخل هو مركز الإعصار الحقيقي، وخلاف ذلك شخصيات الفيلم حقيقية وحيوية، قد تجدها في أي مجتمع، وعلى الجانب الآخر لا ينغمس (فرهادي) في قضايا سياسية لن تضيف له أي شيء، يلعب لعبة شد وجذب عاطفية تستمر حتى بعد نهاية الفيلم، جميع شخصيات الفيلم لديها حجة قوية وصلابة في الرأي، ونص الفيلم نفسه يحمل مساحة هائلة جدًّا تجاه استيعاب البشر وتفهم تصرفاتهم، حكاية بسيطة يتراوح معها تعاطف المشاهد في كل مرحلة، وصولًا لنهاية مفتوحة لا تحتوي تحاملًا على أحد، لأنها في الأساس معركة بين شخصيات جيدة، معركة طرفاها لم يكونوا أشرارًا يومًا.

4. The Wrestler: أن تكون شيئًا!

الفيلم الرابع في مسيرة دارين أرنوفسكي يحكي فيه قصة المصارع (راندي) الذي ذاع صيته في الثمانينيات، قبل أن يتجاوزه الزمن ويتقدم به العمر ويلحق به المرض وينصحه طبيبه باعتزال المصارعة للأبد، يعيش (راندي) بلا أصدقاء ويضطر للعمل ساعات إضافية، ووسط كل هذا لا يستطيع أن يستوعب مقدار الانحدار الذي أصاب حياته، يعيش على ماضيه حين كان (شيئًا)، مقاتل منزله في الحلبة، ويستقي قوته من حماسة الجمهور وتشجيعهم له على مدى أعوام طويلة.

الآن (راندي) يدفع الثمن، يصبح فردًا عاديًّا يلفظ جسده الأنفاس الأخيرة، فيقرر البحث عن حياة، يعود إلى ابنته التي هجرها ويحاول أن يعيش الحب حتى يشعر أنه (شيء)، لكنه يفشل في المحاولتين، يجد (راندي) نفسه في القاع مجددًا، ويتذكر أن حياته الحقيقية على الحلبة، لم يصبح (شيئًا) إلا هناك، يقرر العودة لها في قرار مجنون، يخبر جمهوره “أنتم عائلتي” ويحتضر بينهم.

فيلم عن ارتباطنا بمكان وحيد حين لا يهتم العالم بأمرنا، عن زيف الشهرة وما تسلبه من الإنسان مقابل ما تمنحه، فيلم عن بحثنا لمعنى حقيقي وقيمة مفقودة في حياتنا، وعن ذات لم تجد نفسها إلا بين صيحات المُتفرجين.

3. Big Fish: أكذب كي أرى الحياة جميلة

إدوارد بلوم عجوز سبعيني يحتضر، أمضى حياته يسرد الكثير من القصص لا يعلم أحد مدى صدقها، لكن على الرغم من ذلك يحبون الاستماع إليه باستثناء ابنه (ويل) الذي لا يحادث والده لسنوات، لكن حين يعلم بمرضه وتأخر حالته يقرر العودة إليه.

دائمًا ما أتذكر مشاهدتي الأولى لهذا الفيلم، كنت أشاهد الأفلام للمتعة أو للتسلية أو لملء أوقات الفراغ، لم أشعر بتلك النشوة قبل أن أشاهد فيلم (تيم بيرتون) هذا، مشاهدتي لهذا الفيلم كانت البداية والنقطة المفصلية في تحول علاقتي بالسينما. كانت الأفلام بالنسبة لي إما قصة حقيقية أو حكاية من خيال صانع الفيلم، نقرر نحن أنصدقها أم لا، لكن الحكاية هنا تبدأ بالإنكار، ثم تمر بالتشكيك والبحث، وفي النهاية ندرك أنها حتمًا خيالية. لكن تصديقها سيجعلنا نحتفظ بصورة أكثر جمالية، حكايا إدوارد بلوم هي استعارات عن السينما نفسها، تعكس أحلامنا وتصوراتنا عن الحب والعائلة في فيلم يمتلك قلبًا من بدايته وحتى النهاية.

2. Oslo, August 31st: يأس المحاولة الأخيرة

الفيلم الثاني في مسيرة النرويجي (يواكيم ترييه) يحكي قصة الشاب (أندرش) ابن الرابعة والثلاثين الذي بذل أقصى جهده للإقلاع عن المخدرات واقترب وقت خروجه من مركز التأهيل بعد عشرة أشهر قضاها داخله، يقضي يومًا في أوسلو ويبحث عما تبقى له.

يلتقي (أندرش) صديقه القديم (توماس) الذي أصبح رب أسرة وتعافى من الإدمان، في الوقت الذي يفشل فيه (أندرش) في مقابلة تتعلق بوظيفة محرر في مجلة أدبية، شقيقته ترفض لقاءه وصديقته لا ترد عليه، يشعر (أندرش) أن المدينة تلفظه، وتصبح آماله في استعادة حياته أضعف من أي وقت مضى.

ليس من الضروري أن يكون المرء مدمنًا سابقًا حتى يشعر بمأساة (أندرش) وكيف يرى المستقبل أمامه، كل المشاعر في داخله تتسلل إلى المُشاهد كالماء، كل شيء في مدينته يذكره بأن الجميع قد غادر وبقى هو وحده، شوارع أوسلو لم تعد تعرفه وذاكرته تحمل عبء السنوات الماضية وحياته أصبحت بلا معنى، حينها يقرر (أندرش) أن يتوقف عن ترويض رغبته في إنهاء حياته.

1. Million Dollar Baby: كيف للموت أن يكون جميلًا؟

في الفيلم الذي منحه جائزتي أوسكار أفضل فيلم ومخرج، يحكي (كلينت إيستوود) قصة الفتاة (ماجي) نادلة المطعم التي ترى في الملاكمة حلمًا يستحق أن تسعى خلفه، ترى أنها ستصبح بطلة رغم خبرتها البسيطة وتقدمها في العمر، فقط إذا دربها (فرانكي)، هذا العجوز الوحيد الذي ينتظر رد ابنته على الرسائل التي يرسلها وتعود إليه من جديد.

  • هل ستتركني؟
  • أبدًا.

(ماجي) و (فرانكي) يعانيان من مرارة الفقدان والوحدة، هذه المرارة التي تصبح الدافع في بناء العلاقة بينهما، (ماجي) تجد فيه السند والأب، و(فرانكي) يجد فيها تعويضًا عن ابنته التي لم يرها منذ سنوات طويلة، يساعد (فرانكي) الفتاة حتى تصل إلى المجد، يعطيها الحلم المساحة، إلى أن تتلقى ضربة تودي بها إلى الشلل التام، الحب الذي يحمله (فرانكي) في قلبه تجاه (ماجي) يدفعه لقتلها حتى تستريح إلى الأبد، وهو الذي كان دومًا ما ينصح المتدربين أن يحموا أنفسهم قبل أي شيء.

هي تريد الموت وأنا أريد إبقائها حية معي، وأقسم إنني أرتكب جرمًا بفعلي هذا، فأنا أقتلها إذا أبقيتها حية.

يهجر (فرانكي) عالمه بعد أن قام بحماية (ماجي)، يترك العالم الصاخب ويجنح إلى السكون. واحد من أعذب وأرق إنتاجات السينما عبر تاريخها، وأقرب أفلام الألفية لقلبي.