تُعرَّف الرواية منذ نشأتها الأوروبية الحديثة على أنها النوع الأدبي الأكثر ارتباطًا بالمدينة، وبالمجتمعات المستقرة البرجوازية بصفةٍ عامة، لم يكن ذلك لنشأتها هناك فحسب، بل لما تمنحه الرواية من صفاتٍ في الشكل والبناء يميل في كتابته وتلقيه إلى ذلك الاستقرار والهدوء الذي تمنحه المدينة والعيش فيها مهما كان صاخبًا، في مقابل عالمٍ آخر يمتلئ بالوحشة والأساطير والغرابة هو عالم البادية والصحراء، الذي كان للغناء والشعر فيه الصوت الأقوى دائمًا، في محاولات الإنسان المبكرة للتغلب على قسوة هذا العالم ووحشيته!

ولا شك أن تطور فن الرواية وانتقالها إلى أكثر من فكرةٍ ومجال قد دفع كتَّابها بالضرورة إلى اختيار مواضيع جديدة، وبيئاتٍ مختلفة للتعبير عنها، وهناك في الصحراء ورغم وعورة ذلك العالم وقسوته، وجدوا ما يمكن أن يعبرون عنه، ويطلقون فيه العنان لخيالهم للحكاية بكل ما يمكن أن تحويه من أساطير وخرافات وصراعات وحروب، واستطاعوا أن يعبروا عن عالم الصحراء بشكلٍ كبير، وتنوعت في ذلك محاولاتهم وتجاربهم، ويبدو لمن يطلع على النتاج الروائي مؤخرًا أن هناك عودة لذلك العالم من جديد، وجاذبية خاصة يجدها كتابه في إعادة استكشافه والتطرق إليه على نحو ما كتب السابقون.

 عرفت الصحراء عددًا من الروائيين وعرفوها، واستطاعوا أن يسبروا أغوارها ويغوصوا في رمالها ويخرجوا منها بكنوزٍ ودرر، بل سعى بعضهم إلى أن يعكس عليها، تلك الصحراء الجرداء، فلسفاته ورؤيته للعالم والحياة، هنا إطلالة على عدد من هذه الروايات وما فعله أصحابها فيها:

1. فساد الأمكنة لصبري موسى

فساد الأمكنة صبري موسى
رواية «فساد الأمكنة» لصبري موسى

لا تذكر الصحراء ورواية الصحراء إلا ويأتي على الفور ذكر الرواية الرائدة في هذا المضمار، رواية (فساد الأمكنة) للروائي المصري الراحل صبري موسى، بدأ كتابتها في أواخر الستينيات ونشرها عام 1970.  استطاع فيها أن يغوص في أعماق (صحراء جبل الدرهيب) بعد أن قضى هناك أيامًا ليخرج لنا برحلة صحراوية موحشة ولكنها شيقة في الوقت نفسه، تجعل القارئ يتساءل حول معانيها طويلاً متأثرًا بحياة بطلها (نيكولا) الهارب إلى الصحراء ومحاولاته لاستكشاف ذاته، كل ذلك بسردٍ شيق وبلغةٍ خاصة، قد لا يتفاعل معها القارئ وينجذب إليها في القراءة الأولى، ولعل ما فعله صبري موسى في هذه الرواية قد أصبح سمة وعلامة أساسية في روايات الصحراء، فلا يمكن لكاتبٍ أو روائي بعده أن يخوض هذا العالم بدون استخدام تلك اللغة الخاصة التي تختلف من كاتبٍ لآخر، ولكن  يبقى لها خصوصيتها وثراؤها.

2. النهايات لعبد الرحمن منيف

النهايات عبد الرحمن منيف
رواية «النهايات» لعبد الرحمن منيف

رغم ذيوع صيته بعد خماسية مدن الملح الشهيرة التي تناولت تحوَّل الجزيرة العربية إلى مدن كبيرة وما صاحب ذلك من تغيرات، إلا أنه كان قد رصد الصحراء والبادية رصدًا دقيقًا وبسيطًا في آنٍ معًا بروايته القصيرة الشيقة (النهايات) والتي صدرت في 1977، هنا نجد أنفسنا مع قرية صغيرة هي (الطيبة) والبطل عسَّاف الذي يحاول أن ينقذ ما تبقى من الحياة في تلك القرية في عام من أعوام الجفاف، ومن خلال رصد حي للحياة بين الحيوانات البرية والناس هناك يقف عبد الرحمن منيف على عددٍ من الحقائق الوجودية المرتبطة بمصير الإنسان وصراعه مع الطبيعة وكيف تؤثر فيه البيئة وتشكل عالمه.

3. التبر لإبراهيم الكوني

 التبر إبراهيم الكوني
رواية «التبر» لإبراهيم الكوني

عُرف الروائي الليبي الكبير إبراهيم الكوني برواية الصحراء وعرفت به، ربما كان لأصوله ونشأته بين الطوارق عاملاً كبيرًا في تشربه لتلك البيئة وحمله خصائصها، وقدرته البالغة على النفاذ إلى تفاصيلها الدقيقة، كتب عن الصحراء وفيها أكثر من رواية، تعد رباعية الخسوف المنشورة عام 1989 بدايته الأساسية التي لفتت إليه الأنظار بقوة، وتبقى رواية (التبر) أحد أهم أعماله الروائية التي استطاع أن يضع فيها الحيوان (المهر الأبلق) بطلاً للرواية للمرة الأولى، وبنى علاقة خاصة بين الإنسان والحيوان في الصحراء، وكشف من هذه الرواية مهارته في تطويع الصحراء وعالمها إلى فلسفته الخاصة التي تناولت مفاهيم الخطيئة والحرية بشكلٍ رمزي.

4. الخباء لميرال الطحاوي

الخباء لميرال الطحاوي
رواية «الخباء» لميرال الطحاوي

في أواخر 1996 استعادت الروائية المصرية الشابة ميرال الطحاوي عالم الصحراء، بعد أن خبرت البادية وعاشت فيها طويلاً لتلفت الأنظار بشدة بروايتها (الخباء) التي عكست فيها ربما لأول مرة صوت المرأة في عالم الصحراء، حيث تأتي «فاطمة» من ذلك العالم شديد الوعورة بعقليةٍ متمردة مختلفة عن النساء من حولها، واستاطاعت أن تنقل من خلالها الكثير من عالم الصحراء والبادية بما فيه من خصوصية، كما عكست عالم المرأة بين بطلة الرواية فاطمة وجدتها وغيرهن من النساء. وكان ملحوظًا على الرواية أنها تأخذ الكثير من سمات البيئة الصحراوية في لغتها ومفرداتها بل شاعريتها في بعض الأحيان.

5. خاتم لرجاء عالم

 خاتم لرجاء عالم
رواية «خاتم» لرجاء عالم

من السعودية جاءت لنا الروائية رجاء عالم بروايتها خاتم التي تتناول أيضًا صورة المرأة في البيئة الصحراوية، وما يحيطونه بها من عادات وتقاليد معقدة تصل إلى حد إخفاء نوع المولود إن كان ذكرًا أم أنثى، هنا حكاية «خاتم» التي تحمل هذا الاسم المراوغ بين الذكورة والأنوثة، والتي تسعى لأن تميط اللثام عن شخصيتها وتفرض حضورها وسط عالم يسوده سيطرة الرجال. تجمع الرواية في بنائها بين الواقعي والخرافي، كما تعتمد كتابة رجاء عالم على أسلوبٍ خاص في الكتابة يثقل على القارئ غير المتمرس متابعته، حيث تمتلئ روايتها بالصور والتشبيهات والتراكيب اللغوية المعقدة، ولكنها استطاعت في هذه الرواية أن تعبِّر عن وجهٍ آخر للصحراء.

6- ساق الغراب ليحيى أمقاسم

ساق الغراب ليحيى أمقاسم
رواية «ساق الغراب» ليحيى أمقاسم

من السعودية أيضًا أطل علينا يحيى أمقاسم بروايته الأولى (ساق الغراب) عام 2008، والتي لاقت حفاوة نقدية كبيرة في ذلك الوقت، ذلك لكونها تخوض غمار تجربة الصحراء بوعيٍ مختلف وجديد، في الرواية حكاية تمزج بين الخرافة والواقعية بالسحرية، يتجاور في عالمها الإنسان بالحيوان، وتؤرخ لذاكرة القرية وما يدور فيها من صراعات وحكايات، رصد الكاتب تحولات القرية التي يتحدث عنها خلال مائتي عام، واستطاع أن يرصد تفاصيل عديدة من عالم الصحراء الثري في جنوب السعودية.

7. طعم الذئب لعبد الله البصيص

طعم الذئب لعبد الله البصيص
رواية «طعم الذئب» لعبد الله البصيص

من الكويت يطل علينا عبد الله البصيص بروايته (طعم الذئب) التي تختار لها الصحراء والقرى والقبيلة مجالاً للسرد، ويبرع الكاتب في استلهام قصص وحكايات القبيلة العربية وما يدور فيها لينسج الخيوط الأساسية لروايته، وذلك من خلال حكاية «ذبيان» وموقف قبيلته منه، وكيف يؤثر ذلك في سير أحداث الرواية، علاقة الفرد بالجماعة وأثرهم فيه، وفلسفة ذلك بشكلٍ واقعي يشد القارئ من أول الرواية حتى آخرها.

8. القناص لزهران القاسمي

القناص زهران القاسمي
القناص لزهران القاسمي

جنوبًا إلى عمان، يرسم الروائي العماني زهران القاسمي صورة أخرى للصحراء، من خلال بطل روايته «القناص» صالح بن شيخان ومغامرته الجبلية الصعبة وما يدور له فيها من أحداث ومفاجآت، تكاد الصحراء هنا أن تساهم في البطولة مع بطل الرواية الأساسي، إذ يستفيض الكاتب في رسمها وتصوير سهولها ووديانها وجبالها، بل أنواع النباتات فيها أيضًا، بشكلٍ يجعل القارئ وكأنما يراها عن قرب. وليست هي روايته الوحيدة في عالم الصحراء الثري، فقد كتب عددًا من الروايات في ذلك العالم الذي جعله ثريًّا أيضًا مثل (سيرة الحجر) وغيرها.

9. غواصو الأحقاف  لأمل الفارن

غواصو الأحقاف  لأمل الفارن
رواية «غواصو الأحقاف» لأمل الفارن

من السعودية مرة أخرى، وإلى التاريخ تلجأ الروائية (أمل الفارن) لتصوِّر صحراء العقيق وقصص الحرب التي تدور بين القبائل العربية قبل توحيد المملكة، تحفل الرواية كثيرًا بأساطير البدو والبيئة الصحراوية وما تفرضها على شخصياتها من جفافٍ وقسوة، والمحاولات التي يبذلها أهل هذه القبائل لإيقاف الحروب دون جدوى، وكأن تلك الصحراء لا ترتوي إلا بالدماء، امتازت لغة الكاتبة بالحيوية رغم ما في عالم الصحراء من جفاف، واستطاعت أن تعبِّر عن عالم الصحراء بواقعية.

10. وادي الدوم لعلاء فرغلي

وادي الدوم لعلاء فرغلي
رواية «وادي الدوم» لعلاء فرغلي

نعود إلى مصر مؤخرًا، وإلى رواية فريدة في نوعها وعالمها، حيث وادي الدوم المكان الذي يفترض الكاتب وجوده، ويدير فيه عالمه وشخصياته، رحلة قاسية موحشة يخوضها الدليل الصحراوي (الشاهين) في قلب الصحراء الغربية، يعود فيها أيضًا علاء فرغلي إلى أيام الاحتلال الإنجليزي ويدور فيها بين الإنجليز والهجامة والبدو، راصدًا تفاصيل تلك الحياة القاسية ومعاناة الناس فيها. استطاع علاء فرغلي أن ينقل عالم الصحراء بمفرداته وشخصياته وحرارته وقسوته، ونجح في الوقت نفسه أن يجذب القارئ إلى معرفة تلك التفاصيل الغريبة التي تبدو غير مألوفة على الرواية المصرية منذ فترة طويلة.  

هذه طائفةٌ من الروايات التي ركزت على الصحراء، ودارت في عالمها، واستطاع كتابها أن يجدوا فيها رغم كل القسوة والجفاء الكثير من التفاصيل الثرية، وأن يعكسوا من خلالها فلسفاتهم ورؤاهم للعالم وصراع الإنسان الدائم سواء مع الطبيعة أو الوجود بشكلٍ عام، وليس من شكٍّ في النهاية أن عالم الصحراء ثريٌّ وغزير، وربما يدفع للمزيد من الكتابة والغوص والاستكشاف.