استيقظْنا يوم 5 يونيو/حزيران الماضي على أجواء تشبه إرهاصات الحروب. في عتمة الفجر، بدأت ثلاث دول خليجية (البحرين، السعودية، الإمارت) وفي ركابها مصر، إجراءاتٍ عقابية ضد قطر بسبب ما زعموا من دعمها للإرهاب، وخطورة سياستها على أمن المنطقة والعالم.

كانت الإجراءات قوية وصارمة، شملت كل شيءٍ تقريبًا دون إعلان الحرب. حصارٌ إعلامي وبريٌّ وبحري وجوي، لم يترك منفذًا لقطر بحرًا أو جوًّا إلا من خلال شريك الخليج اللدود إيران، وشمل التصعيد لأول مرة في تاريخ الخليج، تبادلًا للمواطنين على جانبيْ الحدود من جانب الدول الخليجية الثلاث. كما تضمن طرد القوات القطرية المتحالفة معهم ضد الحوثيين-صالح في اليمن.

أتمت الأزمة الآن أيامها المائة، التي تخللها محاولات عديدة للوساطة المحلية خاصة من الكويت، والدولية وأبرزها من الراعي الرسمي للخليج الولايات المتحدة، كما أثار الانقسام الواضح فيها أحداثا داخلية جسيمة رغم أنها متوقعة. فتحْتَ غبارها، تم عزل بن نايف من ولاية العهد في السعودية، وتصعيد ابن سلمان الطموح شريك قرار الحصار مع صديقه ابن زايد. وأصبح لتركيا تواجد عسكري ملموس في قلب الخليج لأول مرة منذ العهد العثماني.

كما عادت الأواصر المنقطعة بين إيران وقطر للتجدد، وتكلّلت بإعلان عودة سفير قطر لطهران والذي كانت سحبته استرضاءً للسعودية قبل أكثر من عام عندما تم الاعتداء على قنصليتها بإيران احتجاجًا على إعدامها لرجل دينٍ شيعي. إلا أن هناك طابعا آخر مميزا لهذه الأزمة عن سواها من أزمات المنطقة المندلعة. وهو ما يمكن تسميته تجوُّزًا (هستيريا الإسفاف السياسي)!، مما يقع تحت طائلة بيت الشعر الشهير الذي كتبه المتنبي منذ أكثر من ألف عام :

وكم ذا بمصرَ من المضحكاتْ ـــ ولكنَّهُ ضحكٌ كالبُكا

ويبدو أن شراكة مصر في الأزمة، كان لها دورٌ في إبراز معاني هذا البيت، والذي لم يعُد حصريًا لمصرَ الآن.


الإعلام .. وما أدراك ما الإعلام!

كان الإعلام هو الساحة الأبرز والأعنف للمعركة، واستُخدم في قول وفعل ما يُخجَل منه مباشرةً.

والإعلام الخليجي والمصري فقيرٌ في الموضوعية والاستقلالية حدَّ النُّدرة، وهو البيدق الأكبر في يد الساسة. إذ إن (الريموت كنترول) الذي يديره دائمًا في يد الجهات السيادية والأمنية. والأدهى من التعليمات الأمنية للإعلاميين بقُل ولا تقُل، وافعلْ ولا تفعلْ … إلخ، هو كون بعضهم ملكيين أكثر من الملك، أو بأسلوب أبسط، يمعنون في «التجويد» في تنفيذ الأمر، بما يتجاوز كل الحدود، وتجويد أصحاب الأمر أصلًا!

أراد كل طرف الاستفادة من المليارات التي استثمرها في أذرعه الإعلامية، فكان ما شهدنا من تناقر الديكة على مدار أيام الأزمة، والتي بدأت بوادرُها أساسًا على موقع وكالة الأنباء القطرية، بنشر خطاب مثيرٍ للجدل لأمير قطر، أعلنت الأخيرة مرارًا وتكرارًا أنه مفبرك، وأن موقع الوكالة تم اختراقه. ومع ذلك تلقَّفته أبواق الإعلام السعودي والإماراتي وحلفاؤهما، وتجاهلتْ تبرُّؤ قطر من هذا الأمر، وشحنت بقوة ضد قطر مرتكزةً عليه، تمهيدًا للحصار.

ويحتاج إحصاء المهاترات الإعلامية خلال الأزمة إلى مجلدّات، لكن يكفينا هذه العينة العشوائية لتبيِّن فداحة الأمر:

  • الإعلامي المصري أحمد موسى، يتشفى في الأرفف الفارغة في بعض المتاجر القطرية في أول أيام الأزمة، وأن القطريين قد لا يجدون طعامًا للسحور، ويشير بشكل غير مباشر إلى أن 300 ألف مصري مقيمين بقطر، قادرون على إسقاط النظام القطري لو تظاهروا هناك!
  • مقطع فيديو على قناة العربية المعبِّرة عن النظاميْن الإماراتي والسعودي، يظهر تهديدًا بالتلميح الذي لا يخلو من تصريح، بإسقاط الطائرات المدنية القطرية إن حاولت العبور في أجواء دول الحصار
  • صحيفة عكاظ السعودية -من أهم الصحف هناك، وأقربها للنظام السعودي- تنشر تقريرًا يهاجم قطر، ملحقًا به صورة لوجه أمير قطر كأنه كرة بيسبول، ينقض عليها مضرب خشبي!
  • بعد عاميْن من المشاركة القطرية الفعالة فيما يسمى (عاصفة الحزم) في اليمن ضد انقلاب الحوثي-صالح، وتمجيد قناة الجزيرة لها وللقوات الحليفة هناك، تذكرت الذراع الإعلامية القطرية الأولى فجأة مع وقوع الأزمة، الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها حلفاءُ قطر هناك، وأن لبعضهم سجونًا سرية للتعذيب الممنهج .. إلخ. كما تذكرت الجزيرة بغتةً الكثير من المثالب السياسية لجارتيْها اللدودتيْن -الإمارات والسعودية-، فأمطرتهما بعشرات التقارير الصحفية الاحترافية التي تسلط الأضواء على هذه الأمور.

إذا أردت المزيد، فما عليك سوى الاطلاع على الأرشيف المنشور لأي عدد من جريدة أو قناة رسمية أو شبه رسمية في دول الأزمة، في الفترة من 5 يونيو/حزيران 2017 إلى الآن.


تعاطفك لوحده كفاية

السجن من 3-15 عامًا، وغرامة قد تصل إلى نصف مليون درهم إماراتي (حوالي 140 ألف دولار أمريكي)، هذه هي العقوبة التي هدَّد بها النائب العام الإماراتي كل مواطنٍ إماراتيٍّ أو مقيم، تسوِّل له نفسه تكدير السلم الأهلي، والأمن القومي، وذلك بإظهار التعاطف مع قطر، أو إظهار الاعتراض على الإجراءات العقابية ضدها، على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها.


مصر التي تعاقب نفسها

أبرزنا في تقريرسابق الغرائب التي أحاطت بالأداء المصري في هذه الأزمة، ابتداءً بالإسفاف الشديد التي اتسمت به التغطية الإعلامية المصرية، وإهمال قطر كثيرًا لذكر مصر في صفوف دول الحصار، وكأنها لا تراها، أو أنها تعتبرها مجرد ذر المحركِّين لا أكثر، مرورًا بالتعجب من دولة تعاني من شح دولاري، وأزمة اقتصادية خانقة، تمتلك ميزانًا تجاريًا موجبًا بحوالي 300 مليون دولار، مع دولة أخرى، ولها مئات الآلاف من العاملين في هذه الدولة، والذين يحوِّلون رسميًا سنويًا ما يزيد على المليار دولار.

وإذ بها تخاطر بكل هذا، وتقاطع تلك الدولة اقتصاديًا. كأنها تعاقب نفسها لا خصمها. وأخيرًا وليس آخرًا، إيقاف رحلات الخط النشيط لمصر للطيران من وإلى الدوحة، والتي لم يكن يستفيدْ منها أساسًا -ويفيد الشركة المتعثرة- سوى المقيمين المصريين هناك، والذي يضطرون إلى تحمل مستواها المتواضع مقارنةً بمنافسيها لاعتبارات تتعلق بالانخفاض النسبي لأسعارها، في خطوة لا تعاقب إلا هؤلاء. ومصر للطيران بالطبع.

أدى ما سبق وغيره إلى اتجاه -غير معلن رسميًا- للرد من جهة قطر، وذلك بتقليل الاعتماد على العمالة المصرية الأكثر عربيًا هناك ما أمكن، رغم إعلانها رسميًا عدم المساس بأوضاع المقيمين فيها على اختلاف جنسياتهم. لكن هناك مئات الحالات لمصريين تم إيقاف تأشيرات دخولهم أو طلباتِ إقامتهم، حتى وصل الأمر إلى بعض المهن الحيوية، كإلغاء تأشيرات معظم الأطباء المصريين المقبولين في الدفعة الجديدة من الأطباء المقيمين بمؤسسة حمد الطبية الأكبر في قطر، والاعتذار نهائيًا لهم.


الإبل الداعمة للإرهاب

هذه القصة أقرب كثيرًا إلى المبكيات المُفجِعات، عن المضحكات المبكيات.

لم تقتصر الأضرار الجسيمة للأزمة على البشر فقط، وإنما امتدت إلى الحيوانات، والتي حازت السبق في سقوط مئات الضحايا منها. بعد شهر من مرور الأزمة، تداولت عدة صحف عالمية شهيرة، ومنها الاندبندنت البريطانية، قصة مأساوية، عن ترحيل السلطات السعودية لعشراتٍ من رعاة الجمال القطريين وآلاف الإبل التابعة لهم من المراعي المشتركة، ومصادر المياه على حدود البلدين، وتعمدت السلطات التباطؤ والمماطلة في السماح لها بعبور الحدود إلى الجانب القطري، وتركَها في العراء في درجة حرارة تقترب من 50 درجة مئوية، مما أدى إلى نفوق المئات منها عطشًا وجوعًا.


أخرجوا كأس العالم من جزيرة العرب

ذكر موقع ذا لوكال السويسري بعد شهر من الأزمة أن رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، قد تلقى خطابًا من دول الحصار الخليجية الثلاث، ومعها مصر وموريتانيا واليمن، ينصح بعدم السماح بتنظيم كأس العالم 2022 في قطر، لخطورة ذلك على أمن المشاركين والجماهير، ولأن قطر دولة مهددة للسلم العالمي وداعمة للإرهاب.

ورغم نفي المتحدث باسم الفيفا وجود مثل هذا الخطاب، والرد عليه من رئيس الاتحاد، إلا أن مستوى الإسفاف في هذا الأمر يتناسب مع المتوسط العام للإسفاف في الأداء خلالها، مما يجعل أخذه على محمل الجد ليس من ضرب الخيال.

ففي نفس الفترة التي ترددت فيها الشائعة السابقة، نشرت أوسع الصحف المصرية الخاصة انتشارًا، وأقربها للدولة -اليوم السابع-حوارًا مع نائب في البرلمان المصري يطالب بسحب تنظيم كأس العالم من قطر، لأنها داعمة للإرهاب والتطرف. كما نقلت تصريحاتٍ لإعلامي بارز آخر -مصطفى بكري- أن الحصار سيزيد عزلة قطر، ويؤدي في النهاية إلى منعها من تنظيم هذا الكرنفال العالمي لكرة القدم.


أنت اتصلت … بل أنت الذي اتصلت

أعلنت وكالة الأنباء القطرية منذ أيام أن اتصالًا جرى بين أمير قطر، وولي العهد السعودي، بوساطة من الرئيس الأمريكي، وذلك لحلحلة الأزمة الراكدة. وكان أبرز ما نقلته الوكالة أن الطرفين اتفقا على حل الأزمة سلميًا، والحفاظ على إطار مجلس التعاون الخليجي، وانتداب وسطاء من الطرفين لبحث المطالب دون المساس بسيادة الدول. وما كاد الناس يتفاءلون بهذه الخطوة غير المسبوقة لحلحلة الأزمة، حتى فوجئنا بعد دقائق، بوزارة الخارجية السعودية تعلن قطع الحوار بين البلدين قبل أن يبدأ، وتهاجم الإدارة القطرية، وتتهمها بتزييف الحقائق.

تعمَّدت قطر تجهيل الحديث عمن بدأ بالاتصال، حتى لا تصرِّح بأن أميرها هو من طلبه، فيظهر في موقف أضعف. أما السعودية فقد كان رد فعلها عنيفًا لعدم إيضاح قطر أن أميرها من بادر بالمكالمة، وكذلك لمجرد إعلانها عن حدوثها. فبالنسبة للسعودية، فإن إعلانًا كهذا، قد يوحي بأن قيادتها ضجرت من ركود الأزمة، وأنها تتحيَّن الفرصة للخروج المشرف منها.


علِّم قطر … فن (الردح) السياسي

https://www.youtube.com/watch?time_continue=9&v=2siJIfrPquo

منذ أيام فوجئنا بروتانا تقدم كوكبة من ألمع المطربين السعوديين في أغنية مشتركة بعنوان (علِّم قطر)، كلماتها من كتابة المستشار في الديوان الملكي السعودي «تركي آل الشيخ» -مؤلف أغنية برج الحوت الشهيرة لعمرو دياب – ومن ألحان رابح صقر. قاموس كلمات الأغنية يحتوي وصلات من الردح الغنائي ضد قطر (سود القلوب – خايبات أفعالها – مال الخاين وفعله عذر – الشرذمة تقع في شر أعمالها – عشرين عام من الدسائس والغدر – مؤامرات عارفين أحوالها .. )، وإبراز عظمة السعودية -التي تحيا في ظل الله كما قالت الأغنية- في مقاطعة قطر، والتهديد بـ (فتح أبوابها وأقفالها).

أبرزنا في تقرير سابق، تضارب مواقف المشاركين في هذا العمل. فبعضهم غنى سابقًا لقطر تعظيمًا وتمجيدًا وحبًّا في مناسباتها الوطنية، وأحدهم قد انتقد كثيرًا خلط الفن بالسياسة. تجاوزت الأغنية 5 ملايين مشاهدة على اليوتيوب. وأثارت جدلًا شديدًا بين أنصار هذا الفريق وذاك. وهي خير ما يصلح لاختتام هذا التقرير، وتلخيص فكرته.