في فيلمه الطويل السادس، يهجر المخرج أحمد عبدالله السيد الأماكن المفتوحة التي اعتاد تصويرها وينتقل إلى مساحة مغلقة مهجورة، لا نرى صخب المدينة وتحركها الدائم بل شوارع ساكنة وصرح أشبه بالقلاع القوطية، يأتي فيلم «19 ب» المعروض في مسابقة مهرجان القاهرة السينمائي كاستراحة له من تقاليد التوثيق الخارجي للحياة في الشارع ليسرد صراعاً بسيطاً يمكن تحميله بعدة معان، صراع بين طاقتين، مجموعتين من المبادئ وفيلا مهجورة لا يسأل عن ملكيتها أحد.

يعد أحمد عبدالله السيد أحد الأسماء القليلة التي تعمل بمحاذاة السينما التجارية لكن في الوقت ذاته تتحايل عليها لخلق توازن بين ما هو جماهيري وما هو فني، في «19 ب» ينحو السيد إلى ما هو تجاري مع الاحتفاظ بقيمة فنية متمثلة في الإيقاع الأبطأ من الأفلام التجارية والإحالات الرمزية التي تأخذ الفيلم من المعنى الحرفي إلى حقول قابلة للتأويل.

صراع الطاقة

يحكي «19 ب» قصة بسيطة طيلة ساعة ونصف، يمشي على خطى نوع فرعي من الأفلام التي تصور وحدة كبار السن في مرحلة من الحياة حيث لا يطلبون ولا يطلب منهم شيئاً، يقوم سيد رجب بدور حارس عقار مهجور في حي راق في القاهرة، يسكن العقار وحده، يعيش بهدوء مع مجموعة من الحيوانات الأليفة في تناغم، قطط وكلاب يأكلون من نفس الأحواض، فئران عابثة لا تتعرض لها القطط، صوت راديو قديم يصدح في الصباح وروتين يومي محدود من صنع الإفطار وشرب الشاي مع النعناع الطازج المزروع في حديقة الفيلا، يمر بالمبنى عدة أشخاص بشكل يومي، بواب آخر وشابان عابثان وامرأة محبة للحيوانات يناديها رجب بالدكتورة.

يعكر صفو الروتين الدقيق بعض الأعطال داخل الفيلا، مواسير مياه تالفة، وحجر ضخم يظهر وكأنما هبط من السماء ليسكن المكان، يطفو على سطح الهدوء نذير مجهول بخطر محدق، يسكن الخطر مساحة ميتافيزيقية غامضة حتى يتحول إلى صورة مادية متمثلة في نصر (أحمد خالد صالح) السائس ذي البنية الضخمة والميول العنيفة، يقرر نصر احتلال الفيلا، بإسكان بضاعته المجهولة بها، بدافع أنها مساحة غير مستخدمة، وأنها أكبر من طاقة حارس عجوز ليسكنها وحده.

من تلك اللحظة يبدأ صراع الفيلم الرئيسي نحو قرب منتصف مدته، يمثل «19 ب» صراع على الطاقة، طاقة رتيبة هادئة يقابلها طاقة عنيفة وفوضوية، مجموعة من القيم الأخلاقية الكلاسيكية تقابلها مجموعة قيم حداثية فاسدة، يصور «19 ب» ذلك الصراع باقتحام طاقة لأخرى بإرساء الفضاء الصوتي من صوت مذياع قادم من عصر رومانسي وبسيط ظاهرياً، مذياع تم اختيار أغنياته بعناية يتخذ من أغنية في قلبي غرام لمحمد عبد المطلب تيمة أساسية له للفيلا وللحارس وللطاقة التي يتبناها، يتغير ذلك الفضاء الصوتي باقتحام صوت أغنيات التراب ذات الإيقاع العالي والكلمات السريعة، تقتحم سرعتها البطء والتأني الذي يسكن أغنية في قلبي غرام، تضطرب طاقة المنزل نفسه ويتحول الصراع الحرفي بين حارس عقار وسائس إلى صراع مجازي أو هكذا يبدو.

صراع النوع

يمكن تصنيف فيلم «19 ب» نوعياً باعتباره فيلم اقتحام منازل Home Invasion، وهو نوع متفرع من نوع الرعب، فيه تقوم قوة غاشمة باقتحام منزل آمن يحاول سكانه محاربتها دون جدوى حتى يصل الصراع إلى ذروته بعد سلسلة من الاعتداءات المرعبة، لكن أحمد عبدالله ليس مخرجاً نوعياً هو ينتمي إلى سينما يصعب تصنيف نوعها حتى مع سكن الأنواع بها، يفضل أن يستدعي تقاليد السينما المستقلة جمالياً وليس إنتاجياً فالفيلم من إنتاج منصة شاهد ومحمد حفظي، ينتهج السيد بطئاً وتأنياً يعتمد على المراقبة المستمرة، لكنه في الوقت ذاته يتبنى نوعاً فيلمياً وصراعاً رئيسياً يخرج الفيلم من كونه دراسة شخصية بحتة إلى فيلم نوعي يعتمد على صراع بين خير وشر.

يقع في الفيلم صراع آخر بين الأنواع والأنماط الفيلمية فهو لا يملك الكفاية من الصور الشعرية واللقطات غير الوظيفية لكي تصبح ساعته الأولى منتمية إلى السينما الشعرية البطيئة، فعلى الرغم من التأني في بناء المكان والشخصيات فإنه حتى اللحظات البطيئة تملك وظيفة تؤدي إلى النهاية المحتومة، تلك الوظيفية تحيله أقرب للسينما النوعية من الشعرية لأن الصورة نفسها لا تملك القيمة الجمالية البحتة التي تغفر للمدة الطويلة التي يمضيها الفيلم للتحضير لذروته، لا يتحول التكرار إلى قيمة سينمائية في ذاته لأنه غير مقصود بشكل كاف ليصبح كذلك، فإذا كان قصد البطء التعريف بالمنزل وشخصياته فإن المنزل كشخصية رئيسية بجانب الشخصية الصوتية والموسيقية لا يعطى المساحة الكافية من الوقت لنتعرف عليه في صورة سينمائية، في الوقت نفسه لا يعتمد الفيلم سرعة وإثارة أفلام اقتحام المنازل التي عادة مع تشتد عقدها حتى يحل الصراع في شكل عنيف.

صراع المجاز

غالباً ما يحيل نوع اقتحام البيوت إلى مجازات كبرى ومخاوف باطنة متعارف عليها مثل اقتحام المساحة الشخصية والأجساد، تحلق فوق «19 ب» كافة أنوع المجازات من أكثرها مغالاة مثل كون المنزل جنة متناغمة يقتحمها الشر إلى كونه مجازاً للصراع على الوطن، بالطبع يمكن النظر إلى الفيلم باعتباره ما هو عليه، دون تأويلات أو محاولات لإضفاء المعنى لكن ما يحول دون ذلك هو ترك الشخصيات معلقة دون توريط عاطفي حقيقي والتركيز الأكبر على القيم المجازية والأفكار المجردة مثل الأصالة والحداثة، السلام والفوضى، وحماية الحدود الشخصية للجنة المتخيلة.

في بعض لحظات «19 ب» يبدو وكأن المنزل يملك إرادته الخاصة، يلفظ من لا يعجبه ويحتضن من يتناغم معه، الفيلا مساحة تبدو خارج الزمن يسير كل شيء بها ببطء وبشكل سحري يتحول داخلها الأعداء إلى أصدقاء وعلى الرغم من كونها مساحة داخلية فإنها مفتوحة على الخارج، بابها يمكن النظر من خلاله ويصعب اعتباره محكم الغلق، عمدانها على وشك الانهيار في أي لحظة ويبدو وكأنها تعيش بقوة ساكنها فقط وكأنه إذا خرج منها سوف تتهاوى أوصالها، كل تلك الحالات الميتافيزيقية تؤهل الفيلم للاعتبارات المجازية وتفتحه على التأويلات التي تصاحب الأفلام القوطية، حيث المنازل المسكونة والأشباح الذين يمثلون قيم الماضي التي ترفض الموت، لكن ذلك المنزل ليس مسكوناً بأشباح بل مسكوناً بفرد يحاول حماية وحدته والدفاع عنها ضد القوى الخارجية.

«19 ب» تجربة سينمائية نادرة تقتحم سنوات من احتكار الأنواع الفيلمية لنوعين إما كوميدي أو بروباجندا قومية، وعلى الرغم من نزعته المحافظة واضطراب توجهه المزاجي وأسلوبه فإنه يعمر بأداءات متميزة خصوصاً من أحمد خالد صالح، وأفكار مجردة مثيرة للتأمل على الرغم من ميلها للمباشرة فإنها يمكن أن تعني شيئاً مختلفاً لكل متلق.