فيلم جديد عن الحرب العالمية الأولى، ألم تكتف السينما من هذه الأفلام بعد؟

كانت الحربان العظميان (كما يطلق عليهما في معظم الأدبيات التاريخية) أبرز أحداث القرن العشرين على الإطلاق، وربما من أبرز الأحداث في تاريخ البشرية. يقال إن إحدى أهم سمات الدماء البشرية أنه يصعب التخلص منها كلياً. هاتان حربان راح ضحيتها ما يزيد على 100 مليون إنسان، لا عجب أن تكون محفورة في الذاكرة البشرية بما لكل هذا الكم من الدماء من أثر لا يزول.

لكل هذا لا تكف السينما عن اقتباس القصص من هاتين الحربين، ولكن في الحقيقة إذا ما نظرنا إلى الأمر نظرة أكثر اتساعًا سنجد أن كل الفنون ما هي إلا إعادة تدوير لقصة الإنسان، بما يعود بها حتى إلى الخطيئة الأولى التي كانت سبباً في وجود الإنسان على هذه الأرض. كل القصص البشرية على مدار التاريخ البشري، من برديات الفراعنة وحفرياتها ونقوشهم على المعابد التي تعود إلى آلاف السنين، مروراً بالميثولوجيا الإغريقية وأساطيرها المتنوعة، وانتهاء بالسينما التي لم تشهد ميلادها إلا قبل قرن ونصف من الزمن، كلها تدور حول الإنسان وتعيد تدوير قصته الأولى التي لا تكف عن التكرار، فلماذا إذن نطالب السينما بأن تكف عن العودة إلى الحربين؟

في فيلم المخرج البريطاني سام ميندز «1917»، وكما يخبرنا الإعلان الترويجي للفيلم، نتابع قصة اثنين من الجنود كُلفا بمهمة عاجلة لإنقاذ 1600 جندي من الوقوع في شرك نصبه الألمان. وعلى مدار ساعتين لا تخرج فيهما قصة الفيلم عن هذا الإطار  الضيق، نتابع هذه الرحلة في تجربة أقرب ما تكون للواقعية. فما الجديد الذي قد يحمله فيلم ميندز؟ أو بعبارة أخرى، كيف أعاد ميندز تدوير قصة الحرب العالمية الأولى؟

الهروب إلى الحقيقة

الفيلم هو الحقيقة 24 مرة في الثانية، وكل قطع هو كذبة.
المخرج الفرنسي جان لوك جودار

إذا كنا بصدد الحديث عن تكرار القصص فلا ضير من إعادة القصة الشهيرة لفيلم «وصول القطار إلى محطة لاسوت» للأخوين لوميير، والذي عرض في عام 1896. ظن الجمهور، الذي كان يشاهد هذه المعجزة التقنية للمرة الأولى في التاريخ، أن هناك قطاراً يتقدم صوبهم وعلى وشك اختراق الشاشة الكبيرة، ففزع الحاضرون وفزوا من مقاعدهم.

دائمًا ما يتم الاستشهاد بهذه القصة في معرض الحديث عن السينما بين الخيال والحقيقة. ومع تطور خبرة المشاهدة، وتطور التقنيات السينمائية بالتبعية، أصبح المشاهد أكثر وعياً، ولكنه لم يحر جواباً على سؤال الحقيقة والخيال.

في فيلم 1917، اختار المخرج سام ميندز أن تقوم سردية الفيلم -الذي تدور أحداثه على مدار يوم واحد- بشكل متصل كما لو كانت لقطة واحدة وإن لم تكن كذلك بالفعل، إذ تم تصميم المشاهد بحيث تكون كل القطعات المونتاجية غير ملحوظة، وهو الأسلوب الذي سبق وتم تقديمه من قبل في عدد من التجارب كان أبرزها فيلم «The Robe» للمخرج الكبير ألفريد هيتشكوك، وفيلم «Birdman» للمخرج المكسيكي أليخاندرو إينريتو.

هنا في 1917، طمح ميندز إلى تقديم الزمن في أقرب صوره الواقعية، من أجل تكثيف معايشة الجمهور للقصة، فالأبطال يسابقون الزمن من أجل إتمام مهمتهم وإنقاذ عدد كبير من الجنود من ملاقاة حتفهم بشكل مجاني، ومن خلال هذا الأسلوب ينتقل التوتر الذي تخلقه هذه المهمة الجسيمة على عاتق المشاهد الذي ينتمي إلى العقد الثاني من القرن الواحد وعشرين، ويفصله قرن كامل عن هذه الأحداث.

مع تقدم الزمن تكتسب الأفلام صفة «الكلاسيكية»، ويظهر تصنيف جديد يطلق عليه «الكلاسيكية الجديدة» وهي الأعمال التي وإن كانت أقرب من سالفتها إلآ أنها من القدم بالقدر الكافي لإطلاق صفة الكلاسيكية عليها، ومن هذا المنطلق قد تكون أفلام مثل: (The Great Escape 1963)، و(Patton 1970) أفلامًا كلاسيكية، وأفلام أخرى مثل: (Saving Private Ryan 1998)، و(The Thin Red Line 1998) كلاسيكية جديدة، إذ إن لكل جيل كلاسيكياته. وبمد الخط على استقامته تكون الأفلام الحديثة مثل 1917 بمثابة كلاسيكيات محتملة للجيل الأحدث من المشاهدين.

هذا الجيل الأحدث لا يشاهد مجرد قصة أخرى من قصص الحرب العالمية، ولكنه يشاهدها بمفردات زمنه، وبآلياته وتقنياته الحديثة، ويعيد معايشة قصة لا ينتمي إليها تاريخياً، ولكنه يستطيع التماهي معها إنسانياً، وهو ما يعيدنا إلى سؤال الحقيقة والخيال، وإلى مقولة المخرج الفرنسي الكبير جان لوك جودار التي يشبه فيها القطع المونتاجي بالكذب.

عندما يتابع المشاهد القابع في قاعة مظلمة عدداً من الممثلين يعيدون محاكاة قصة خيالية أو واقعية، فإنه يدرك تماماً أن ما يشاهده ليس الحقيقة، وأن هذا الممثل الذي لقي مصرعه على الشاشة لم يمت في الواقع بالفعل، ولكنه في الوقت نفسه يختبر مشاعر حقيقية تمامًا.

هذا الاختيار الفني الدقيق لأسلوب المونتاج عمق من واقعية تجربة المشاهدة، وسهل على المشاهد التماهي مع أبطال القصة، وإحساسهم بالزمن ومحوريته سواء على مستوى الدراما أو على مستوى السرد الذي يزيد من جرعة الإثارة والتشويق في انتظار النهاية التي لا يمكن توقعها. ولكنه في الوقت نفسه جعل الفيلم أقرب إلى أسلوب هتشكوك، حيث التركيز الأكبر على الإثارة منه على الدراما.

ورغم أن الكاميرا التي تتابع الأبطال طوال الفيلم لا تبخل على المشاهد بالكثير من الصور التي تنقل الوجه الحقيقي لهذه الحرب، ومعاناة الجنود الذين يصارعون الموت في كل لحظة، وتلقي بالقليل من الضوء على موقف القيادات العسكرية في تعاملهم مع الآلاف من الأرواح، إلا أن كل ذلك يأتي على هامش الخط الرئيسي الذي يركز بالأساس على المهمة المغلفة بالإثارة والتي تجذب المشاهدين إلى أطراف مقاعدهم طوال ساعتين لا يشغلهم سوى سؤال واحد: هل سينجح الجنديان في إنقاذ كتيبة كاملة من الموت؟

ما بين التجاري والفني

يبدأ الفيلم بلقطة ثابتة لاثنين من الجنود البريطانيين مستلقيين في إحدى البقاع بالسهول الفرنسية حيث تمركزت قوات الحلفاء. يتم استدعاء الجنديين فيقومان من مكانهما تتبعهما الكاميرا عبر مسافة طويلة من الخنادق في لقطة طويلة تؤكد غياب أي مؤثرات بصرية، فكل هذه المساحة الكبيرة من الخنادق، وكل هؤلاء الجنود ومعداتهم الحربية هي صور حقيقية تم تصميمها بالكامل. يواصل الفيلم تقدمه بلا أي قطعات مونتاجية ملحوظة، وينتقل الأبطال من مكان لمكان، حيث المزيد من الخنادق، والمعدات الحربية، والجثث والأشلاء المترامية في كل مكان، ومع كل لقطة جديدة يتأكد حدس المشاهد بأن كل ما يشاهده على الشاشة هي صور حقيقية وليست زائفة.

كان ظهور التلفزيون وانتشاره منذ عام 1960 نذيرًا بانتهاء العصر الذهبي لهوليوود، مما دفع الأستوديوهات العملاقة إلى البحث عن سبل جديدة لجذب الجمهور إلى دور السينما، فبدأ التوجه لإنتاج أفلام لأعمار سنية مختلفة، وخيم مفهوم الإنتاج الضخم على عقلية الإنتاج في هوليوود، وظهرت أفلام الشاشة العريضة، والملونة، والمجسمة، والبانورامية من أجل ضمان تردد المشاهدين على صالات العرض. [1]

مع بداية العقد الثاني من الألفية الجديدة، كان لظهور الإنترنت ومنصات العرض الإلكتروني مثل «نتفليكس»، و«أمازون» وغيرها، تأثيرا مماثل لتأثير التلفزيون في القرن السابق. ومن ثم، لم تختلف استجابة هوليوود كثيرا عن النهج الذي اتبعته في مواجهة التلفزيون، فتضخمت ميزانيات الإنتاج إلى حدود جنونية، وواصلت التقنيات الحديثة البحث عن سبل لجذب الجمهور، فظهرت تقنيات الشاشة ثلاثية الأبعاد، والشاشات الضخمة مثل أيماكس IMAX، التي تعد بتجربة مشاهدة مختلفة عن تلك التي توفرها المنصات الإلكترونية والمنزلية المختلفة.

بلغت ميزانية فيلم «1917»، 100 مليون دولار، وهو رقم ضخم للغاية إذا ما وضعنا في الاعتبار أن الفيلم يعتمد على طاقم تمثيلي بسيط بعدد قليل من النجوم في أدوار صغيرة، وبطلين من الشباب، بيد أن هذا الرقم الضخم قد ذهب في معظمه إلى تصميم الإنتاج، فيكفي أن تعرف أن مساحة الخنادق التي تم حفرها وتصميمها من أجل الفيلم بلغت ما يقارب 1600 متر.

لا يمكن بأي حال تجاهل الدافع التجاري وراء مثل هذا الإنتاج الضخم، والذي كما أسلفنا يهدف إلى جذب الجمهور إلى قاعات السينما، سيما وأن الفيلم تم تصويره بأبعاد IMAX الضخمة، ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن ننكر على صناع الفيلم القيمة الفنية الحقيقية التي يحملها هذا الإنتاج الضخم، والذي ينقل صورة أقرب ما تكون للواقع عن حدث تاريخي بضخامة الحرب العالمية الأولى، يشاهده الجمهور اليوم بعد أكثر من قرن كامل على انتهائه. فحتى وإن كان الهدف الرئيسي هو الإبهار والإثارة، ولكن المنتج النهائي أضاف إلى تاريخ السينما صورة مختلفة وجديدة عن هذا الحدث الذي أعادت السينما زيارته مئات المرات قبل ذلك.

في 1917، يتعاون مينديز مع مدير التصوير المخضرم روجر ديكنز صاحب المسيرة الفنية الهائلة التي تضم أفلاماً مثل: The Shawshank Redemption، وNo Country for Old Men، وThe Reader، والفائز بجائزة أوسكار في التصوير السينمائي عن فيلم Blade Runner 2049، بالإضافة إلى 14 ترشيحا إضافيا.

يعتمد ديكنز في 1917 على التصوير بالكاميرا المحمولة باليد ويحافظ على حركة سلسلة ومتواصلة للكاميرا، في مهمة تبدو مستحيلة وسط كل هذا الكم من الجثث والأشلاء والخنادق، يتحرك بها بين المواقع والمباني المختلفة، دون أن يختل توازنها أو تفقد سلاستها، أو يعرقل تقدمها إلى الأمام لحاقاً بأبطال الفيلم وسرديته الخطية.

يعتمد ديكنز أيضاً على الإضاءة الطبيعية في المشاهد النهارية بالنصف الأول من الفيلم، التي تغيب عنها الشمس تماما في أجواء غائمة ساهمت في ترسيخ الإحساس الأبوكاليبسي بأجواء الحرب والموت، كما أنه يعتمد على الحد الأدني من الإضاءة في المشاهد الليلية للهدف ذاته.

الفيلم بلا شك هو أحد أهم إنتاجات 2019، ليس لضخامة الإنتاج، ولكن لما يحمله من قيمة فنية حقيقية، وتجربة مشاهدة مختلفة وجديدة عن كل التجارب السابقة التي تناولت الحدث نفسه، والتي لا تكف السينما -ولن تكف- عن إعادة تقديمها بمفردات معاصرة وآليات وتقنيات أحدث.

نجح الفيلم في حصد جائزتي أفضل فيلم وأفضل مخرج في حفل جوائز جولدن جلوب مطلع يناير 2020، وتم ترشيحه عقب ذلك لعشر جوائز أوسكار، أهمها ترشيحه في فئات أفضل فيلم، أفضل مخرج، أفضل سيناريو أصلي، وأخيراً أفضل تصوير سينمائي.

المراجع
  1. ضياء حسني، السينما المستقلة العالمية: الجذور السياسية والتطورات الاقتصادية والفنية، مجلة الفيلم، العدد 3، أغسطس 2015، ص 9