في آخر أفلامه إخراجاً وكتابة «19ب»، ومن إنتاج «فيلم كلينيك»، يستمر المخرج أحمد عبد الله كعادته في التغريد بعيداً عن السرب، فنلتقي معه ببطل جديد عالق بين حافتين كالكثير من أفلامه، تلك الحالة غير المنتمية بشكل ما، إنها في مكان أو زمن آخر يفصلها عما حولها، هذه المواضيع المليئة بالقلق النفسي والوجودي ربما ليست من مفضلات الكثيرين بحسابات الجاذبية الجماهيرية، فكثيراً ما يتسم صراعها بالميل للسكون، حيث يعمل جزؤه الأكبر تحت السطح المرئي، ويدور في منطقة التوتر أكثر من الفعل الصريح، وبطل «19 ب» عالق بين ماض يشكل زمناً اجتماعياً وثقافياً بقيم خاصة عاشه، وبين حاضر شديد الاختلاف لا ينتمي له، فيشكل تشبثه بالزمن الماضي مساحته الخاصة الآمنة، وسط عالم يخافه ولا يفهمه.

عن أيام الملك الناصر

بطل الفيلم «سيد رجب»، رجل كبير السن لم يحدد له اسم بعكس باقي الشخصيات، فهو يبدو كالغريب بينهم، يسكن فيلا رقمها مجهّل «19 ب»، رقم غير مميز ولا يعني شيئاً، رقم على الحافة قبل العشرين، وحرف هو الثاني في الأبجدية بلا معنى خاص، في منطقة راقية لم تحدد أيضاً، وفي شارع قيل إنه شارع «الملك الناصر»، بإيحاء محتمل للفترة الناصرية، أو بفترة مزدهرة قوية، هو حارسها وساكنها الوحيد، وحارس زمنها وإرثها الثقافي الذي شكله، يعيش في عالم آمن متسع البراح يكفل خصوصيته، يشبه مصر قديماً، مكان يقترب لسمات اليوتوبيا؛ مدينة الفضيلة والأصالة، لكن على بعد خطوات خارجها وخلف بوابتها الفاصلة، يبدو عالماً مضاداً بشخصيات مضادة أقرب أيضاً إلى «ديستوبيا»، أي المدينة المضادة للفضيلة، فماذا كان معه؟

عالم آمن بين جدران قديمة

يبدأ الفيلم بلقطات متتالية ساكنة للفيلا من الداخل، مكان قديم خالٍ من الأثاث إلا في أضيق الحدود، يتآلف فيه الظل والنور ويعملان معاً في كل لقطات الداخل، بشكل يتألق فيه التصوير والإضاءة كمعظم الفيلم، لكل من مصطفى الكاشف ومصطفى الششتاوي، نلمح آثار الماضي في نوع البلاط وموديل البوتاجاز وقيشاني المطبخ، تجوب في البيت القطط بحرية وهدوء أيضاً فلا نسمع صوتها، كل ما ينبع من صوت في الفيلا ليس أكثر من صوت مواء خافت لقطة، أو أغانٍ طربية قديمة من جهاز راديو وتسجيل قديم، تتراجع بدخول أصوات الشارع.

هذا الرجل الكبير يبدو سعيداً بعالمه البسيط المحدود لكن المتسم بالعراقة، فلا وجود لأثاث فخم ومظاهر رفاهية، بل كل الأشياء تبدو قديمة تطل منها رائحة الزمن، يبدو البراح بطلاً للمكان، بادياً في الداخل في المساحات الفارغة والحجرات ذات الجدران العالية كطبيعة المباني القديمة، أما الطراز المعماري فتتضح معالمه كلما اتجهنا للخارج نحو الشرفة وواجهة الفيلا، نرى الرجل يرتدي بيجاما مقلمة من قماش «الكاستور»، الخامة المصرية الخالصة المفضلة والسائدة عند عموم الشعب المصري بخاصة في الزمن الماضي، يجلس في الشرفة الواسعة بعمارتها العريقة المطلة على حديقة، تتجول أمامه حيواناته بحرية، فالفيلا تبدو مأوى آمناً لهم، نفهم أنه يحرس هذه الفيلا بعد رحيل صاحبها وسفر الورثة وانشغالهم، يحرص على حمايتها كعمل يصون أمانته، لا تدفعنا طريقة عيشه الزاهد في الظن بانتفاعه منها أو استغلالها، بل إنه يبدو بوجوده فيها مع حيواناته التي يطعمها ويرعاها، كمن يملك كل شيء.

بوابة بين عالمين

تدور جميع أحداث الفيلم في مكان واحد هو الفيلا كمحور للجميع، فترتبط بها كل الشخصيات باختلاف مبتغاهم، ونرى بوابة الفيلا ذات الألواح الخشبية العرضية التي تتخللها الفراغات، كعلامة تشير لأمان دام طويلاً، وكفاصل أيضاً بين عالمين، تبدو خلفها حركة الشارع وسائسيه، من يخترقون هدوء المكان ورونقه بغوغائية، خالقين لتوتر متوثب بقربها من الخارج، بينما نرى البوابة آمنة هادئة من الداخل، نرى تحفزهم الدائم للانتفاع بالمساحة الملاصقة لباب الفيلا التي يرونها مجرد مساحة معطلة، مما يشكل تهديداً لها ولحارسها الذي يبدو ظاهرياً حامياً لها وصائناً لأمانتها، بينما هو من يحتمي فيها بعالم يشبهه بعكس الخارج، فهو لا يخرج منها طوال الفيلم وبالكاد يقف في الشارع أمامها في أوقات الخطر، تعبر عما في نفسه جملة على صندوق مياه معدنية يمر بجواره في الفيلا، مكتوب عليه بالإنجليزية «Pure Life» بمعنى حياة نقية أو طبيعية، ونعرف أن الفيلا بها جزء مهدد بالسقوط يحتاج حقناً لإسناده، وبالتزامن مع ذلك يظهر «نصرـ أحمد خالد صالح» الشخصية الضد للبطل، فهو سائس رباه الشارع وعالمه السفلي، يسيل لعابه لاستغلال هذا المكان لصالحه، فهو يمثل نوعية المنتفعين الغوغائيين بلغتهم المستحدثة، والشارع بكل نتاجاته ومآلات تشوهاته، يزداد تجرؤه على اختراق مساحات الفيلا وبسط سيطرته عليها، مستهيناً بالحارس الأليف ومثيراً بهذا التحدي الرعب في نفسه، تشير إليه إحدى اللقطات كمصدر للخطر بتسليط ضوء أحمر متقطع من إحدى السيارات عليه، يرى الحارس في الفيلا مأوى آمناً لنفسه وإن كانت فارغة، ولا يبحث فيها نصر سوى عن حيز آمن لبضاعته، كقيمة مادية تعادل قيمته ووجوده، هذه المقارنة بين الهدفين تظهر الكثير.

صراع الشرس والأليف

برغم امتلاء الحارس بالغضب والاستفزاز، تظل ردود أفعاله محدودة ضعيفة، فهو مضطر إلى أسلوب مواجهة لم يهيَأ له من قبل، فهو المستأنس ابن البيئة الآمنة، التي اعتاد أن يطالب فيها بالحقوق بشكل روتيني مسالم، فلم يشرّس ولم يخض صراعات حادة غير عادلة، بعكس نصر المشرس ابن الشارع، من اعتاد المغالبة وانتزاع ما يريد عنوة، وإن كان من أبيه الذي أقصاه ليأخذ عمله، ليكون هذا الضعف والخوف البادي من الحارس رغم هيبة سنه، مأزقاً نفسياً من أقوى ملامح الدراما، ومع ازدياد سيطرة نصر داخل الفيلا يزداد الحارس في إزاحة نفسه نحو الخارج، لينام في الحديقة، فهما قوتان متضادتان لا تجتمعان، فلا وجود لأمانه مع نصر، ويتأكد تقدم هذا الصراع بصريا من خلال الصخرة التي كان وضعها الحارس أمام الفيلا بعناء شديد، ليفاجأ بها بعد ذلك داخل الفيلا، ليعاود إخراجها كما كانت في حالة سيزيفية تستهلكه، وقد كان نصر قد حملها ووضعها داخل الفيلا كرسالة تهديد، فهي تعد معادلاً بصرياً جيداً للصراع ومساره، ولمركزية الفيلا فيه، لتطل بوضوح رمزية الفيلا لمصر، والصراع عليها بين الحالم بالأصالة والغوغائي، ما يعرضها للخطر الذي تواجهه الفيلا، وهو ليس صراع أحقية فكلاهما غير مالك للعقار، بل في الحقيقة هو صراع قيمي وجمالي وصراع أمان لكن بوجهتين متناقضين، ليتورط هذا المسالم أخيراً في مواجهة لا تشبهه ولم يخطط لها، وبينما كانت أولى لقطات الفيلم من داخل الفيلا تنتهي ببوابتها من الخارج وقد أغلقت بحرص، فهي لم تعد قضية فردية.

اتسم الحوار بحالة إلماحية لا تكشف الكثير، يبدو أحياناً مبتتراً غير مترابط، وبرغم تفهم جماليات الأسلوب التقطيري وأسلوبيته، لكن الحوار كان أحياناً مثرثراً دون ضرورة بعكس طبيعة الفيلم المقصودة، كحوارات «يارا ـ ناهد السباعي» ابنة الحارس، وحواراته مع زميله البواب، فلا هو التزم بأسلوبيته ولا كان طبيعياً حياً، لكن هناك بعض الجمل المهمة الكاشفة، كالجملة التي وردت على لسان نصر ليارا «اللي زيك ميعرفوش يحبسوا حد..يا يفضلوا ماشيين جنب الحيطة يا هما اللي يتحبسوا»، التي تبين أن المسالمين مستباحون ومأمونو الجانب، وبالفعل كان الأكثر مسالمة أكثر من أوذي؛ الحارس وحيواناته الأليفة الرامزة للطبيعة التي كلما ضعف صاحبها كلما تعرضت للأذى، من جهة أخرى رأينا نموذج الجارة الطبيبة المحبة للحيوانات «فدوى عابد»، وهي تمثل مرحلة وحالة وسطى بين العالمين، فهي تبدو متشابهة مع الحارس في حبها ورعايتها للحيوانات، لكنها أيضاً من كانت على وشك أن تركن سيارتها قبالة الفيلا لولا أن رأته في الحديقة، وهي أيضاً التي ردت على شكواه من همجية وضجيج السائسين بأنهم مفيدون برغم ذلك، فهي تمثل فئة مستفيدة مساعدة على وجودهم، تبدو عليها علامات الارتياح المادي وليس الرقي الكلاسيكي، وتبدو مسرفة الانفعالات كثيرة الثرثرة، لكن لمحة لأمها تكشف فارق الجيل في نفس المكان، فأمها تبدو مريضة ألزهايمر، تنظر إلى الحارس نظرة من عثرت على شيء من زمنها وعالمها الذي تذكره، يبدو عليها الرقي الشديد، ونستطيع في لقطة أدتها بمهارة «منحة البطراوي» أن نفهم قدر معاناتها أيضاً، التي قد تكون لسبب مشابه لأسباب الحارس.

لغة الزمن والجسد

عكس المكان وتفاصيله الداخلية والخارجية زمنه، إلا أن حارسه المنتسب له، لم يبد عاكساً بما يكفي لثقافة هذا الزمن أو رقي المكان، حتى وإن كان فقط حارساً، فهو غير مهندم الملابس، ولا يحرص مثلاً على حلاقة لحيته المنبتة، أو حلاقة شعره وتسريحه، يخرج للحديقة بالبيجاما، ولا ينظف الفيلا التي يحرص عليها، كما لم نفهم لم الكهرباء تنقطع ويقوم بسرقتها؟ هل يعرف أن وضعه غير قانوني؟ كيف وهو تصله نقود شهرية من أصحابها، كما كان يظن قبل أن يعرف الحقيقة، كما أن فكرة البراح وقدم المكان بأهميتهما الدرامية، لا يعنيان أن يبدو مهملاً ولا ينفي الاهتمام بنظافته، كما لم تعكس لغة جسد الشخصية سمات انضباط واعتداد بالنفس بجانب طيبتها، تدل على فترة آمنة لم يضام فيها الحارس أو يذق الهوان، بل بدت لغة الجسد رخوة منكسرة منذ البداية، في حين أن تغيرات اللغة الجسدية كانت لتكون منطقية ومؤثرة بعد تصرفات نصر، وكنا بحاجة للمس المشاعر التحتية لا الظاهرية فقط لأزمة الشخصية التي يُضغط على مواطن ضعفها وأمانها، أما أحمد خالد صالح فقد عكس بكل جيد دواخل الشخصية مع حضور قوي، بينما اتسم تعبيره الصوتي ودرجة صوته المختارة بنوع من الاصطناع، مع ثباتهما معظم الوقت، ما يجعل الشخصية تبدو أسيرة «فريم» مسبق لا يجعلها حية حقيقية.

قدم الفيلم زاوية تشريحية عميقة ومهمة لتغيرات المجتمع، ولقطة رمزية ذكية تثير التأمل، لكن ذلك جاء في بنية سردية أقرب لبنية الفيلم القصير في مدة زمنية أطول، فبدت البنية المكثفة في أساسها مختزلة بعد مدّها الزمني، ما أدى للشعور بمحدودية الصراع أكثر مما ينبغي، والذي يتصاعد بشكل خطي بسيط دون تعقدات أو تشابكات، بخط درامي واحد وحبكة واحدة رئيسية دون تفرعات أو انقلابات أو مفاجآت، مع انحصار الصراع في قوتين محددتين متصارعتين، دون ظهور صور فرعية ومتنوعة نسبياً تعبر عن الصراع، وكلها نقاط اندرجت تحت بناء درامي قصير كان بحاجة للتطوير في مدته الطويلة، لكن ذلك لا ينبغي أن يبخس الملامح الجيدة للفيلم وخصوصيته وأسلوبه الشعري الكابوسي، وتميز إضاءته وتصويره، مع تقدير رؤيته وهمه الجاد، وهو الأمر الذي صار نادراً ومتراجعاً.