في المدينة الصغيرة الهادئة شرقي البلاد أقيمت فعاليات الدورة العشرين لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة في الفترة من 11 إلى 17 أبريل/نيسان الجاري، بمشاركة 62 فيلمًا من أكثر من 40 دولة من دول العالم، كما تشهد دورة هذا العام تكريمًا خاصًا للفائزين بجوائز الدورات السابقة من خلال عرض مجموعة من الأفلام الفائزة -50 فيلمًا- بالبرنامج الذهبي. جاءت دورة هذا العام تحت إشراف الناقد عصام زكريا رئيسًا، والناقد أندرو محسن مديرًا فنيًا.

يعتبر مهرجان الإسماعيلية المهرجان النوعي الأقدم والأكثر أهمية في مصر، والذي جاءت دورته الأولى عام 1991؛ أي قبل 27 عامًا، غير أنه توقف أكثر من مرة لأسباب مختلفة. وفي نسخته العشرين أولى المهرجان اهتمامًا خاصًا بالتطور الكبير الذي شهدته السينما التسجيلية في السنوات الأخيرة. في هذا التقرير نتعرف على أبرز ملامح هذه الدورة.


في البدء كانت السينما تسجيلية

ﻻ يخفى على الكثيرين من محبي الفن السابع أن البداية الحقيقية للسينما جاءت في شكل الفيلم التسجيلي، إذ أن العرض الجماهيري الأول الذي نظمه الأخوان لوميير في باريس عام 1895، والذي تضمن عرض عدد من الأفلام السينمائية القصيرة، جاء أغلبها في شكل تصوير لمشاهد من الحياة اليومية، أو ما يعرفه دارسو السينما باسم Actualities، وكان من بينها الفيلم الشهير «وصول القطار إلى محطة ﻻسيوتا L’Arrivée d’un train en gare de la Ciotat»، وفيلم «الخروج من مصنع لوميير في ليون». وهي الأفلام التي يعتبرها المتخصصون النواة الأولى للسينما التسجيلية.

وعلى مدار أكثر من 120 عامًا، شهدت فيهم السينما تطورًا هائلاً بفضل النزوع إلى التجريب والتجديد على كافة المستويات والعناصر المكونة لهذا الفن الحديث. ومن هنا تأتي أهمية المهرجانات والمحافل السينمائية الدولية التي تولي اهتمامًا خاصًا بالتجارب الفنية الجديدة والمتطورة. وفي دورته العشرين ضم مهرجان الإسماعيلية بمختلف أقسامه عددًا من الأفلام المميزة التي جنحت إلى التجريب والخروج عن المألوف، سواء على مستوى التناول أو على مستوى التقنية، نذكر منها؛

آلات حادة – مسابقة الفيلم التسجيلي الطويل

يدور الفيلم حول الفنان التشكيلي الإماراتي حسن شريف، مؤسس التيار المفاهيمي في الخليج، وأحد أكثر الفنانين العرب إثارة للجدل. يسرد شريف حكاياته بنفسه ويتطرق إلى أسباب اختياره لهذا الأسلوب الإشكالي في زمن لم يكن جاهزًا للثورات الفنية على حد قوله.

حاولت المخرجة استخدام تتابعات لبعض اللوحات التي تبدو بسيطة، وإن كانت تضيف إلى حالة الفيلم الذي تستعرض خلاله شخصية الفنان التشكيلي حسن الشريف. نلاحظ أن أعمال هذا الفنان نفسه تتميز بالاختلاف، ويكشف لنا الفيلم عن جوانب شخصية هذا الفنان، ولهذا كان طابع التجريب الذي استخدمته نجوم الغانم في بعض اللقطات إضافة للحالة التي تفرضها شخصية بطله.

المطار – مسابقة أفلام التحريك

يستكشف الفيلم الحدود الفاصلة بين الحق في حرية الحركة والقيود التي يضعها الأمن القومي على المجتمع. في أحد المطارات، تقطع المخالفات المفاجئة تدفق الركاب، تحاول قوات الأمن معرفة سبب الاضطراب، وتصبح الأجواء مربكة، حيث الذعر والمآسي دائمًا على بعد خطوة واحدة.

استخدمت المخرجة السويسرية ميكايلا مولر تقنية مختلفة لتنفيذ فيلمها، حيث قامت بتصميم جميع الرسومات على لوح زجاجي، ما أعطى انطباعًا طازجًا وشفافًا للمشاهد، خاصة مع الاستخدام الذكي والمبتكر لتداخل الألوان المائية على صفحة اللوح الزجاجي. فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم بمسابقة أفلام التحريك.

الحلم بموراكامي – مسابقة الفيلم التسجيلي القصير

يدور الفيلم حول المترجمة الدنماركية ميتي هولم، أشهر مترجمي الأدب الياباني بالدنمارك، ويتتبع رحلتها مع اللغة اليابانية ومحاوﻻتها للوقوف على المعنى الدقيقة لإحدى الجمل التي أوردها موراكامي في روايته الأولى “أسمع الرياح تغني”. تسافر هولم إلى اليابان وتدور نقاشات بشأن تلك الجملة بينها وبين عدد من أصدقائها المترجمين للأدب الياباني، وخلال رحلتها يظهر ضفدع ضخم يصل طوله إلى المترين في محطة مترو الأنفاق بطوكيو، يتبعها الضفدع في رحلتها للبحث عن معنى تلك الجملة.

يبدو استخدام المخرج الدنماركي نيتش أنجان للمؤثرات البصرية المتمثلة في ظهور الضفدع الضخم، شكلاً جديدًا وغير مألوف على السينما التسجيلية، يمثل الضفدع حضور موراكامي نفسه الذي ﻻ يظهر طوال الفيلم سوى من خلال شريط الصوت الذي يقوم من خلاله بقراءة بعض من نصوصه بينما تنتقل هولم بين المحطات المختلفة في رحلتها. تجربة جديدة وجريئة أضفت طابعًا سحريًا على الفيلم مستمدًا من عوالم موراكامي الأدبية.


الفيلم التسجيلي المصري

تتنافس الأفلام في مهرجان الإسماعيلية على أربع مسابقات رئيسية، هي مسابقة الفيلم التسجيلي الطويل، ومسابقة الفيلم التسجيلي القصير، ومسابقة الفيلم الروائي القصير، ومسابقة أفلام التحريك. ومن بين 62 فيلمًا يتنافسون على جوائز المسابقات الأربع جاءت المشاركة المصرية من خلال 3 أفلام فقط هي؛ «آخر من يغادر ريو» (تسجيلي قصير)، و«ماذا تفعل قبل منتصف ليلة 1 أغسطس 2016؟» (روائي قصير)، و«أول يوم» (تحريك)، مع غياب عن المشاركة في مسابقة الفيلم التسجيلي الطويل، وهو انعكاس واضح لأزمة الفيلم التسجيلي في مصر.

تتمثل الأزمة بالأساس في غياب التمويل الكافي للأفلام التسجيلية، فمع انحصار ثقافة المشاهدة السينمائية على الأفلام الروائية، بات عزوف شركات الإنتاج عن تمويل الأفلام التسجيلية أمرًا طبيعيًا، وبالتبعية غابت الأفلام التسجيلية عن دور العرض، ولم يبق من مجال لمشاهدتها إﻻ من خلال المهرجانات السينمائية، أو المراكز الثقافية «النخبوية» مثل سينما زاوية، أو معهد جوته وغيره من المراكز الثقافية الأجنبية، أو الحل الأخير الذي ﻻ يفضله صناع السينما التسجيلية وهو عرض الأفلام من خلال القنوات المتخصصة مثل قناة «الجزيرة الوثائقية» والتي تنحصر أيضًا بين فئة محدودة من الجمهور، كما أن حقوق عرضها ﻻ تتناسب على الإطلاق مع المجهود المبذول لصناعتها.

وعن تلك الأزمة يقول المخرج الكبير هاشم النحاس، أحد رواد السينما التسجيلية بمصر، في حواره مع مجلة الفيلم[1]؛

للأسف ﻻ أشعر بالاطمئنان إزاء الحاضر لأنه ﻻ توجد مؤسسة أو جهاز يتبنى السينما التسجيلية في مصر. ولكن ما يطمئنني هو وجود المبدعين من الشباب في هذا المجال، وهم يشكلون موجة غير مسبوقة في تاريخ السينما المصرية، وصنعوا أفلامًا جيدة نالت جوائز وتقديرًا بالداخل والخارج، ولكن الجمهور المصري ﻻ يشاهد أفلامهم. من دون دعم الدولة للفيلم التسجيلي، من الصعب أن تنشأ حركة تسجيلية قوية. أنا مع دعم السينما وليس تمويلها، فالتمويل الكامل مفسدة للممول نفسه (الحكومة) ومفسدة للمخرج أيضًا.

دورة مميزة

اختتم مهرجان الإسماعيلية دورته العشرين مساء الثلاثاء 17 أبريل/نيسان بالإعلان عن الأفلام الفائزة في المسابقات الأربع، وهي فيلم «آﻻت حادة» للمخرجة الإماراتية نجوم الغانم كأفضل فيلم تسجيلي، والفيلم الصربي «نفس الشيء» كأفضل فيلم تسجيلي قصير، والفيلم اليوناني «التذكرة» كأفضل فيلم روائي قصير، والفيلم الكويتي «نقلة» كأفضل فيلم تحريك. كما تم تتويج أربعة أفلام أخرى بجائزة لجنة التحكيم وهي الفيلم المجري «السجينة» (تسجيلي طويل)، والبولندي «السر العربي» (تسجيلي قصير)، والسويسري «اتجاه القبلة» (روائي قصير)، والسويسري «المطار» (تحريك).

تبقى الإشارة والإشادة بالناقد «أندرو محسن» المدير الفني للمهرجان، والتي ساهمت جهوده في خروج النسخة العشرين من المهرجان في شكلها الأفضل. أندرو محسن هو عضو جمعية نقاد السينما المصريين، شارك في لجان مشاهدة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، بالإضافة إلى إشرافه على تنسيق ندوات الأفلام للمهرجان، وكان أحد أعضاء لجنة تحكيم النقاد بمهرجان الجونة في دورته الأولى عام 2017. ويعتبر أندرو محسن (30 عامًا) أصغر من تقلد منصب المدير الفني لمهرجان الإسماعيلية، ذلك المنصب الذي سبق وتقلدته أسماء كبيرة مثل المخرجة عطيات الأبنودي، والمخرجة فريال كامل، والناقد الكبير سمير فريد.

المراجع
  1. مجلة الفيلم، العدد 12، سبتمبر 2017، ص 33.