فيلم حوّل جيل التسعينيات لطائفة كوميدية

دورة كونية طولها 25 سنة قضاها محمد هنيدي لكي يصل لذات الأسبوع الحاسم، ففي مثل هذا اليوم؛ 3 أغسطس 1998 بدأ عرض فيلم «صعيدي في الجامعة» ليطلق الشرارة التي صنعت مفهوم جيل كامل عن الكوميديا، ويستمر الفيلم، ليس فقط كمزار نفسي آمن لهذا الجيل بمخزون لا ينضب من المميز الحكيمة الحارقة، ولكن أيضاً كأنجح فيلم في تاريخ السينما المصرية على الإطلاق.

بدأ هنيدي عام 2023 بأخبار عن مشروع جزء ثانٍ من «صعيدي في الجامعة»، وانتهى بتاجر بطيخ صعيدي في فيلم «مرعي البريمو» الذي انطلق في الثاني من أغسطس، بفارق يوم واحد فقط عن الدورة الدورة المثالية، ليتبع قواعد دور العرض التي تنظم صدور الأفلام يوم الأربعاء، وهي القاعدة التي كسرها «صعيدي» بسهولة ولا مبالاة في عالم التسعينيات المتقشف.

التسعينيات رايح جاي

*تحذير من حرق الخيالات الرومانتيكية لنستالجيا جيل الشباب في التسعينيات*

مول سيراميكي حديث أمام كنيسة البازيليك، آلاف الشباب يدورون بلا فائدة في مصر الجديدة بخيال فيلم «ضحك وجد ولعب وحب» (1993) من بطولة عمرو دياب، الدرج الكهربائي يشكل تحدياً نفسياً يحتاج توافقاً عضلياً عصبياً في أثناء الصعود للطابق الأخير بالمول، حيث يوجد طابق كامل مخصص لمحبي الأفلام: متاجر بوسترات وفشار وحلويات، إضافة لمتجر شرائط يتباهى بموسيقى الأفلام الأمريكية (بخاصة تيمة Mission: Impossible في 1996)، وسينما حديثة ذات شاشتين مخصصتين غالباً للأفلام الأجنبية.

لم تكن السينما الحرية هي الوحيدة التي تضم شاشتين، فبسبب ضعف الإقبال على دور العرض الضخمة في بداية التسعينيات، بدأت موجة بطيئة لتقسيمها إلى شاشات أصغر، مثل سينما كوزموس بوسط البلد، وظهرت سينمات المولات في طيبة وهيلتون رمسيس، بشاشتين لكل منهما، وفي 1997 تباهت سينما أوديون بأنها أول مجمع سينمائي في مصر يضم 3 شاشات بعد تقسيمها.

مع تردي حال السينمات، انخفض عدد شاشات الدرجة الأولى إلى 67 شاشة فقط في موسم عيد الفطر 1997، في هذا العام، وبعد 3 أسابيع من عرض «بخيت وعديلة 2: الجردل والكنكة» أعلنت الشركة المنتجة عن مبيعات أكثر من 2.5 مليون تذكرة، وهو رقم مبالغ فيه لأنه يعني أنه خلال 21 يوماً على 20 شاشة عُرض بها الفيلم، سيكون متوسط مبيعات حفل العرض الواحد أكثر من 1500 تذكرة، وهو رقم يمكن تحقيقه فقط في أيام العيد ببعض السينمات الضخمة مثل مترو.

ما يحدث في إسماعيلية لا يبقى في إسماعيلية

من أرشيف الصحف أثناء عرض فيلم إسماعيلية رايح جاي
من أرشيف الصحف أثناء عرض فيلم إسماعيلية رايح جاي

في أغسطس من نفس العام احترقت سينما الحرية مول أثناء أسبوع عرض فيلمي «Lair Lair» و«Anaconda»، قبل أسبوع واحد من الانطلاق التجريبي لنجومية هنيدي بفيلم «إسماعيلية رايح جاي» الذي نبه المنتجين لوجود موسم آخر في الصيف خارج العيدين، واستمر «إسماعيلية» بدور العرض منافساً لأفلام عيدي الفطر والأضحى في العام التالي، ومنهم فيلم «البطل» (1998) الذي كان دور هنيدي فيه مسانداً لأحمد زكي.

بدأ «إسماعيلية» عرضه بـ11 شاشة فقط، ارتفعت إلى 20 شاشة في أسبوعه السابع. كان هذا الظهور الأول لفكرة «Word of Mouth» التي يعتمد فيها التسويق على ترشيحات الجمهور نفسه وليس الحملات الدعائية المباشرة، وهكذا تحول الفيلم إلى ترند شعبي مُلح في عصر ما قبل السوشيال ميديا، واستمر لمدة 46 أسبوعاً، وتخطت إيراداته 10 ملايين جنيه، وكان هذا حدثاً مزلزلاً من فيلم بطولة لا أحد، مقارنة بنجوم هذا الوقت. 

قبل عرض إسماعيلية، كان وجه هنيدي عنصراً ثابتاً بدور العرض منذ بداية العام، بأدوار مساندة في أفلام «بخيت وعديلة 2» مع عادل إمام، ثم «سمكة و4 قروش» مع جالا فهمي، و«حلّق حوش» مع ليلى علوي، و«البطل» مع أحمد زكي، وفي إسماعيلية كان اسمه ثالثا بعد محمد فؤاد وحنان ترك، نجاح «صعيدي» في العام التالي لم يكن مفاجئاً، ولكنه كان محصلة تراكم هنيدي الصغيرة.

بعيداً عن الحرفيين

حمل هذا العام متغيراً آخر في مواعيد بدء أسبوع العرض السينمائي، فمنذ بداية السينما في مصر كان الأسبوع يبدأ يوم الإثنين وينتهي الأحد، في توافق مع عطلات نهاية الأسبوع الغربية، لكن في مصر التسعينيات مال وزن الإيرادات إلى ليلة الخميس (ولاحقاً الجمعة)، كانت أول تجربة للنظام الجديد بفيلم جيمس بوند «Tomorrow Never Die» في الأربعاء 4 فبراير، ثم تغير أسبوع العرض لكل الأفلام 4 أبريل.

لم يكن هذا مجرد تعديل إداري، ولكنه انتقال لعصر جديد ينهي ارتباط السينمات بعطلات الحرفيين يوم الأحد، كان هذا ارتباطاً ذهنياً لا أكثر، دعمه تردي حال السينمات، رغم أن الطبقة الوسطى كانت هي الداعم الرئيسي للسينما في كل الأحوال، وزن الطبقة الوسطى ظهر في إيرادات “Titanic” الذي انطلق في 18 فبراير واستمر لمدة 37 أسبوعاً وبلغت إيراداته 9.3 مليون جنيه.

لطمأنة الجمهور، أعلنت شركة «سينمات عثمان جروب» أن تجربة مشاهدة «تايتانيك» في سينما طيبة لن تقل جودة عن سينما الحرية المحترقة، وروجت له بتوزيع بوسترات بطله ليوناردو دي كابريو، لتجمع سينما طيبة وحدها أكثر من 2.5 مليون جنيه للفيلم بسعر تذكرة 15 جنيهاً، في فبراير أيضاً افتتحت رينيسانس أول سينما لها في مركز التجارة العالمي على كورنيش بولاق بفيلم «هيستريا»، وركزت إعلانات السينما على جودة الصوت، وأنها الوحيدة المزودة بتجهيزات للأشخاص ذوي الإعاقة، موقع السينما غير المعتاد استلزم نشر خريطة لها.

ظهر «صعيدي» في هذا العام الانتقالي، وأعلن عن هويته “شبه الشعبية” ببدء عرضه يوم اﻹثنين 3 أغسطس على النظام القديم، أسبوع الافتتاح كان عبر 22 شاشة، تضمنت سينمات طيبة وهيلتون رمسيس، لكن لم يُعرض في رينيسانس إلا في حفلات منتصف الليل.

9 ملايين صعيدي

من أرشيف الصحف لتغطية العرض الأول لصعيدي في الجامعة الأمريكية 1998
من أرشيف الصحف لتغطية العرض الأول لصعيدي في الجامعة الأمريكية 1998

انطلق الفيلم عبر 22 شاشة، وهو عدد ضخم يوازي أفلام كبار النجوم واستلزم طباعة 26 نسخة لعرضه أيضاً بحفلات منتصف الليل، وسجل في أسبوعه الأول 1.9 مليون جنيه، واستمرت إيراداته في التصاعد حتى الأسبوع الثالث، وروج أبطال الفيلم له بحضورهم عرض الساعة السادسة في سينما فندق شيراتون بالجيزة.

من أسبوعه الرابع، أدمنت شركة «أفلام النصر» الموزعة لـ«صعيدي» إصدار إحصائيات بعدد التذاكر المباعة، مليون مشاهد في 3 أسابيع، مع إضافة نصف مليون أسبوعياً حتى وصل الرقم إلى 9 ملايين في أسبوعه الـ18.

رقم آخر مخادع، فبافتراض صحة هذا الرقم، دون إضافة مبيعات الأسابيع التالية (استمر الفيلم 33 أسبوعاً متواصلاً إضافة لثلاثة أسابيع متقطعة)، ومع احتساب أقل سعر للتذكرة 5 جنيهات فقط، تصل إيرادات الفيلم إلى 45 مليوناً على الأقل، شركات إنتاج وتوزيع الفيلم لم تدع أبداً هذا الرقم، والإيرادات السائدة إعلامياً كانت 27 مليون جنيه، الإحصاءات الأكثر دقة سجلت إيرادات الفيلم عند 23.4 مليون جنيه.

وبمعادلة أثر التضخم عبر 25 سنة، تتخطى قيمة هذا الرقم الآن أكثر من 260 مليون؛ أعلى قيمة إيرادات في تاريخ شباك التذاكر المصري، ومن غير المتوقع أن يصل إليها فيلم آخر في المستقبل القريب.

ولم يقترب هنيدي من تحقيق نجاح مماثل، فيلمه التالي «همام في أمستردام» (1999) توافرت له عناصر أضخم في الإنتاج والتوزيع وتوقفت إيراداته عند 20 مليون جنيه، ثم «جاءنا البيان التالي» (2001) بإيرادات 17.3 مليون، كل الزيادات اللاحقة كانت تحت تأثير التضخم في الأسعار.

مرة واحد صعيدي

محمد هنيدي ومنى زكي من فيلم صعيدي في الجامعة الأمريكية
محمد هنيدي ومنى زكي من فيلم صعيدي في الجامعة الأمريكية

مرتدياً بدلة كاملة بلون المسطردة، يسجل خلف الدهشوري خلف دخوله الأول في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، تستقبله سيادة (منى زكي) بملاحظة على هذه الأناقة غير المتناسبة مع المكان، فيرد «دي أقل بدلة عندي، أنا مارضيتش أجيب باقية البدل من البلد عشان شعور الزملا بس».

فلنتخيل نفس المشهد دون هنيدي، وفي مكانه كوميديان مصري من المدارس السابقة، الرد كان سيختلف تماماً، أولاً لأن مهنة الكوميديا لم تصبح عملاً فردياً، مع جيل المضحكين الجدد هي أشبه بمباراة بينج بونج، يقوم الممثل المساند بفرد الإفيه لكي يتممه الممثل الرئيسي.

السبب الثاني هو أن خلف ليس بأبله جاهل بنقاط ضعفه، يأتي الإفيه من إدراك خلف للفارق الاجتماعي الواضح بين ملابسه ومظهر زملائه، فيأتي الإفيه بتجاهل تنمر زميلته والتعلية عليها أيضاً، وعي البطل بضعفه مهم في بناء هذا النوع الكوميدي، لأنه يحتم عليه مواجهة وعلاج عوامل ضعفه في النهاية، وليس الاستكانة لها، يمكن مقارنة خلف الهادئ بشخصيات هنيدي الصاخبة المبهرجة في أفلام أخرى، مثل «فول الصين العظيم» أو «عندليب الدقي»، وفيها شخصية البطل الأبله الغائب عن الواقع تماماً، انتظاراً للحظة استفاقة مفاجئة في النهاية. 

بجانب الكوميديا الذكية، تضمن الفيلم الأغنيات الاستعراضية كأحد عوامل الجذب الموروثة من “إسماعيلية”، وأضاف المؤلف مدحت العدل خطاباً ناصرياً على مستوى سياسي منذ المشاهد الأولى عندما يتشاجر خلف في القطار مع شاب يرتدي قميصاً بالعلم الأمريكي، وصولاً لمشهد نضوجه بإحراق العلم الإسرائيلي؛ وعلى مستوى اجتماعي بالإشارة المستمرة لتحلل طبقة الأغنياء وأبنائهم، إضافة لموضوعات معاصرة فرعية مثل الحجاب وتخبط الشباب.

لكن الموازنة الأخطر بالفيلم، هي محافظته على مظهر العرض العائلي الآمن، مفهوم السينما النظيفة كان قيد التطوير في هذا الوقت، لكن ضغوط عائلات الطبقة الوسطى كان واضحاً للجميع، بذات الوقت كان خطاب الفيلم موجهاً لشباب لم يتبلور موقعهم الاجتماعي بعد، مثل الأفلام النظيفة كان موضوع الجنس حاضراً بشكل ما، هنا كان بمشهد مستورة عاملة الجنس (الممثلة سمارة) التي يتورط معها خلف بتخطيط من زملاء السكن، ثم يلجأ لها كصديقة لتخبره بأن سبب ارتيادها للدعارة هو هجرة زوجها للعراق واختفاؤه هناك مثل آلاف المصريين، هذا الخط بالكامل لم يشكل تهديداً للأسر التي شاهدت الفيلم بحضور أطفالها.

الفيلم كله عبارة عن رحلة صعود اجتماعي لأحد المهمشين، وهي رسالة إيجابية معتادة، ولكن اختيار نموذج المهمش هذه المرة، وعدم الانجراف لنمط النكتة التقليدية «مرة واحد صعيدي» جعله قادراً على تسجيل النجاح المادي، ثم التغلغل في نظرة جيل كامل لنفسه والسخرية منها أيضاً، والاستمرار بهذا على مدى ربع قرن.