الآلاف من الأطباء لبّوْا دعوة نقابتهم لعقد جمعية عمومية فى القاهرة وسط شلل تام لأغلب الاحتجاجات السياسية وغير الساسية فى كافة القطر المصري، جمعية عمومية وصفت بالتاريخية، وهتافات ضد جهاز الشرطة المصرية، ومطالب بالكرامة ورد الاعتبار وأشياء أخرى. تجربة بعثت بعض الشرر في رماد الحراك والتغيير الذي خبت جذوته في أرجاء الوطن العربي. ولكنها لم تكن صيحة وحيدة، بل على الأرجح كانت رجع صدًى لتجارب عربية أخرى.


فشل الأحزاب يدفع بالنقابات كبديل
غياب الدور الفعال للأحزاب السياسية العربية القديمة والجديدة في أعقاب الربيع العربي أتاح الفرصة للنقابات العمالية أن تلعب دورًا أكبر في المراحل الانتقالية في عدد من الدول العربية.
فشلت الأحزاب السياسية العربية في تحقيق أهداف ومطالب الربيع العربي، وفشلت في الحفاظ على مكتسباته في الدول التي شهدت إطاحة برؤوس النظم السياسية الحاكمة، أو في الدول التي عملت على أن يكون ربيعها هادئًا وتبنّت سياسات إصلاحية على المستوى الاقتصادي والسياسي. فالقارئ للأوضاع العربية منذ 2011 يرى أن الأحزاب السياسية ما زالت تعاني من هشاشتها وضعف هياكلها التنظيمية والقاعدية، وغياب شعبيتها وتأثيرها في الحياة السياسية، وفقدان ثقة جماهيرها.بالرغم من أن الربيع العربي أعطى للمهمشين مساحة من حرية التنظيم السياسي وتكوين الأحزاب السياسية، إلا أن تلك الأحزاب الجديدة أيضًا انخرطت في صراعات السلطة دون تحقيق إنجاز شعبي يذكر، وبالتالي فإن غياب دور فعال للأحزاب السياسية التقليدية التي وجدت قبل الربيع العربي والأحزاب السياسية الجديدة التي شكلت بعده أتاح الفرصة لتنظيمات أخرى مثل النقابات العمالية أن تلعب دورًا أكبر في الحراك السياسي في الفترات الانتقالية في عديد من الدول العربية، وهو ما يؤهلها لأن تلعب دورًا أكبر في رسم مستقبل النظم السياسية العربية.
النقابات العمالية من التهميش إلى الحراك الاجتماعي
مثّلت الفترة ما بعد 2006 بداية صحوة عمالية في عدد من الدول العربية؛ نتيجة تضافر عوامل كثيرة تدور حول تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومساحة الحرية التي خلقتها الديمقراطية الجزئية في بعض الدول العربية.
شهدت الفترات قبل 2011 غيابًا تامًّا لدور النقابات العمالية في الحياة السياسية، حيث نجحت الأنظمة السياسية حينها في تسييس النقابات واختراقها أمنيًّا، وأفقدتها استقلالها حيث اعتبرت بعض الأنظمة السياسية النقابات جزءًا تابعًا للسلطات العامة، فيما عملت بعض الدول العربية على توظيف تلك النقابات كظهير انتخابي لها في بعض الأحيان. وفي بعض الدول العربية تكاد الحريات النقابية تكون معدومة مثلما في دول الخليج العربي. فيما واجهت بعض الدول دور النقابات العمالية بالتعامل الأمني القمعي، وبإجراءات الجزاء الإداري أحيانًا أخرى مثلما في الأردن.تعود بدايات الصحوة العمالية في الوطن العربي إلى 2005 و 2006 حينما شهد عدد من الدول العربية مثل الأردن ومصر عددًا من الإضرابات والاحتجاجات العمالية والتي تزايدات مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية نتيجة التوسع في سياسات الخصخصة والانفتاح الاقتصادي. كما أن الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008 أدت إلى إلحاق أضرار عديدة بالعمال، مما دفعهم إلى المطالبة بحقوقهم. بالإضافة إلى أن التوسع في موجة الديمقراطية الجزئية في الوطن العربي والسماح بمساحات ضئيلة من حرية التنظيم والتجمع وحرية التعبير أعطى للعمال مساحة أكبر للتحرك.بالرغم من هذا الحراك العمالي في الفترة التي سبقت الربيع العربي بخمس أو ست سنوات، إلا أن دور العمال في الربيع العربي لم يكن واضحًا بشكل ممنهج أو قيادي. وربما يرجع هذا لهشاشة تلك التنظيمات قبيل الربيع العربي، والقيود المفروضة على عمل تلك التنظيمات وأفرادها، وصعوبة قدرتها على الحشد نظرًا لفقدانها مصداقية لدى جماهيرها، وانكفائها على المفاوضات مع السلطة من أجل تحقيق مكاسب مالية بسيطة لأفرادها. ولكن مع اندلاع ثورات الربيع العربي استفادت تلك التنظيمات من مكتسبات الربيع العربي، وعملت على لعب دور أكبر في المراحل الانتقالية في عدد من الدول مثل تونس ومصر والمغرب، ولكن ظل دورها يتمحور حول تحقيق أكبر مكاسب مالية واقتصادية للعمال دون أن يكون لها تحقيق مكاسب أو مطالب سياسية. وهنا نرصد ثلاث تجارب عربية تباينت قدرتها في التأثير في الحياة السياسية في المراحل الانتقالية؛ التجربة المصرية، والتونسية، والمغربية.
مصر: دورٌ متنامٍ وقمعٌ متزايد
3389 هو عدد الاحتجاجات العمالية في مصر خلال عامي 2014 و 2015 حسب إحصائيات منتدى المحروسة للبحوث والسياسات العامة.

يشير تقرير دار الخدمات النقابية المعنون بـ «الحصاد المر: تقرير حول انتهاكات الحريات النقابية في عام 2015» إلى أن العمال المصريين اندمجوا في ثورة 25 يناير، حيث بدأ العمال تظاهرهم في 16 يناير 2011 أمام مصانع أحمد عز بالمنطقة الصناعية شمال غرب خليج السويس احتجاجًا على السياسات الحكومية الاقتصادية الداعمة لرجال الأعمال على حساب العمال.

كان من نتاج ثورة 25 يناير وأحد أبرز مكتسبات العمال بعدها حصولهم على الاستقلال والحرية وذلك من خلال إصدار إعلان الحريات النقابية في 12 مارس 2011، وأعقبه إصدار قرار رقم 187 لسنة 2011 والذي قضى بحلّ الاتحاد العام لنقابات عمال مصر. ومع ذلك يظل قانون 35 لسنة 1976 هو المنظم للنقابات العمالية في مصر حتى الآن. وبالرغم من تقديم مشروع قانون للنقابات العمالية في منتصف 2011، إلا أنه لم يخرج من مكاتب الحكومات المتتالية.ورغم تلك المكتسبات إلا أن الحكومات المتعاقبة وخاصة حكومات ما بعد 3 يوليو عمدت إلى تغييب دور النقابات المستقلة وتهميشها، متجاهلة النصوص الدستورية التي جاءت بعد 2011 وأكدت على حق تأسيس النقابات وضمان استقلاليتها. ولم تكتفِ السلطات بتغييب الدور فقط ولكن عملت على تقييد حرية العمل النقابي، من خلال إصدار المرسوم العسكري رقم 34 لسنة 2011 والذي جرم الإضراب، وكذلك قانون التظاهر الذي أصدر فيما بعد سقوط نظام الإخوان. كذلك شنت هجمة إعلامية منظمة وممنهجة ضد النقابات المستقلة واتهامها بالتخوين وتعطيل مسيرة الإصلاح الاقتصادي في البلاد. كذلك عمدت السلطات التنفيذية والممثلة في وزارة القوى العاملة في الاستمرار بتصريحات مناهضة للنقابات المستقلة، بل والتدخل في شئون النقابات المستقلة. بالإضافة إلى التنكيل والتعامل الأمني مع النقابيين ووصولًا إلى التصريح العلني لرئاسة الجمهورية في الكتاب الدوري السنوي الصادر عن مجلس الوزراء في 25 نوفمبر 2015، والذي يقضي بتجاهل التعامل مع النقابات المستقلة والتعامل فقط مع النقابات العامة، وهو ما أعقبه تصريح لوزير القوى العاملة: «لن أعترف بالنقابات المستقلة»، مشيرًا إلى إعداد مشروع قانون جديد للنقابات لمواجهة أي كيانات غير شرعية للعمال.بالرغم من هذا التعنت والتنكيل بحرية العمل النقابي إلا أن واقع الحركة العمالية في مصر يشير إلى تزايد فاعلية النقابات العمالية والمهنية بشكل عام، وهو ما يوضحه تزايد عدد الإضرابات والاحتجاجات العمالية في مصر خلال السنوات الماضية ضد سياسات الحكومة الاقتصادية، وللمطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وضمان حرية استقلال تلك الكيانات والحفاظ على كرامة أفرادها، وهو ما نقرؤه في احتجاجات نقابات الصحفيين والمحامين والأطباء، بالإضافة إلى احتجاجات النقابات المستقلة المتزايدة، وهو ما يرسم بدوره دورًا أكبر لتلك الكيانات في تخطيط مستقبل الحياة السياسية في مصر في ظل الأزمات الاقتصادية الحادة.


تونس: إرث تاريخي متوّج بنوبل للسلام

كان لدور الاتحاد العام التونسي للشغل الفضل الأكبر في إنجاز مرحلته الانتقالية، مما جعله يستحق ضمن رباعي الحوار جائزة نوبل للسلام في عام 2015.اتسم دور الحركة العمالية التونسية بالأصالة التاريخية، حيث تعود بوادرها في عام 1920 إبان الاحتلال الفرنسي وقادت في حينها النقابات النضال ضد الاستعمار ، وشاركت في التحركات الشعبية ضد الاستعمار وضد سياسات الاستبداد التي اتبعتها أنظمة ما بعد الاستقلال مثل احتجاجات الخميس الأسود 18 يناير 1978، وانتفاضة الخبز 1984.كان لوعي الاتحاد العام للشغل في تونس بخطورة الأوضاع الاقتصادية والتنموية بالبلاد العامل الأكبر للحضور الثوري للاتحاد في ثورة الياسمين والتي انطلقت من سيدي أبو عزيز، كما أن وجود عناصر قومية ويسارية بالاتحاد ساعد من تنامي هذا الدور للاتحاد ضد استبداد وقمع نظام ابن علي، فقد أصدر الاتحاد بيانًا في 18 ديمسبر 2010 طالب فيه بإطلاق سراح الموقفين وسحب قوات الأمن من الشارع. وساند الاتحاد التحركات الشعبية حتى سقوط نظام ابن علي، كما كان للاتحاد دور في المشاركة بشكل رسمي في حكومة الغنوشي التي تلت الإطاحة بابن علي بثلاث وزارات ولكنه انسحب منها. وساعد الاتحاد اعتصاميْ القصبة 1 والقصبة 2 واللذين أطاحا بحكومة الغنوشي، كما مثّل الاتحاد بـ4 أعضاء في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي، كما كان الاتحاد عضوًا برباعي الحوار في تونس والذي حاز على جائزة نوبل للسلام، وبذلك اعتُبر الاتحاد الراعي الأول للحوار من أجل إنقاذ المرحلة الانتقالية.بالرغم من الدور القيادي للاتحاد، سارعت قوى عمالية مختلفة بعد ثورة الياسمين بالدعوة إلى التحول من فكرة النقابة الواحدة التي سيطرت على عقلية النظام السياسي التونسي في فترة ما بعد الاستقلال إلى التعددية النقابية، وهو ما تضمنه الدستور التونسي الجديد من حق تكوين النقابات وتعددها وحرية الانضمام إليها، وهو ما سارع من إنشاء نقابات مستقلة ومنشقة عن الاتحاد العام التونسي للشغل. كانت الدعوة إلى التعددية النقابية قد انطلقت في عدة محاولات سابقة منذ عام 1957.وقوبلت دعوات التعددية النقابية بمزيد من الاتهامات من حيث كونها عبئًا على الحياة الاقتصادية للبلاد، وأن الإضرابات العمالية مسئولة عن تراجع إنتاجية الاقتصاد التونسي، كما اتهمها البعض بأن التعددية تضعف مركزية النقابات الممثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل، كما أن علاقة الاتحاد العام للشغل بالسلطة الحاكمة كانت متواترة ومتغيرة فقد هوجمت مقراته في 2012.اتخذ الاتحاد موقفًا محايدًا من المشاركة في العملية الانتخابية التي شهدتها البلاد في 2014، حيث رفض المشاركة بقائمة نقابية في الانتخابات، ولكن فضّل أن يكون له دور رقابي على الانتخابات، ودعم المشاركة الفعالة في التصويت، وتأسيس مرصد انتخابي، كما أعلن في الذكرى الرابعة للثورة أنه غير معنيّ بالحكم.دفعت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدنّية بالبلاد إلى عودة الاحتجاجات المطلبية بقوة في القصرين وامتدادها إلى باقي المدن التونسية في أعقاب الذكرى الخامسة للثورة التونسية، وهو ما دفع الاتحاد إلى إصدار بيان لمساندة المطالب المشروعة للمهمشين والمعطلين، وطالب الحكومة بسرعة اتخاذ الإجراءات لمعالجة أوجه القصور، كما أكد على ضرورة سلمية التظاهرات.


المغرب: انتفاضة استثنائية

اتخذ النموذج المغربي في التغيير طابعًا استثنائيًّا في أعقاب اندلاع الربيع العربي، فلقد سارع النظام الحاكم في المغرب في الاستجابة للاحتجاجات التي شهدتها المغرب في 2011 وانطلق في إنجاز بعض الإصلاحات السياسية، ولكن اقتصرت في إصلاحات دستورية زادت من صلاحيات الحكومة والبرلمان، وكذلك بعض الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية.وبالرغم من استثنائية وخصوصية ربيع المغرب، إلا أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسات التي تبنتها حكومة بنكيران أدت إلى انتفاضة عمالية، امتدت أحداثها منذ عام 2013 وحتى الآن، هادفة إلى تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية والاجتماعية مثل ما جاء في بيان الاتحاد العام للشغالين بالمغرب في نوفمبر 2015، كالآتي: تخفيض الضغط الضريبي على الأجور، رفع سقف الأجور المعفاة من الضريبة إلى 6000 درهم شهريًّا، إلغاء للفصل 288 من القانون الجنائي واحترام حرية العمل النقابي، تنفيذ ما تبقى من بنود اتفاق 26 إبريل 2011، السهر على احترام مدونة الشغل وإجبار المشغلين على التصريح بالأجراء، فتح الباب أمام الحوارات القطاعية، تقنين العمل بالعقدة، خلق خلية وزارية لتنقية الأجواء الاجتماعية في الوحدات الإنتاجية، و إيجاد الحلول المناسبة.ولكن قوبلت تلك المطالب بالرفض فيما عرفت بـ لاءات بنكيران العشر وهو ما زاد من احتقان النقابات ضد السلطة ودعت إلى إضراب عام في 24 فبراير 2016؛ نتيجة تعنت الحكومة ورفضها مطالب العمال، وكذلك غلاء المعيشة، ومشاريع قوانين إصلاح أنظمة المعاشات والتي تراها النقابات تهديدًا للسلم الاجتماعي. وقوبلت الدعوة بتأييد كثير من القطاعات على المستويين الخاص والعام، وكذلك دعم النقابات المركزية الأربعة في هذا الإضراب وهو ما جعل البعض يصف هذا الإضراب بأنه الثاني منذ 1981.في الوقت نفسه تسعى الحكومة المغربية لإصدار مشروع القانون التنظيمي المتعلق بممارسة النقابات للحق في الإضراب، في حين أبدت النقابات العمالية قلقها من هذا القانون، خوفًا من وضع شروط تسمح بتعرقل الممارسة النقابية، كما انتقدت القانون من حيث انفرادية الحكومة في وضع القانون.تأتي دعوة الإضراب العام في فبراير 2016 بعد أن فشل عدد من الإضرابات في السنوات السابقة، ويرى كثيرون أن حكومة بنكيران تزيد من مرحلة الاحتقان الاجتماعي.


هل يعني هذا أننا سنشاهد اليسار يحكم؟

الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة في ظل سياسات إصلاحية اقتصادية بطيئة أو انفتاحية في العديد من الدول العربية تؤدي إلى مزيد من الاحتقان الجماهيري العربي، خاصة في ظل ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، وارتفاع الأسعار وعجز الموازنات مع زيادة نسبة الاقتراض من الخارج، بالإضافة إلى العوامل السياسية والأمنية، كل هذا سيدفع إلى مزيد من موجات التغيير في الوطن العربي، وهو ما يطرح ضرورة وجود بديل أيديولوجي قادر على التعامل مع الأزمات الاقتصادية. فكما حدث في بعض الدول الأوروبية أن الأزمات الاقتصادية أتت باليسار في اليونان، فهل ستأتي الأزمات الاقتصادية باليسار في الوطن العربي؟!.تبقى مؤشرات سيناريو توظيف اليسار لتلك الاحتجاجات لصالحه ضعيفة؛ وذلك لضعف اليسار عمومًا وما يواجهه من أزمات داخلية وتنظيرية، وفقدانه لبرنامج اقتصادي وسياسي بديل يكون قادرًا على استعادة ثقة الجماهير فيه. بالرغم من ضعف هذه المؤشرات، إلا أن هذه الاحتجاجات ستزيد من فرصة اليسار في الحصول على مكاسب سياسية عديدة أخرى.