إن الذي نريده سينما مصرية، أي سينما تتعمق في حركة المجتمع المصري وتحلل علاقاته الجديدة وتكشف عن معنى حياة الفرد وسط هذه العلاقات، ولكي تكون لدينا سينما معاصرة، لابد أن نمتص خبرات السينما الجديدة على مستوى العالم كله، وعندما تكون السينما واقعية محلية الموضوع عالمية التكنيك واضحة المضمون بفضل تعمق السينمائيين لواقعنا، فسوف تستعيد جمهورها كما تحقق انتشارا عالميا.
من بيان جماعة السينما الجديدة

الاقتباس السابق من بيان جماعة السينما الجديدة الذي أصدره مجموعة من السينمائيين في مايو 1968، حددوا فيه مفهومهم للسينما، وأعلنوا أنهم يقفون ضد المفهوم التقليدي المتخلف للإنتاج السينمائي في مصر الذي سيطر على إنتاج القطاع العام. في هذا العام كان قد مضى على إنشاء المعهد العالي للسينما في القاهرة 9 سنوات، تخرجت خلالها 5 دفعات تضم أكثر من 650 خريجًا في جميع الأقسام من الإخراج والسيناريو والتصوير والمونتاج.. إلخ، ولم تكن هناك خطة واضحة للاستفادة من كل ذلك الكم من المخرجين الذين لم يكن أمامهم فرصة لاكتساب خبرة عملية من خلال التدريبات ومشاريع الأفلام بسبب تدهور الميزانية وسيطرة العقلية البيروقراطية على هذا القطاع.[1]

أكثر من 50 عامًا مضت على بيان جماعة السينما الجديدة ولا تزال السينما المصرية تعاني الأزمات نفسها بشكل أفقد مثل «ما أشبه اليوم بالبارحة» أي معنى، وإلى الحد الذي يدفعنا للقول بأننا لا نزال نعيش البارحة ولم نبلغ اليوم بعد. 5 عقود طوال تطورت فيها السينما العالمية بموازاة تطور التكنولوجيا، وأصبحت صناعة السينما في متناول الجميع. يكفي أن تمتلك كاميرا هاتفك المحمول لتصنع فيلمًا، وتطالعنا المهرجانات العالمية والمحلية بالجديد والقيم من الأعمال السينمائية من مختلف بلاد العالم، ولا تزال السينما المصرية تقدم الرث والرديء بشكل حصري كما لو كان الزمن قد توقف بين يديها.

على مدار العقد الأخير، شهدت السينما المصرية انتقالات حادة ما بين الركود والرواج. تراجع الإنتاج الخاص بشكل ملحوظ، ودخلت الدولة السوق بشكل مباشر وغير مباشر، وبخطى حذرة للغاية. ازدادت العملية الإنتاجية صعوبة وارتفعت مخاطرها. هاجر العديد من صناع السينما إلى التلفزيون، وبقيت المحاولات القليلة النادرة خارج هذا الإطار التقليدي باهتة ومفلسة تمامًا. من بين هذه المحاولات ثلاثة أفلام طرحت بدور العرض خلال الشهور القليلة الماضية هي أفلام: «لما بنتولد» من إخراج تامر عزت، و«صندوق الدنيا» من إخراج عماد البهات، و«بعلم الوصول» من إخراج هشام صقر، وهي الأفلام التي تؤطر بشكل واضح لأزمة السينما المصرية في الوقت الراهن.

البحث عن سينما ثالثة

إن المحاولات الجريئة لصانعي الأفلام، الذين جاهدوا لفتح حصن السينما الرسمية، انتهت، وكما يقول جان لوك جودار ببلاغة، إلى أنهم هم أنفسهم «اصطيدوا داخل الحصن» .[2]

هناك العديد من القواسم المشتركة التي تجمع بين الأفلام الثلاثة، أبرزها هو أنها صنعت بإنتاج فردي أو مستقل، باستثناء فيلم «بعلم الوصول» الذي شارك في إنتاجه المنتج والسيناريست محمد حفظي من خلال شركته (كلينك فيلم). كما أنها جميعًا لم تعتمد في بطولتها على نجوم الصف الأول. وهو ما يعنى أن الأفلام الثلاثة تعتبر مغامرات إنتاجية لأصحابها خارج نطاق الشكل التقليدي للإنتاج المصري.

تجتمع الأفلام الثلاثة أيضًا في رؤية أصحابها لما يمكن أن نطلق عليه الفيلم الفني أو الجاد المقابل الموضوعي للفيلم التجاري، وهو جهد مشكور بكل تأكيد بحثًا عن مساحة بديلة ومختلفة عن السينما المصرية السائدة، بيد أنه جهد لم يصب هدفه.

عارض بيان جماعة السينما الجديدة طرق الإنتاج المتخلفة التي تتبعها المؤسسات الحكومية، وأرجع تخلف نظام الإنتاج المصري السائد إلى سيادة نظام النجوم، وما يتبعه من بناء سيناريوهات لا تقوم على تحليل الواقع الإنساني، وإنما تكتب لخلق جو يحيط بالنجم، وأن الميزانيات توضع على أساس مجموع النجوم لا على أساس دورة الفيلم الحقيقية في السوق. وهنا نسأل: أين تقع الأفلام الثلاثة من بيان جماعة السينما الجديدة؟

تدور قصص الأفلام الثلاثة في إطار واقعي، إذ يتناول فيلم «لما بنتولد» مجموعة من الشخصيات تدفعها أحلام مبتورة بفعل الوضع الاقتصادي والاجتماعي والديني، وهو في ذلك لا يختلف كثيرًا عن فيلم صندوق الدنيا الذي يتناول أيضًا مجموعة من الشخصيات المختلفة التي يجمعها المكان «وسط المدينة». أما في «بعلم الوصول» فتدور القصة حول أم تعاني من الضغوط المرتبطة باعتلال صحتها العقلية، وحزنها على فراق والدها، وسجن زوجها. كلها قصص تدور في إطار واقعي لكنها لا تعدو أن تكون إعادة تدوير لمجموعة من الكليشيهات المتكررة في السينما المصرية والتي تدعي عمقًا زائفًا في تحليل الواقع الإنساني لشخصياتها.

في عقد الستينيات كذلك، صك منظرو السينما مصطلح «السينما الثالثة»، والذي يعني في أبسط تعريفاته: «سينما تقر مسألة إزالة الطابع الاستعماري الذي يكسو الثقافة». رغم أن المفهوم غارق في التحليل الأيديولوجي الذي كان علامة تلك الحقبة الزمنية، إلا أنه لا يخلو من دلالة واضحة على حال السينما العالمية والمحلية في وقتنا الحالي. فقد تغولت الهيمنة الثقافية الأمريكية على مختلف شعوب العالم فيما يطلق عليه دارسو العلوم السياسية «الاستعمار الجديد»، وبلغ أثرها مداه على قطاع السينما فأصبحت السينما التجارية على مستوى العالم -ومنها مصر- تحاكي النموذج الهوليوودي، ومن ثم فقد أصبحت كل المحاولات المتمردة على هذا النموذج تنطوي تحت مفهوم «السينما الثالثة».

تتخذ الأفلام الثلاثة مظهر التمرد على الشكل التقليدي للإنتاج السينمائي في مصر، ولكنها في الحقيقة لا تقدم بديلاً ذا قيمة فنية معتبرة وذلك عبر سيناريوهات مفككة تقدم طرحًا ساذجًا للواقع. في فيلم «لما بنتولد» نرى شاب تدفعه الظروف الاقتصادية المزرية إلى العمل كبائع هوى. هكذا بكل بساطة تتخذ الشخصية هذا القرار المتطرف دون أي مقدمات مقنعة سوى الفقر، ودون أي محاولة لتحليل ملابسات القرار على المستوى الاجتماعي والأخلاقي والديني، وهو ما اعتادت السينما المصرية تقديمه في الكثير من أعمالها لكن مع الفارق الجوهري في نوع الشخصية إذ كان من الشائع أن تكون هذه الشخصية امرأة وليس رجلاً.

في صندوق الدنيا الذي تدور أحداثه في مركز العاصمة، نرى إشارة متكررة تربط بين الفقر والحياة في الأقاليم والمحافظات عبر مجموعة من الشخصيات، وهو طرح لا يخلو من سطحية وسذاجة كما لو كان الفقر لا يعرف طريقه إلى القاهرة. نرى إحدى الشخصيات التي تعمل كبائعة خضار أتت إلى العاصمة هربًا من الفقر، لا يبدو من حجم وشكل محل الخضروات (في الحقيقة ما ظهر في الفيلم هو محل لبيع الفاكهة) أنها تعاني من أزمة مادية. ونرى كذلك سائق الميكروباص الذي يرى القاهرة هي (الجنية أم الشعور) التي اعتادت خطف الرجال، ونرى الحاوي الذي يأكل الزجاج ويستلقى على المسامير من أجل كسب العيش. ونرى موظفة الاستقبال بإحدى العيادات الطبية التي ترضى بالزواج العرفي من الطبيب. كلها قصص تدور في إطار الكليشيه المصري الذي تكرر مرارًا عبر تاريخ السينما والذي يقدم رؤية أخلاقية ساذجة لقضية مزمنة مثل الفقر، دون أي محاولة لقراءة الواقع المعاصر وتحليله.

أما في بعلم الوصول والذي يختلف قليلًا في موضوعه، إذ اختار صناعه اقترابًا مغايرًا لمحاولة إضفاء العمق الفلسفي على قصته، فيركز بالأساس على أزمة البطلة النفسية، والتي يوردها الفيلم دون أي مبرر درامي واضح سوى وفاة الأب، ويخلط بشكل سطحي بين الاكتئاب والهلوسة، فيختلط العقلي بالنفسي كما يختلط البقدونس والكزبرة على مشتري الخضروات.

المتفرج الحائر بين الضجر والتقليد

في منتصف الفيلم تمامًا، انقطع الشريط الفيلمي وعادت الأضواء إلى القاعة المظلمة إيذانًا ببدء فترة الاستراحة. خرج عدد من الحضور القليل، بعضهم إلى الحمام، والبعض الآخر لشراء وعاء باهظ الثمن من الفيشار. وجلست أنا أستمع إلى ثلاث فتيات جلسن خلفي تقول إحداهن: (مفيش حاجة بتحصل في الفيلم). عند هذه النقطة كان فيلم صندوق الدنيا قد فرغ من تقديم شخصياته الكثيرة دون أي جاذبية تذكر، أو دافع حقيقي لاستكمال الفيلم.

الأزمة نفسها تتكرر في بعلم الوصول، ولما بنتولد، إذ نشاهد عددًا من الشخصيات السطحية أحادية البعد التي تعاني من صراع درامي مفتعل ليس له ما يبرره، وتنتهي إلى حلول تقليدية لا تفاجئ المشاهد الذي سبق وشاهدها مرارًا في أفلام لا يذكر اسمها.

في الوسط الفني تشيع الإشارة إلى النص السينمائي (السيناريو) بلفظ (الورق)، ويتفق غالبية العاملين في صناعة السينما بأن أزمتها هي (أزمة ورق)، وهي مقولة لا تفتقد إلى الصواب، ولكننا نجد لها تفسيرًا مقنعًا في حالة الأفلام التجارية التي تتحكم فيها اعتبارات المنتج والنجم، أما في حالة التجارب القليلة خارج إطار الشكل التقليدي للإنتاج، فلا نجد أي تفسير لخروج النص السينمائي بكل هذا الكم من الترهل والتفكك.

في كتابه «أزمة السينما العربية» يشير المخرج الأردني عدنان مدانات إلى أن ثمة نوعًا ثالثًا من السينمائيين ما بين التجاري والجاد، يسعى للتوفيق بين النمطين الثقافي والتجاري من السينما، ولكسب طرفي الجمهور؛ النخبة والجماهير العريضة معًا. ويؤكد مدانات إلى أن هذا النوع الثالث ينقسم إلى قسمين: الأول يقوده سينمائيون من أصحاب الموهبة والفكر، والثاني يتكون من قليلي الموهبة والفكر غير الناضج. وفي حين أن القسم الأول لا يزال يتعلم، ويرضي النقاد والنخبة ويثير انتقاداتهم في نفس الوقت، ويتقبل قسم أوسع من الجمهور أفلامهم، فإن أفلام القسم الثاني لا ترضي لا النخبة ولا الجمهور السينمائي العام، أفلام غير موهوبة، مملة، لا فكر فيها ولا فن، أفلام لا يمكن الدفاع عنها بأي شكل إذ تتسبب في خلق حالة من الإحباط وفقدان الثقة في الوصول إلى حلول حقيقية لمعادلة الفن والتجارة، وإلى زيادة الهوة بين السينما والجمهور العام.

كانت تلك الكلمات تدور في ذهني وأنا أستمع إلى حديث الفتيات الجالسات خلفي واللاتي ضجرن من 45 دقيقة فقط. وأخذت أتساءل كما تساءل مدانات: إذا كانت مثل تلك الأفلام هي المساحة الوحيدة الباقية على هامش السينما التجارية التي تتسابق في نسخ السينما الأمريكية، فكيف للنقاد أن يدافعوا عنها بوصفها الملاذ الأخير للخروج من تلك الأزمة المزمنة؟ وكيف للجمهور أن يتقبلها في الوقت الذي صار بإمكانه الوصول إلى غيرها من المنتج الأجنبي الأكثر إتقانًا واحترامًا لعقله؟

المعضلة الأبرز في أزمة السينما المصرية تكمن في رؤية صناعها إلى الشق التجاري، ففي حين اختار البعض الشكل التقليدي الآمن الذي يصر على نسخ سينما هوليوود من أجل ضمان دوران عجلة الإنتاج، فإن الفريق الثالث -كما وصفه مدانات- والذي لا يملك الموارد الكافية، لا يملك أيضًا رؤية بديلة تكفل له الاستمرار. فهو ينأى بنفسه عن نهج السينما التجارية ولكنه لا يقدم بديلاً مقبولاً من الجمهور، لا على مستوى القيمة الفنية ولا المعرفية، فنرى مثلاً في فيلم لما بنتولد الذي يقدم المطرب الشاب أمير عيد للمرة الأولى سينمائيًا، وهو الذي يمتلك قاعدة جماهيرية ليست بالقليلة، وهو الاختيار الذي اعتمد على الشق التجاري دون الفني أملاً في أن يجتذب المطرب الشهير عددًا أكبر من المشاهدين. غير أن التجربة باءت بفشل ذريع، فأمير عيد يفتقد لأبسط أمارات الموهبة واكتسى أداؤه التمثيلي بالركاكة والسطحية، وهو ما انعكس بشكل جلي في إيرادات الفيلم التي لم تتخطّ نصف المليون جنيه.

الأمر نفسه تكرر في فيلم صندوق الدنيا الذي يضم مجموعة كبيرة من الممثلين من بينهم خالد الصاوي، ورانيا يوسف، وباسم سمرة والذين يملكون قاعدة جماهيرية لا بأس بها، ولكنه لا يزال يجاهد في أسبوع عرضه الثاني من أجل الحفاظ على 20 قاعة عرض فقط، يتضاءل فيها الحضور يومًا بعد يوم.

وبين هذا وذاك، يظل المشاهد المصري حائرًا بين أعمال تجارية تنسخ العديد من الأعمال الشهيرة التي سبق له مشاهدتها، وأعمال تظهر بمظهر الجادة لا يجد فيها سوى الضجر والملل، تفتقر لأبسط أمارات الموهبة، ولا تقدم سوى كليشيهات تعج بها الكثير من الأعمال المصرية على مدار تاريخها الطويل، وتؤكد على استمرار صلاحية بيان جماعة السينما الجديدة لوصف أزمة السينما المصرية بعد 5 عقود كاملة تواصل فيها السينما المصرية السقوط في منحدر لا تبدو له نهاية.

المراجع
  1. السينما في الوطن العربي، جان الكسان، سلسلة عالم المعرفة، العدد 51، يناير 1978، ص 63