في عام 1976 نشرت مجلة كراسات الطريق Cahiers Du Chemin مجموعة خواطر كتبها الروائي الفرنسي جورج بيريك بعنوان «أتذكر»، تبدأ كل خاطرة بكلمة أتذكر ويتبعها ذكرى غائمة ما، وصف بيريك تلك المجموعة من الذكريات التي جمعها بين عام 1973 وعام 1977 بأنها محاولات مباشرة لنفض الغبار عن ذكرى تكاد تكون منسية، غير جوهرية، تافهة، شائعة، إن ليس للجميع على الأقل للكثيرين، انتمت تلك الذكريات للفترة التي عاشها بيريك بين عمر العاشرة وعمر الخامسة والعشرين، حيث استدعى ذكرياته من فترة ما قبل الحرب، لأنها ترمز إليه في فترة تنتمي لعوالم من الأسطورة، مما يفسر كيف يمكن للذكرى أن تكون مزيفة بشكل موضوعي.

«أتذكر» Amarcord هو أيضًا عنوان فيلم فيديريكو فيليني الشهير الصادر عام 1973، يقع الفيلم في عوالم من الأسطورة بين الذكريات والخيال، يستقي فيليني أتذكر من ذكرياته الخاصة، مما اختبره حينما كان مراهقًا، من ذكرياته التي مضى عليها الكثير من الوقت حتى أصبحت أشبه بالأحلام ومثل تذكارات بيريك فإن تذكارات فيليني متناثرة ولا تصنع وحدة مركزية يمكن بناء قصة سينمائية عليها بل تعتمد على مبدأ بسيط وهو استدعاء شعور ما، كيف شعر بالشتاء في ذلك التاريخ أثناء الحكم الفاشي في إيطاليا في تلك البلدة الصغيرة تحديدًا وذلك العمر تحديدًا.

فيلم Amarcord 1973
مشهد من فيلم Amarcord 1973

فعل التذكر هو واحد من أهم الأدوات لدى الأدباء والسينمائيين، لكن السينما أخذت التذكر إلى المكان الذي يفترض به أن يكونه، عالم الأحلام، ولا يوجد من فعل ذلك أفضل وأوضح من فيديريكو فيليني، لكن السينمائيين لم يتوقفوا عن التذكر قط، فكل عدة أعوام نشهد فيلمًا ما عن طفولة مخرج معين، أو عن ذكرياته في بلدته القديمة أو كيف نشأ في مجتمع شديد الخصوصية، ويمكن تصنيف تلك الأفلام إلى نوعين، أفلام تحكي قصص النضوج لمراهقين أو أطفال أو أفلام تحكي سيرة المخرج وكيف أصبح مخرجًا، كيف أنقذت السينما حياته أو كيف أصبحت مخرجًا لخيالاته وتصوراته عن نفسه وعن العالم، وكلا النوعين يستقي من النموذج الأشهر والأكثر وضوحًا: سينما فيليني، ففي نوع التداعي الحر لذكريات الطفولة والمراهقة يوجد Amarcord وفيما يخص السير الذاتية الشخصية عن السينما فإن فيلمه الأشهر 8 ونصف هو النسخة الأصلية لكل ما قدم بعده.

تميز عام 2021 سينمائيًا بعدة تجارب «للتذكر» منها فيلم الإيطالي باولو سورينتينو أحد أكثر المخرجين تأثرًا بفيليني ابن بلدته «يد الله The Hand of God» وفيلم المخرج الأيرلندي كينيث براناه الذي يحكي طفولته في بلفاست بعنوان «Belfast» والجزء الثاني من المذكرة السينمائية الرقيقة التي بدأتها المخرجة الإنجليزية جوانا هوج عام 2019 بعنوان التذكار «The Souvenir»، والذي تحاول فيه تذكر جروح الماضي ورتقها عن طريق السينما، فكيف يمكن تقييم تلك الأعمال بالنظر إلى تأثيراتها السينمائية المتعددة بفيليني أو بغيره وفي ظل معرفة مدى ذاتيتها وشخصيتها بالنسبة لصانعيها؟

يد الله: كيف لا تصبح فيليني

حاولت أن أكون أحرص ما يمكن، ألا أصنع فيلمًا يشبه Amarcord.

وصل باولو سورينتينو إلى ذروة الشهرة والتقدير عندما حاز فيلمه الجمال العظيم The Great Beauty على جائزة أفضل فيلم أجنبي من لجنة الأوسكار، يملك سورينتينو أسلوبًا تكثيريًا صاخبًا، مزدحمًا بالشخصيات والألوان والألاعيب السينمائية، استقى ذلك من فيليني بالطبع لكنه أضفى طابعه الخاص وأصبح من الممكن تمييز أسلوبه، في فيلمه الأخير يد الله يبتعد تمامًا عن الصخب ويقايضه بفيلم صغير حميمي، فيه يتذكر نفسه مراهقًا، لكنه لا يصنع فيلمًا متماسكًا ذا قصة صلبة ولا يصنع أيضًا فيلمًا متناثرًا مثل النموذج المحتذى في Amarcord، لكنه يأخذ طريقًا بين الاثنين، يقول سورينتينو في حوار مع مجلة The Film Stage إنه حاول جاهدًا ألا يصنع فيلمًا يشبه Amarcord، أو أن يقلد صانع الأفلام الأكثر ارتباطًا باسمه، لكنه أيضًا واعٍ بأنه ربما لم ينجح في ذلك، يحيي سورينتينو فيلليني بظهور حقيقي له، في حدث مر في حياته فعلاً وهو قدوم المخرج الإيطالي الأشهر للبلدة لإجراء تجارب أداء لفيلمه واشتراك الأخ الأكبر لسورينتينو بها، كما توجد بعض الاستدعاءات العابرة فكلا الفيلمين يملكان حضورًا دينيًا واضحًا، تحديدًا للرهبان صغار الحجم القادرين على صنع المعجزات.

فيليبو سكوتي في The Hand of God 2021
فيليبو سكوتي في The Hand of God 2021

نمضي مع فابييتو (فيليبو سكوتي) الأنا المستعارة لسورينتينو فترة بداية مراهقته، صحوته الجنسية، هوسه بكرة القدم، اختباره للفقد -أكبر قدر من الفقد- وبالطبع حبه الهائل للسينما، في يد الله تعطي السينما فابييتو سببًا للعيش وسببًا للرحيل، يقع الفيلم في نابولي، يصور غرائبها وسكانها، مناظرها الطبيعية وبيوتها وحدائقها، شمسها الدافئة وتألق مياهها، فهو فيلم عن المدينة وكيف كانت في لحظة معينة من الزمن، لحظة عامة مثل وصول مارادونا للعب في فريقها، أو لحظة خاصة مثل غداء عائلي في الهواء الطلق، لكنه أيضًا فيلم عن الرحيل، عن ترك الماضي والمضي قدمًا، عن الهرب من الطفولة نحو الحياة الحقيقية، لسبب ما تأخذ كثير من الأفلام الذاتية الرحيل كتيمة رئيسية لها، التوق لمستقبل مختلف أو فعل الاقتلاع من الجذر، يمكن رؤية ذلك في إسكندرية ليه ليوسف شاهين لأسباب مشابهة لأسباب فابييتو لكنها أكثر تعقيدًا نظرًا لاختلاف الزمن والمنطقة التي تحوي الأحداث، يترك يحيى إسكندرية آملاً في أن تنقذ السينما حياته، وفي فيلم آخر صادر في 2021 يتم استدعاء الرحيل لأسباب مختلفة، لكن هذه المرة ليس رحيلاً منفردًا لمراهق متمرد إنما لأسرة كاملة تترك بلفاست آملة في حياة أفضل.

بلفاست Belfast: الحياة في أعين الصغار

لن يكون فيليني هو الاسم الأول الذي يتم استدعاؤه عند مشاهدة فيلم بلفاست للمخرج كينيث براناه، إنما مخرج أكثر معاصرة لكنه ليس أقل تأثيرًا وهو المكسيكي ألفونسو كوارون وخاصة تحفته المعاصرة روما Roma 2018، وهو الفيلم الذي يدفع التذكر أحداثه كذلك لكنه يأخذ اتجاهًا مختلفًا عن معظم من انتهجوا ذلك النهج، وهو أن كوارون محور الفيلم حول شخصية نسائية عايشها في طفولته وجعل الفيلم مزيجًا بين الخواطر والذكريات وبين خط قصصي نسوي عن عاملة في منزله بينما هو كطفل يختفي في الخلفية يصعب حتى تحديد من هو وسط شخصيات الفيلم، لكن دقته وحرصه على نقل تفاصيل الفترة التي عاشها كطفل في بلدة مكسيكية صغيرة هو ما يجعل الفيلم إضافة أخرى لعالم الأفلام الذاتية.

يستدعي براناه روما بصريًا باختياره الأبيض والأسود شديد التباين والوضوح لتصوير فيلمه، لكنه لم يعتمد على ذكريات متفرقة أو استدعاءات حلمية لتصوير ما يدور في عقله، بل صنع قصة صغيرة محكمة ذات بناء تقليدي، يحكي بلفاست قصة أسرة في ستينيات أيرلندا من وجهة نظر بادي (جود هيل) ذي التسعة أعوام، وسط توتر شديد وأعمال عنف من طائفة دينية ضد أخرى، لا تجد أسرة بادي أي نوع من الاستقرار لكن ذلك لا ينقص من حبه لبلدته، يريد أن يثير إعجاب الفتاة الجميلة في الصف وأن يلعب في شوارعها حيث يعلم الجميع اسمه وأن يذهب لمشاهدة الأفلام والمسرحيات حيث تتسع عيناه على أقصاهما وكأنما يختبر السحر.

جود هيل في Belfast 2021
جود هيل في Belfast 2021

يجعل اختيار براناه أن يكون فيلمه نابعًا من وجهة نظر طفل النتيجة النهائية عرضة لأن توصف بالسطحية أو التخفيف من حدة واقع لم يكن بذلك البساطة، فهنالك خلاف طائفي معقد يلخصه الفيلم في عنصرين بالأبيض والأسود تمامًا مثل صورته، حتى عندما نرى الخلاف من وجهة نظر الكبار، لكن براناه يختار أن يكون فيلمه مرحًا ومؤثرًا وكأنه نسخة مصغرة من العالم كما رآه هو عندما كان في عمر بادي، هناك أخيار وأشرار وهنالك سبب حتمي لمغادرة البلدة، فيصبح الفيلم كله مقدمة للرحيل، بضرورته وقسوته الشديدة وارتباطه بفقدان البراءة، لكن بادي لم يختر الرحيل، لكن على الأقل نعلم أنه مثل الأبطال الآخرين يملك ملاذًا في عوالم صغيرة يمكن الهروب إليها، ففي بلفاست تظهر الألوان فقط في قاعات السينما، وعلى خشبات المسارح، في مجاز مباشر لقدرة الفن على إيجاد الأمل.

التذكار The Souvenir Part II: رتق الجروح بكشفها

يختلف فيلم التذكار عن الفيلمين الآخرين في قائمة المذكرات السينمائية لعام 2021 بكونه بعيدًا عن مرحلة الطفولة والمراهقة، بدأت جوانا هوج تذكارها حينما كانت جولي (أونر سوينتون) بطلتها في مدرسة السينما، في الجزء الأول اختبرت الحب والفقد والتعرض للإساءة، لكنها وجدت شغفها، عرفت أنها تحتاج لدراسة الأفلام، أظهرت اهتمامًا بالتجريب والتلاعب بالوسيط، في الجزء الثاني تحاول جولي علاج الصدمة ونصبح أمام فيلم يتناول فيلمًا آخر، في التذكار الجزء الثاني تصنع جولي فيلمًا عن حياتها كمشروع تخرج من مدرسة السينما لكنها في واقع الأمر تصنع فيلمًا عن التذكار الجزء الأول وفوق كل ذلك فإن جوانا هوج تصنع فيلمًا عن صناعة فيلم عن مأساتها الخاصة، يبدو ذلك وصفًا معقدًا لكن في حقيقة الأمر التذكار بجزئيه لا يستخدم أي حيل معقدة أو سردًا غير خطي بل يختار أبسط الطرق في حكي قصته وهذا ما يجعله يصل بأبسط الطرق إلى القلوب.

مشهد من The Souvenir Part II 2021
مشهد من The Souvenir Part II 2021

يقع التذكار في الفئة الثانية من أفلام التذكر، في الفئة التي تقترب من فيلم 8 ونصف فهي أفلام تضعنا في مقعد المخرج، نرى ما يؤثر فيه وما يصنع خياراته السينمائية، على المستوى التقني أو الحياتي، في تلك الأفلام نصبح أمام عقل باطن مفتوح ويختلط ما هو عملي مثل معدات التصوير وصناعة الأفلام بما هو عاطفي مثل محاولات تخطي الفقد أو استيعاب الماضي والتعامل معه، في التذكار تمضي جولي مدة الفيلم القصيرة في محاولة التخطي ثم محاولة رتق جرحها عن طريق كشفه تمامًا أمام الآخرين، تتحول تفاصيل حياتها إلى مادة يمكن تصويرها وتمثيلها بل ويمكن للممثلين إضافة أبعاد أخرى لها، فهنالك جولي تمثل نسختها من جوانا هوج وتوجد الممثلة التي تختارها جولي لتمثل نسخة عنها، إنها عملية غاية في الشاعرية ويضيف إلى رقتها خيارات هوج البصرية البسيطة لكن المؤثرة.

اختارت هوج تصوير الفيلم على خام 16 مللي مثل الذي استخدمته في صناعة الأفلام في الثمانينيات، مما يجعل فيلمها وكأنه جزء من زمن آخر فحتى التقنية المستخدمة في صناعته تنتمي للذكريات، على عكس مثلًا الخيار الذي انتهجه كينيث براناه بتصوير بلفاست بصورة رقمية منمقة للغاية على نهج ما فعله كوارون في روما، وهو اختيار نزع الألوان عن الصورة كأنه يرى ذكرياته بدونها، لكن في الوقت نفسه استخدام معدات حديثة، فيصبح الفيلم وكأن شخصه الحالي انتقل إلى المساحة التي حدثت بها الذكريات لكن بمعداته الحالية، لكن ما يجعل اختيار هوج متناسقًا مع فيلمها هو نعومة الصورة الصادرة عن الفيلم الذي اختارت التصوير به، لا توجد تباينات حادة أو حركات كاميرا استعراضية، أضاف ذلك حميمية وخصوصية على الأفراد الذين يعيشون القصة وكأنهم يعيشون في ذكرى باهتة يحاول أحدهم جاهدًا أن يسترجعها.

حفل عام 2021 بتجارب سينمائية متعددة منها أفلام ضخمة حققت أرقامًا قياسية وأفلام أخرى صغيرة شاهدناها من دفء منازلنا، لكن تلك التجارب الحميمية يمكن اعتبارها هدنة وفرصة للتوقف والتذكر في عالم شديد التسارع، فهي مرآة تكشف عوالم صانعيها وتضعنا داخل عقولهم لساعات قليلة وتساعدنا نحن كذلك على التذكر والتفكير في حياتنا كعوالم من الأساطير والقصص التي ربما تكون أو لا تكون حقيقية.