وتراجعوا في خوف أول الأمر، وأسموني الخطيئة ورأوني آية نذير، ولكنهم حين اعتادوا علي رقت لهم، وفاضت مفاتني الخلابة فأحبني أشد من عاداني، لا سيما أنت، إذ كثيرًا ما رأيت ذاتك في ذاتي، وصورتك في صورتي فتولهت بي، ونشدت متعة معي في الخفاء.
جون ملتون – «الفردوس المفقود»

ربما مدار اقتباس ميلتون السابق في ملحمته الشعرية «الفردوس المفقود»هو ما يمكن أن نسميه: «غواية الشر». فعلاقة الشر بمن يمارسه لطالما كانت علاقة إغواء، علاقة تكاد تكون إيروسية (نسبة إلى إيروس إله الحب والرغبة والجنس في الميثولوجيا اليونانية) في طبيعتها، والصور الأيقونية للشيطان كمسخ مخيف هي دينية في الأساس لزجر أطفال الرب عن طريق الشيطان. صور ساذجة وطفولية لا تصمد أمام تاريخ الشر في هذا العالم. لطالما كان الشر فاتنًا وجميلاً، وإلا لماذا كلما لامسنا سماء سقطنا مرة أخرى؟كل هذه الفراديس المفقودة برهان فتنة الشر وغوايته.

مثلت أدوار الشر في السينما والتليفزيون دومًا إغواء للممثل والمشاهد وللمؤلف قبلهما. هذه الأدوار/الشخصيات هي بمثابة مسارات آمنة للتعبير عما هو مكبوت بداخلك من رغبات مظلمة، رغبات لامستنا جميعًا من قبل في مواضع خفية في الروح. ربما أيضًا هي نوع من التطهر. وبالنسبة للممثل بالذات شكلت هذه الشخصيات المسكونة بالظلال والأشباح اختبارًا لقدرته على التعبير والأداء.

يبدو أن الشياطين المصفدة في رمضان تجد دائمًا مهربًا إلى شاشة الدراما التليفزيونية،شياطين على كل لون وصورة. من بينها نختار ثلاث شخصيات تمثل الشر، وجدنا في رسمها لمسة مختلفة على مستوى الكتابة والأداء.


سمير العبد —أبو عمر المصري

أكل العيش وحده مع أكلة لحوم البشر، والقفص الحديدي مغلق، ومن بين أنيابهم عليه أن ينتزع لقمة عيشه. فالغابة ليس فيها إلا المخوف والخائف، ذلك هو القانون الأعظم، ليس قانون الغابة فقط، إنما قانون الحياة والأحياء.
يوسف إدريس – «أنا سلطان قانون الوجود»

في مسلسل «أبو عمر المصري»المأخوذ عن روايتين للكاتب «عز الدين شكري فشير» هما؛ «مقتل فخر الدين»، و«أبو عمر المصري»،وسيناريو وحوار «مريم ناعوم»، و«محمد المصري». يجسد «فتحي عبد الوهاب» -بأداء بديع- شخصية سمير العبد. وهو ليس مجرد رجل أعمال فاسد طفا على سطح العالم بعد فترة الانفتاح في عهد السادات، بل صاحب فلسفة تصطبغ كلماته بداروينية متطرفة عن البقاء للأقوى وجوهرية الصراع من أجل هذا البقاء،مثلما يوجزها لمحاميه فخر الدين (أحمد عز):

فخر مثالي وحالم، مباشر كرصاصة، وعارٍ كالحقيقة، لا يعرف من الألوان غير الأبيض والأسود بينما يعيش هو بين الظلال ملتويًا كأفعوان، يغلف طبيعته النهمة وحيوانيته المفترسة بجلد ناعم أملس. فتحي عبد الوهاب يفهم جيدًا طبيعة الشخصية التي يؤديها، صوته يكاد يكون مسموعًا، كلمات ناعمة لكنها كالمخالب، وضحكات هيستيرية حين يجد أن كلماته أخطأت هدفها. لغة جسده تعكس توتر الداخل رغم ثبات مظهره، في أعماقه زئير حيوان جائع يجاهد لإخراسه.

في حوار قديم مع الممثل فتحي عبد الوهابيسأله المحاور عن الشخصية التي يحلم بأدائها وتكون إجابته: «هانيبال ليكتر»، قاتل متسلسل وآكل للحوم البشر، خاصة الدور الذي أداه «أنتوني هوبكنز»في فيلم «صمت الحملان». تذكرت الحوار القديم وأنا أشاهد سمير العبد يمضغ قطعة من اللحم النيئ والذي يقوم بإعداده للشواء أمام محاميه فخر. ربما سمير العبد هو أقرب الشخصيات لحلم فتحي القديم.


أسامة —الرحلة

بعد أدائه الممدوح ونجاحه المستحق العام الماضي لدوره في مسلسل «30 يوم»،يعود «باسل خياط» هذا العام في مسلسل من تأليف «نور شيشكلي»، و«عمرو الدالي»، و«أحمد وائل»،ومن إخراج «حسام علي»نفس مخرج مسلسله السابق. يبدو أن هذه الشخصيات هي التي باتت تستهوي باسل هذه الأيام، شخصيات ذات أبعاد نفسية واضحة ودواخل مظلمة،شخصيات مسكونة بأشباح الماضي.

يعتمد مسلسل «الرحلة»حبكة تعتمد على الإثارة والتشويق عبر علاقات متشابكة، علاقات مهددة ومحكومة بالبارانويا (جنون الشك). يبدو أسامة هو التجلي الأكبر لهذه البارانويا. شخصية تجمع بين الطفولية وغرابة الأطوار. يبدو الخط الدرامي الذي يجمع بين أسامةوزوجته رانيا (ريهام عبد الغفور) وابنتهما، قريبًا من الفيلم الأمريكي «Room» للمخرج ليني أبراهامسون. ينجح باسل لحد بعيد في تجسيد هذه الغرابة عبر طريقة معينة في السير، حركات عصبية، وطريقته في نطق الكلمات وتكرار بعض الجمل.

يعود النص إلى طفولته لتوضيح سر هذه الغرابة وهذه البارانويا التي تجعله يعزل زوجته وابنته عن العالم الخارجي محولاً منزل الزوجية إلى سجن حقيقي لا مجازي. في مشهد مستعاد من زمن طفولته نكتشف أن الأم تهرب مع رجل آخر تاركة ابنها وحيدًا، خيانة الأم تزرع الشك في قلبه تجاه كل النساء، تجعله يرى العالم والآخر دائمًا كمصدر خطر وتهديد.

هذا هو معنى الحب المشوه لديه؛ أن يحمي من يحب من خطر العالم، حب استحواذي ومجنون وهي رغبة مؤجلة من زمن الطفولة فهي تعبر في الأساس عن شعور جارف بالذنب لأنه لم يستطع حماية أمه من خطر الغواية وخطر العالم، وهو ما يفعله مع زوجته وابنته. أيضًا رغبته في استعادة لحظات السعادة الأولى مع زوجته عبر طقوسية تقتضي إعادة المشهد كما كان، نفس الكلمات، نفس ثوب الزفاف، وطلاء الشفاه، هذا الهوس يكشف عن رغبته المهزومة في استعادة حياته الأولى مع الأم قبل خيانتها وهربها.


إسماعيل —ليالي أوجيني

كل الناس، كلنا حيوانات، كلنا بنتصارع عشان نعيش. هو دا قانون الطبيعة وهي دي القضية يا فخر.

إسماعيل شرير «ليالي أوجيني»، مشاهد قليلة وحضور طاغٍ لخالد كمال. رغم غيابه نهاية الحلقة الأولى إلا أن ظله المخيف لا يزال ممدودًا على بقية الحلقات. نرى ظله قبل أن نراه في فزع زوجته (كاريمان/أمينة خليل)، في آثار أصابعه المحفورة في جسدها المرضوض. تبدو مثل حكاية فلكلورية عن الفتاة الجميلة والبريئة التي سقطت في قبضة الرعب،حب مجنون يزيده الشك شراسة وتسلطًا.

يجد في تمنعها عنه دليل خيانة فيستفحل شكه وينزلق نحو مصيره المشؤوم. اختيار خالد كمالللدور جاء موفقًا للغاية بهيكله الفارع، والصرامة التي تكسو وجهه. كما أن ملامحه مناسبة للزمن الذي تدور فيه أحداث المسلسل وهي تفصيلة هامة يغفلها معظم مخرجي الأعمال التي تدور في حقبات زمنية قديمة؛ مما يقلل من صدق وواقعية هذه الشخصيات حيث تبدو مزروعة في سياق غريب إذا كانت ملامحها تجافي زمن العمل.

يحلق «ليالي أوجيني»منفردًا بعيدًا عن مسلسلات الأكشنوالإثارة والتي تشكل القاسم المشترك في أعمال هذا الموسم الرمضاني،وهو من تأليف «إنجي القاسم»، و«سماء عبد الخالق»، وإخراج «هاني خليفة».ويرصد العمل الحياة الاجتماعية والعاطفية لشخصيات من جنسيات وخلفيات مختلفة في مدينة بورسعيد أربعينات القرن الماضي،عمل نعول عليه كثيرًا هذا الموسم.