اعتاد الأدباء والروائيون على قص الحكايات التي تتناول الأبطال في عصور ذروتهم وفي قمة كمالهم وبطولتهم. فمرحلة ذروة تحقيق المجد تلك تكون غالبًا موطِنًا لصراع البطل ضد غريمه، وينشأ عن احتداد هذا الصراع دراما أخَّاذة. ولكن مع تقادم التيمات المعتادة، ظهرتْ تيمات وشخصيات أخرى غير معتادة تجذبنا أكثر من مثيلاتها التقليدية. 

«بطل ما بعد الذروة» يُعد خير مثال على ذلك؛ فهو نوع البطل الذي يختار المؤلف أن يصوِر لنا حياته ويحكي صراعاته بعد انقضاء فترة ذروة بطولته ومجده. 

ولكن لماذا تُعَد هذه التيمة أو النوعية من الأبطال جذَّابة لدرجة أنها تحولتْ إلى ظاهرة أدبية منتشرة في العديد من القصص، سواء المقروءة على صفحات الكتب أو القصص المصورة أو حتى شاشات السينما؟ ما الذي يسحرنا في «بطل ما بعد الذروة» للدرجة التي تجعلنا في أحيانٍ كثيرة نُفَضِّله على حساب البطل التقليدي؟ 

فهذا «جون ويك» الذي يسعى جاهدًا للانتقام من أجل كلبه الذي قُتِل أمام عينيه ليعود طالبًا الانتقام ممن سلبوه فرصته الوحيدة لرثاء زوجته المتوفاة غير وحيد بصحبة هذا الجرو الصغير.. هنا يُضطر «جون ويك» للعودة لحياته القديمة بعد خمس سنوات ابتعد فيها عن كونه قاتلًا مأجورًا، لكي نرى قصته كاملة على مدى أربعة فصول تقع كلها في منطقة ما بعد الذروة من تاريخ حياته!

وهذا كارمي من مسلسل «The Bear» تبدأ قصته كما نراها وهو يعيد افتتاح مطعم أخيه المتوفى بمنطقة متوسطة في أحد أحياء شيكاجو ليُخلِّد ذكراه. ولكننا نعرف مع بدء المسلسل أن «كارمي» كان الطباخ الأفضل في أهم مطاعم مدينة نيويورك، فلمَ ترك حقبة ذروته متعمدًا وراء ظهره؟  

ويأتي «جايمي لانستر» حاملًا سيفه بيده اليسرى مع أنه أيمن .. فقط لأن بعض المشردين قاموا ببتر يده اليمنى ليتحول إلى مقاتل مستواه تحت المتوسط بعد أن كان السيَّاف الأمهَر في «ويستروس». 

هنا يبزغ في الأذهان سؤال منطقي، ألا وهو: ما الذي يجذبنا لمتابعة هذه الشخصيات؟

حسنًا، هذا سؤال أحب أن أجيبك عنه من خلال فقرات هذا المقال.

السبب الأول: الغموض

عندما نرى أول المشاهد التي يظهر فيها بطل ما بعد الذروة ونرى حياته العادية التي تكاد تخلو من أي صراع أو حبكة تدعو للإثارة، يتبادر لذهننا تساؤل منطقي: لماذا اختار الكاتب أن يكون هذا الشخص بطل قصته؟ إنه شخص عادي! 

إلى أن يحدث ما يسمى في فن كتابة السيناريو «The Inciting Incident»، وهو أول حدث درامي يقطع روتين البطل ويبدأ صراعه، وهنا نكتشف أن بطل ما بعد الذروة لم يكن على هذه الشاكلة قديمًا. 

فها هنا «جون ويك» يهبط على درج القبو الشهير لشقته الفاخرة في حين يتردد صوت «فيجو» في الخلفية: 

هذا من تدعوه نكِرة هو جون ويك.
كُنا نطلق عليه مسمى «بابا ياجا – البعبع». 
ولكنه لم يكُن البعبع .. بل كان نوعية القاتل المحترف الذي ترسله لكي يقتل من أجلك البعبع. 
جون ويك هو رجل ذو تركيز عالٍ، والتزام غير محدود، وهمة

هنا تبدأ عزيزي المشاهد تشعر بحماسة قوية وتجلس على طرف كرسيك في صالة السينما؛ لأن هذه الشخصية فعلتْ فعلتها وقامتْ بجذب اهتمامك بفعل تعويذة عنوانها الغموض، وغالبًا ما تُخلَق هذه الهالة من الغموض حول الشخصية عن طريق معرفة كيف كان بطلنا في زمن ذروته، من خلال سماع ذلك على لسان إحدى الشخصيات، ثم تغذية هذه العملية برؤية نبذة خاطفة عن قدراته الاستثنائية.

السبب الثاني: محاولة تأقلم بطلنا مع بيئة «ما بعد الذروة» 

من أكثر التيمات التي تُحدِث أثرًا دراميًّا قويًّا وتخلق عددًا لا حصر له من الصراعات التي تضفي عمقًا ومعنًى على أي شخصية درامية هي وضعها في بيئة لا تقدِر على التواؤم معها بشكٍل كامل.

بطل ما بعد الذروة غالبًا ما يكون قد اختبر في مرحلة الذروة ما يفوق قدرات أي شخصية أخرى؛ لأنه غالبًا ما يكون متميزًا وسط أقرانه.

فكارمي من مسلسل «The Bear» كان الطباخ الأمهر بين ثُلة من أمهر طباخي مدينة نيويورك. بل فاقتْ موهبته الجميع لكي يجد نفسه حرفيًّا على القمة التي تمنى الوصول إليها في مشواره المهني. 

عندما نجده يقف في مطبخ مطعم أخيه المتوفى القذر، والذي يملأ أدواته الصدأ، في ضاحية متواضعة بمدينة شيكاجو، نوقِن من النظرة الأولى أن هذا الشاب الطموح لا ينتمي إلى هذا المكان المتواضع. 

يقابل كارمي صراعات شتى مع طاقم عمل المطعم الذين اعتادوا على أخيه الأكبر قائدًا لهم ويبذل الجهد غير القليل لكي يحوز على احترامهم جميعًا، حتى يتسنى له البدء بقيادتهم والعمل على تحسين قدراتهم في الطبخ وتقديم الطعام. 

هذه التيمة الملازمة لكل بطل ذروة وهي نزعه من بيئته التي تفوق فيها، ووضعه في بيئة محيطة أخرى غير صالحة أو متوافقة مع قدراته، تجعل من صراع بطل ما بعد الذروة صراعًا شيقًا يستحق المتابعة وتقفي أثر أين ستتجه بنا هذه التيمة الدرامية، وأي صراعاٍت وروابط درامية ستخلقها بين شخصية بطل ما بعد الذروة والشخصيات الأخرى. 

السبب الثالث: ضرورة مواجهة بطل الذروة لذاته التي قرر الابتعاد عنها منذ أمد بعيد

يبدأ الموسم الأول لمسلسل «The Bear» بلقطة رمزية، حيث يقف كارمي بطل المسلسل على ما يشبه المعبر أو الجسر، ويبدأ في المشي رويدًا وبحذر للأمام، لنكتشف أن شيئًا غريبًا ينتظره في منتصف الجسر؛ دب أبيض ضخم يخور في صوت عالٍ وقد خرج للتو من قفصه.

نعرف بعد ذلك من سياق المسلسل أن كارمي كان ملقبًا بالدب «The Bear» بين عائلته ومعارفه القدامى، وهنا نسترجع محاولاته للتقرب من الدب الضخم على الجسر في هدوء للسيطرة عليه، وكأنه دون أن ينبس بكلمة يقول له أنا وأنت واحد .. نحن صديقان .. لسنا أعداء. 

يُبين هذا المشهد أنه بمجرد أن اتخذ قرار ترك نيويورك والعودة للضاحية التي وُلِد فيها لكي يدير شئون مطعم شقيقه المُتوفى، فقد حكم كارمي على نفسه بالعودة إلى ما هرب منه سابقًا؛ فنكتشف رويدًا ومع تطور الأحداث أن كارمي كان يشعر بعدم القبول من ناحية أخيه الذي لم يقبله كطباخ في مطعمه، ومن ثم قرر أن يتجه إلى مدينة الأضواء ويصبح الأفضل نكاية في أخيه.
إلا أن هذه الخطة تفقد كل معانيها بمجرد أن يموت الأخ الأكبر، ليكتشف كارمي أنه في الحقيقة لم يكُن يريد أن يثبت أنه الأمهر لأي شخص آخر سوى نفسه، ولم يكن يبحث عن شيء سوى القبول!
وهنا يقف بطل ما بعد الذروة أمام حقيقته التي اختار في حقبة ذروته أن يهرب ويبتعد عنها، ولهذه المفارقة وقع درامي على نفوس المشاهدين لا يخيب. 

السبب الرابع: حقبة ما بعد الذروة تُغيِّر هذه الشخصيات دراميًّا وتُعيد تشكيلهم تحت ضوء جديد

اسأل أي عاشق لمسلسل «Game of Thrones» عن حقيقة مشاعره نحو شخصية جايمي لانستر مع نهاية المواسم الأخيرة للمسلسل، وقارن هذه المشاعر بالكيفية التي كانوا يرونه بها في الموسم الأول؛ ستجد تغيُّرًا جذريًّا وكأن الأمور قُلبِتْ رأسًا على عقب. 

فكما ذكرنا آنفًا، لبطل ما بعد الذروة درجة من السحر الذي يتأتى من غموضه، ولكن لكي يشتد الصراع وتتعقد الحبكة، يتم الكشف عن ذلك الغموض تدريجيًّا وهذا ما يكشف عن الماضي الأليم لشخصيات هذه التيمة الدرامية، وهنا نبدأ في الشعور بالتعاطف نحوهم، بل نرى أجزاءً من أنفسنا فيهم. 

يكشف جايمي «لبريان أوف تارث» في لقطة ملحمية حقيقة أحداث قتله «الملك المجنون» من وجهة نظره ومن خلال منظور دوافعه النفسية بعد أن سمعنا هذه القصة مرارًا على لسان خصومه. 

وعندما يفقد «جايمي» قدرته على حمل السيف، يكتشف في نفسه قدرات عديدة أخرى أهم وأكثر إنسانية عندما يساعد أخاه الشقيق «تيريون» على الهروب من حكم ظالم صدر ضده، وينقذ بريان من براثن صعاب ومحن عديدة لأنه يرى فيها مقاتلًا حقيقيًّا، لها قدرة على أن تصنع خيرًا في عالم يسوده الجشع وتناحر الحكام والمقاتلين دون رحمة. 

أما «جون ويك» فيكتشف في ذاته أنه قادر على الحب وعلى أن يصبح هشًّا، وهو القاتل الذي لا يرحم ضحاياه؛ حتى إنه عندما يعود مضطرًّا للثأر ممن سلبوه فرصته الوحيدة للشعور بأنه غير مضطر لمواجهة الأسى الذي يصيب المرء عندما يفقد زوجته وحيدًا، يرزح تحت ثِقَل هذه الهشاشة وتقول له صراحة إحدى شخصيات الفيلم إنها لم ترَه قط بهذه الهشاشة، مما يصنع مفارقة بالمقارنة مع قوته ومهارته القتالية وانتقامه دون رحمة من أعدائه، وهنا نتساءل كمشاهدين: «إذا ما كنا نرى جون ويك بعد أن أصابته هذه الهشاشة وبعد مُضي حقبة ذروته، كيف كان إذن في سنين الذروة؟» 

في المجمل، نستطيع أن نجزم أن شخصيات «ما بعد الذروة» لها سحرها الخاص الذي يأسرنا وبشكل أو آخر نرى أجزاءً من أنفسنا في صفاتهم وبطولاتهم المنقوصة، مما يزيد تأثرنا بهم وتفهمنا لمشاعرهم حتى وإن رفضنا سلوكياتهم رفضًا تامًّا، وهذا ما يجعل هذه التيمة الأدبية جذابة في أعيننا ووجداننا.